الشابة الزهوانية… نصف قرن من الغناء والجنون

حجم الخط
0

كانت حفلة في الهواء الطلق. في ميدان احتشد فيه ما لا يقل عن خمسة آلاف شخص. وتوالى على المسرح مغنون محليون. بعدما قاربت الساعة منتصف الليل، بدأ التعب يدب في أعين الحضور. بعض العائلات شرعت في الانصراف، قبل أن تظهر «الديفا» بثوبها الأبيض، وقد ظن البعض أنها لن تصل. فعاد المغادرون إلى أمكنتهم، وزاد المكان زحمة. بمجرد أن رفعت الميكروفون ارتفع صراخ وشرع الناس في مناداتها باسمها ويطلبون منها أغاني بعينها. ثم شرع الحاضرون في التماوج على أغانيها. ارتفعت حرارة المكان وتحول منتصف الليل إلى نهار. هذا ما تفعله الشابة الزهوانية، وقد بلغت الخامسة والستين من عمرها، لكنها تحتفظ بنضارة السنين الأولى. لم يتغير شيء في صوتها ولا ملمحها، سوى أن خصلات من شعرها خضبها الشيب. عدا ذلك لا تزال سيدة الإجماع. لا يظهر اسمها في أفيش حفل من غير أن يتوافد إليها المستمعون من كل فج عميق.
كيف استطاعت هذه السيدة أن تحافظ على شبابها في الغناء نصف قرن كامل؟ فمنذ أن صار لنا وعي وذاكرة، واسمها يتردد من حولنا. لا يمكن أن نحكي عن الموسيقى، في الجزائر، من غير ذكر اسمها. الشابة الزهوانية (أو حليمة مازي، اسمها الحقيقي) عاصرت تاريخ الجزائر منذ الاستقلال، بدل أن تفكر في منصب في السياسة، أو في موالاة، كسبت مقعدها في قلوب الناس. لا يختلف عليها اثنان. هناك من لا يحب سماع أغانيها، لكنه لا يطعن فيها. ليست من المغنيات اللواتي يبتذلن الحضور، قصد كسب المريدين، ليست من الباحثات عن الإثارة، فهي زاهدة عن بلاتوهات التلفزيون، ولا تستجيب بسهولة إلى الحفلات، لكنها عندما تصل إلى المكان، فإنها تبعث فيه حياة، وتصير البهجة حقاً مشاعاً.

من الحج إلى الحج

ظاهرة طرأت في عالم الغناء، في السنين الأخيرة. مغنيات يؤدين الحج ثم يعتزلن الغناء. وكثيرات منهن يفكرن في الاعتزال قبل أداء الحج. بات الأمر أقرب إلى شعبوية مبطنة، في ظل تنامي المشاعر الدينية بين الناس. وقصد كسب ودهم، يبادر المغني إلى إعلان «توبة» قبل الأوان، متوقعا أن يتعاطف معه المستمعون ويقبلون على سماع أغانيه، ظنا منهم أن المغني لن يطول به الحال ويغادر أستوديوهات التسجيل. لكن الشابة الزهوانية قلبت هذه المعادلة. ذهبت إلى الحج وعادت منه أكثر اصراراً على الغناء. لم تعتزل ولم تدع أحداً إلى الاعتزال (مثلما يفعل آخرون) فهي تمارس حقها بالغناء، ومن حق الناس الاستماع إليها كذلك. لم تسقط في بئر الشعبوية ولم تستغل الدين في استمالة الناس إليها. الحاجة الزهوانية أو الحاجة حليمة هي أول امرأة صالحت الدين والغناء في الجزائر. لم تكن صدامية ضد المتدينين ولم تسمح لهم بأن يخطو خطوة إلى حيزها بالموعظة، أو صب خطبهم في أذنيها. ظلت مقتنعة بما تفعل وتغني عن حاجة ورغبة، ولا ترى نفسها خارج الغناء. كم احتاجت الشابة الزهوانية من جنون كي تقاوم تعفن الوضع في بلدها؟ كي لا تصير ضحية نفسها. إن من تقيم نصف قرن في بيت الغناء، من غير أن تغادره يوماً واحد، على الرغم من التضييق والتهديد والوعيد، فلا بد أن تتحلى بالجنون والصبر والمقاومة، وهي خصائص اجتمعت في هذه المرأة. وباتت النساء الجزائريات ينظرن إلى أنفسهن في وجهها. لم تكن الشابة الزهوانية مجاهدة في حرب التحرير، فقد كان عمرها ثلاث سنوات عندما انتهت الحرب، لكنها صارت مقاومة عقب الاستقلال. في مقاومة المنع والرقابة وفي تحرير ألسنة النسوة، في التقاط حكاياتهن وتحويلها إلى أغانٍ. كانت الزهوانية ولا تزال ناطقاً باسم النساء الجزائريات.

الحب في بيت من قصدير

لا يمكن أن نذكر اسم الشاب حسني معزولاً عن الشابة الزهوانية، فقد رافقته في أغنيته الأولى التي جعلت منه اسما معروفا. «لامور في براكة» هكذا عنوانها وتحكي الأغنية قصة عاشقين في بيت من قصدير. فالحب هو الثيمة الأكثر حضوراً في أغاني الراي. كما لا نذكر الزهوانية من غير ذكر الشاب خالد، فقد ترافقا في البداية كذلك، كما رافقت العديد من الأسماء الأخرى التي جاءت من أجيال تصغرها سناً. كانت امرأة كريمة وهي تمد يدها لمن يصغرها وتساعده أن يمشي على قدميه في حقل الراي. وكانت مناضلة كذلك. ففي مطلع التسعينيات من القرن الماضي، عقب استهداف العديد من المغنين بالنار والرصاص، بينما كانت الجماعات المتطرفة تنتقم من كل شخص يجاهر بالحب في الغناء، فرت الزهوانية إلى المنفى، وتركت أبناءها الخمسة في انتظارها في الجزائر. هل يوجد أم تغامر كما فعلت هذه المرأة؟ لم تتخل عن أبناءها، بل دافعت عن صوتها، عن حقها في الحرية وفي الانعتاق. كان يجب أن تفر بجلدها كي لا تلاقي مصيراً تراجيدياً. ثم عادت إلى بيتها بعدما هدأت الأوضاع. في تاريخ الأغنية الجزائرية غالباً ما يذكر اسم الشيخة الريميتي بوصفها أم الراي، وهذه المغنية لها السبق التاريخي، لكن من ناحية القيمة الفنية فإن الشابة الزهوانية تتجاوزها وتتفوق عليها. الشيخة الريميتي ظلت وفية لتقاليدها في الراي الكلاسيكي، بينما الزهوانية جددت نفسها، ورافقت تحولات الموسيقى، في نصف القرن الماضي. لم تتكل على نجاحاتها الأولى، بل ظلت في كل مرة تبحث عن شيء جديد تقابل به المستمعين. هذا ما جعل منها رمزاً وقيمة مضافة في الموسيقى. لم تتخل عن رغبتها في مواصلة ما بدأت عليه. لم تنحز إلى خطاب متطرف ولا إلى استسلام. فبعض المغنيات يصغرنها سناً، توقفت بهن العربة في نصف الطريق، منهن من اعتزلت ومن هن من فقد الجمهور ثقته فيهن. عدا الشابة الزهوانية التي بلغت الخامسة والستين ولكنها لا تزال بشعبيتها كما كانت في العشرينيات من عمرها.

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية