الشريعة الجزائرية عاصمة البياض والتنوع البيئي

محمد سيدمو
حجم الخط
0

الجزائر ـ «القدس العربي»: من أعالي شمال وسط الجزائر، تُطلّ الحظيرة الوطنية للشريعة بجمالها الباذخ وتنوعها الفريد، لتمنح سكان المناطق المكتظة التي تحيط بها، جرعة باردة من الأكسجين النقي الذي لا ينضب صيفا أو شتاءً. وليست هذه المنطقة مجرد مزار سياحي، فهي مخبر بيولوجي في الهواء الطلق، تسكنه نباتات تُعمّر منذ مئات السنين وحيوانات نادرة وطيور تعتاش في المناطق الرطبة، ما جعلها تصنف في خانة المحميات الطبيعية الهشة التي تسعى البلاد للحفاظ عليها، كونها تمثل كنزا لا يعادله مقابل.

تمتد حظيرة الشريعة على مساحة هائلة، تقضم من سلسلة جبال الأطلس البليدي، ويتنوع محيطها بين الجبال والوديان والغابات الكثيفة، كما أنها تضم «بحيرة معلقة» على ارتفاع 1200 متر فوق سطح البحر، تعد أعجوبة بصرية في حد ذاتها. لا يكفّ الزائر لهذه الأمكنة من الانبهار بسحر المكان الذي حافظ قدر الإمكان على عذريته، إذ هنا تخف حركة البشر وحضورهم، عدا بعض المنازل القليلة المتناثرة هنا وهناك، لتفسح المجال أمام الطبيعة لتتنفس دون اختناق أو ضجيج. وقد ساهمت وعورة التضاريس وصعوبة الوصول إلى الشريعة، في إبقاء المكان بعيدا عن زحمة الناس، إلا في مواسم بعينها تجعله مغريا للزيارة، فلا ينفع حينئذ مع عشاق المكان حاجز طبيعي أو اصطناعي، في ثنيهم عن الوصول.
والحال أن فصل الشتاء، هو أكثر الأوقات تذكيرا بالشريعة، ذلك أنها تكتسي حلة بيضاء من الثلوج التي نادرا ما تسّاقط على المناطق المنخفضة في ولايات الجزائر العاصمة والبليدة وتيبازة المحيطة بهذه الجبال. لذلك، يجد نحو 7 ملايين ساكن يقطنون هذه المنطقة من شمال البلاد، متعة خاصة في زيارة الشريعة التي تعطيهم القدرة على التمتع بالثلوج وممارسة مختلف أنواع الرياضات مثل التزلج والمشي والتخييم بينما يجد الأطفال ضالتهم في تجريب ألعاب جديدة بالثلج لم يعتادوا عليها من قبل. لهذا، تكتظ المنطقة شتاءً، وليس ذلك دون عواقب على الطبيعة، فالكثيرون لا يحترمون التوصيات، ويتمادون في الإضرار بانبعاثات سياراتهم أو ضجيجهم المزعج للحيوانات أو ترك الفضلات البلاستيكية في المكان أو حتى اعتدائهم على الأشجار، لغاية التدفئة أو إعداد الشواء، على الرغم من اللافتات التي تمنع تماما هذه السلوكات.

عاصمة البياض

تعد بلدية الشريعة أهم مركز في الحظيرة الوطنية وهي تقع أعلى مدينة البليدة عاصمة سهل المتيجة، يمكن الوصول إليها عبر الطريق الوطني رقم 37 أو عبر المصعد الهوائي الذي عرف في السنوات الأخيرة الكثير من الأعطال التي جعلته غالبا خارج الخدمة.
تضم الشريعة غابات كثيفة من أشجار الأرز الأطلسي والبلوط والزان ونباتات نادرة تشكل ثروة حقيقية. وعند حلول فصل الشتاء، تكتسي هذه الأشجار ذات الحواف الهندسية، حلّة بيضاء تعطيها رونقا خاصا، وتجذب إليها زوارا من كل المناطق.
لا يوجد في بلدية الشريعة عمران كبير، عدا بعض السكنات القليلة التي تؤوي نحو 3 آلاف مقيم، وبعض الشاليهات الخشبية التي يعدها أصحابها للكراء لهواة التخييم في كل الفصول. كما أن بها مسجدا وبعض المحال البسيطة، وفندقا وحيدا مخصصا بالكامل لعمال شركة عمومية، ما يجعلها مزارا عابرا لا يمكن الإقامة فيه إلا لمن يملك إمكانية استئجار شاليه يصل في أوقات الذروة إلى مبالغ تفوق قدرة الجزائري البسيط. أما لممارسة الرياضة، فيوجد ناد للتزلج يقصده المحترفون والهواة للتدرب والاستمتاع بالثلوج التي أصبحت لا تعمر طويلا مع التغيرات المناخية في العالم.
ينتهز الباعة هذا الحضور القوي ليعرضوا على عرباتهم مختلف السلع المغرية للأطفال، مثل حلويات «لحية بابا» وبعض الألعاب الخاصة بالثلج. كما يقدم آخرون سندويشات ساخنة وأكواب شاي مع المكسرات، ويوفر البعض ألبسة دافئة وأغطية رأس تساعد على مقاومة البرد الشديد في هذه المنطقة والذي يصل إلى 5 إلى 10 درجات تحت الصفر في أوقات الذروة.

حمام ملوان العذبة

من اختار الذهاب إلى الشريعة من الجهة الشرقية، فهو حتما سيختار الطريق السريع الذي شيد لتسهيل الوصول إلى المدينة الجديدة بوينان، والذي عند نهايته تبدأ رحلة الصعود في المنعرجات الضيقة والوعرة، إلى حين الوصول إلى لافتة تُخيّرك بين مواصلة المسير أو النزول إلى مدينة حمام ملوان، والتي رغم أنها منطقة منخفضة إلا أنها تصنف ضمن حظيرة الشريعة، لأنها تتكامل في تضاريسها وغطائها النباتي مع كامل المنطقة.
عند مدخل حمام ملوان التي سميت كذلك لأن بها حماما معدنيا شهيرا يقصده الجزائريون من كل مكان، يصطف باعة من نوع خاص، يعرضون على الزائرين أجبانا وألبانا وخبزا شهيا ساخنا. تحضر هذه الأجبان، مثلما يقول شباب المنطقة، بالطريقة التقليدية المتوارثة أبا عن جد، ويتم تتبيلها بالزعيترة وهي أبرز النباتات العطرية بالمنطقة أو بالسانوج أو البقدونس وغيرها من الأذواق حسب رغبة الزبون. أما الخبز أو ما يسمى هنا بالمطلوع، يكون على شكل أقراص دائرية كبيرة، منه ما يطهى في أفران طينية يصنعها السكان بأيديهم ويوقدونها بالحطب، فيكون طعمه مميزا ومنه ما يحضر بالطريقة الحديثة. أما الأسعار فهي في المتناول، إذ تكفي 200 دينار وهو مبلغ زهيد ليضمن وجبة مليئة بالدسم والبروتينات الطبيعية من خيرات المنطقة.
كثير من الزائرين يمرون أولا على المدينة البسيطة بعمرانها العتيق، لابتياع حاجاتهم من الطعام التقليدي، ثم يعودون حيث الوادي الذي تشتهر به المدينة في مدخلها والذي تصطف العائلات على ضفافه لتستمتع بحركة المياه العذبة وهي تخترق سكون المكان، ولطائف النسمات المنبعثة من أعالي جبال الشريعة. يمثل هذا المكان ملاذا لمن يفضلون السباحة في المياه العذبة بدل الذهاب إلى البحر صيفا، فهو يصنع أجواء مختلفة تماما. وعلى بعد 5 كيلومترات، يقع امتداد آخر للوادي يصلح للتخييم في منطقة تسمى المقطع الأزرق، وهو مكان تلتصق فيه الغابة بالوادي، وتعيش فيه أنواع من الطيور مثل البط والحمام، وبه مساحة واسعة مهيأة بالطاولات الخشبية والكراسي لاستقبال الزوار.
أما المعلم الأبرز في المدينة، فهو لا شك الحمام الذي تحيط به أسرار ومعتقدات كثيرة يعتنقها سكان المنطقة الذين يؤمنون ببركة مياهه. ويروى في ذلك أسطورة تقول إن الداي حسين آخر حاكم للجزائر في فترة العثمانيين كانت له ابنة مريضة عجز الأطباء عن شفاءها فأشير عليه بأخذها إلى حمام سيدي سليمان، فما كان إلا أن شفيت من أول قطرة ماء سكبت عليها. ورغم أن هذه القصة تدخل في خانة الأساطير إلا أنها تجد صدى عند النسوة اللواتي لا يفوتن موسما إلا ويقصدن الحمام للتبرك وإبعاد الحسد والعين والمرض وغيرها من المعتقدات.

الضاية والحمدانية

على الجهة الغربية لحظيرة الشريعة، يقصد الزائرون في العادة، منطقة الحمدانية بأعالي الشفة والتي بات الوصول إليها ميسرا، بعد افتتاح الطريق السريع شمال جنوب، وهو في هذا المكان عبارة عن جسور معلقة متواصلة، تجعل منه معلما جديدا يزين تضاريس المنطقة. تُعرف الحمدانية بأنها منطقة غابية كثيفة، تنحدر منها شلالات على ارتفاع شاهق ويستوطنها نوع نادر من القردة التي تتناغم مع الزوار ولا تضيق بوجودهم.
في السنوات الأخيرة، افتتحت مطاعم في الحمدانية جعلت منها قبلة سياحية حقيقية للاستمتاع بالطبيعة ولتذوق الشواء الذي تخصصت فيه. وهكذا، يوفر المكان خيارات متعددة بين التنزه والتخييم والطعام، في أجواء طبيعية خلابة ينسجم فيها البشر مع الحيوان والنبات، حتى وإن كان المكان بشهادة زواره يحتاج عناية أكبر خاصة لحماية التنوع الطبيعي الموجود فيه وحمايته من التدفق الكبير للزوار، بعد أن صار الوصول إليه لا يتطلب سوى دقائق لسكان المناطق المجاورة.
أما المنطقة الأخرى التي لا بدّ من زيارتها، فهي بحيرة «الضاية» المعلقة والتي يؤكد المختصون في الجيولوجيا أنها من الأماكن النادرة في العالم، حيث يجتمع الارتفاع عن سطح البحر مع العمق الذي يسمح بتجمع المياه، وكل ذلك في محيط طبيعي خالص، تلفه الجبال والأشجار الكثيفة وتسكنه الطيور والحيوانات الأليفة والمتوحشة.
والضاية وفق تعريفها الجغرافي هي أعلى بحيرة على مستوى سطح البحر في الجزائر، تقع على ارتفاع 1170 مترا، بالجهة الغربية من الأطلس البليدي في الطريق بين بلديتي عين الرمانة وتمزقيدة، أي بين ولايتي المدية والبليدة، وتبعد حوالي 7 كم عن الحدود الإدارية بين ولايتي المدية وعين الدفلى (بلدية بومدفع) وهي تتبع إداريا ولاية المدية.
وتزخر منطقة تمزقيدة، حيث توجد البحيرة الشهيرة، بمناظر رائعة تعطي صورة واضحة للجزء الشمالي لسهل متيجة ووادي بورومي والشفة من الناحية الشرقية، ومدخل المدية جنوبا، وجزء من أعالي ولاية الشلف غربا، وهي رغم تضاريسها الصعبة باتت مقصدا للزوار بعد تعبيد الطريق الموصل إليها عبر منطقة موزاية غرب ولاية البليدة.
وهذه المحمية البيئية التابعة للحظيرة الوطنية للشريعة، والتي تمتد على مساحة هكتارين، محاطة بسلسلة غابية تحتوي على أنواع عديدة من النباتات كأشجار البلوط الأخضر، والبلوط الفليني، والاسفندان الريفي، والدردار، والخروب، والصنوبر الحلبي، والزيتون والتوت. وقد حوّل هذا التنوع النباتي المنطقة إلى مكان مفضل لمختلف أصناف الطيور مثل اللقلق الأبيض، والكروان، والبجع، وطيور الكركي، والبوم، والصقر، بالإضافة إلى العديد من أصناف الثدييات كالقرد ماغو، والأرانب، والثعلب، والحرباء والسلحفاة.

تنوع نباتي وحيواني هائل

تاريخيا، تأسست حظيرة الشريعة في 03 أيلول/سبتمبر 1925 بموجب مرسوم حكومي في فترة الاستعمار الفرنسي. وقد أنشأت الحظيرة آنذاك لتكون على مساحة 1351 هكتار حيث شملت مجمل غابة الأرز الأطلسي. وفي عهد الجزائر المستقلة، أعيد تأسيس الحظيرة بموجب المرسوم 458-83 الصادر بتاريخ 23 تموز/يوليو 1983 الذي يتعلق بقانون الحظائر في الجزائر، وأصبحت تمتد على مساحة 26587 هكتارا. وفي عام 2002 صنفت اليونسكو الحظيرة كمحمية طبيعية عالمية.
ولم تكن هذه القوانين والتصنيفات إلا للمحافظة على الحظيرة الشريعة بتنوعها البيولوجي الغني، حيث تضمّ مجموعة واسعة من النباتات والحيوانات التي تحتاج للحماية. من بين الأشجار، نجد الأرز الأطلسي الشامخ، والبلوط الأخضر، والبلوط الفليني، والصنوبر الحلبي، بالإضافة إلى أشجار الدفلة والميس. وتزخر الحظيرة أيضاً بالأعشاب العطرية مثل النعناع البري، والزعتر، وإكليل الجبل، والميرمية، بينما تُزين الزهور البرية، مثل الزنبق، والسوسن، وشقائق النعمان، أرجاءها.
وتحتل أشجار الأرز الأبرز في المنطقة، الأماكن الواقعة ما بين 1300 و1625 متر على مستوى سطح البحر وهي تقع في الطبقة المناخية الرطبة جدا وتغطي حوالي 1200 هكتار. أما وحدة البلوط فتغطي مساحة تصل إلى 10000 هكتار. أما غابة الفلين في موجودة في شكل باقات متفرقة على مساحات صغيرة تنتشر على المرتفعات للواجهة الشمالية لبلدية البرواقية بإقليم ولاية المدية. وتحتل وحدة الصنوبر الحلبي، مساحة 7000 هكتار. كما تنحصر غابة الزان في مواقع محدودة على مستوى المحطات الرطبة المتميزة بوجود السراخس العملاقة. أما الصنوبر الحلبي، فيحتل مساحة هامة ويمثل النهاية الشرقية لهذه الغابة.
وبالنسبة للحيوانات، تقول المراجع المختصة في دراسة الحظيرة، أن الشريعة تعد موطناً للقرد المغاربي، والخنزير البري، والضبع المخطط، وابن آوى، والثعلب. كما تبرز في فضائها أنواع مختلفة من الطيور، مثل النسر الملكي، والعقاب الذهبي، والصقر الشاهين، والحجل، والبلبل. وتُضفي الزواحف، مثل الحرباء، والسلحفاة اليونانية، والأفعى، والضب، تنوعاً إضافياً على الحياة البرية في الحظيرة. كما توجد البرمائيات، مثل الضفدع الأخضر والسلمندر، التي تُكمل هذا التنوع البيئي الفريد. وإجمالا، تحصي الحظيرة الوطنية للشريعة 564 نوعا بينها 55 حيوانا محميا، بينها 25 نوعا من الثدييات أهمها القرد المغاربي و121 نوعا من الطيور أهمها آكلات الجيف مثل النسر والعقاب، وهو ما يعادل 20 في المئة من الثروات الحيوانية الوطنية في الجزائر.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية