في الجزائر… مثقف يطوف حول السلطة

حجم الخط
0

عام 1958، تأسست الحكومة الجزائرية المؤقتة، في خضم الاستعمار، وتشكلت من مجموعة من السياسيين القوميين، والعصب المحرك لهذه الحكومة كان شخصية مثقفة، نقصد بها فرانز فانون. الذي لم ينضم إلى أعضائها، بل كان من مستشاريها. مثلها في الخارج وكان كذلك سفيراً لها. وظل مقرباً ممن يتخذون القرار، هو الذي وشوش لهم في آذانهم ماذا يفعلون وماذا لا يفعلون.
توفي فرانز فانون نهاية 1961، أشهراً قليلة قبل الاستقلال، لم يتسن له بلوغ اللحظة الأهم لتلك الحكومة، ولم يشهد خروج الكولونيالية، لكنه شيّد قاعدة أساسية مفادها أن الحكم في الجزائر لا يستقيم في غياب المثقف. وفي 1962 صار أحمد بن بلة، بمباركة من الجيش، رئيساً للبلد، وأنشأ أول حكومة عقب الاستقلال، وقد أحاط نفسه بمثقفين، على غرار عبد المجيد مزيان، مصطفى كاتب وجان سيناك. كان حضور المثقفين في أول حكومة جزائرية، عقب الاستقلال، لافتاً، لكن حكم بن بلة لم يطل، وانقلب عليه قائد أركان الجيش هواري بومدين، فصرنا نسمع عن مقتل مثقفين (إثر مقتل جان سيناك) وعن سجنهم (عقب سجن الشاعر بشير حاج علي). لكن بومدين لم يعلن قطيعة مع المثقف، بل كان انتقائياً، لذلك راهن على مثقفين موالين له سياسياً، فلم يمنعهم في إبداء الرأي والاستشارة. ثم جاءت حقبة الشاذلي بن جديد (1979-1992) التي شهدت فيها البلاد أعتى موجات الرقابة والتضييق على الكتاب والفنانين، وطرأت الموجة الأولى من هجرة المثقفين إلى الخارج. كان المنفى شكلاً من أشكال معارضة الحقبة الشاذلية. تلتها مرحلة العشرية السوداء في التسعينيات، وبات المثقف المستهدف الأول من طرف الجماعات المتطرفة، وفقدت الجزائر ما لا يقل عن مئة اسم في الصحافة والأدب. كانت مقاومة الإرهاب ثقافية ـ بالدرجة الأولى ـ وكانت السلطة السياسية تفكر في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إلى أن انفرجت الوضعية مع مطلع الألفية الجديدة، ومرحلة الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة، الذي حكم عشرين سنة كاملة، والتحول طرأ في سنواته الأخيرة، حيث ابتكر نموذجاً جديداً من المثقف في الجزائر. مثقف يطوف حول مائدة السلطة، ويلتقط ما تساقط من فتاتها، مثقف يبدي رأيه بما يحصل في الكونغو ونيكاراغوا والصين، لكنه غير معنيٍ بما يحصل في بلده، مثقف يساري حين يكتب، يميني حين يتكلم، مثقف ابتلعته السلطة ثم طرحته، فجعلت منه صوتاً خافتاً، يصلح للكتابة لا للنقد، مثقف متصالح مع السلطة مهما بلغت من تعسف.

النظر من الداخل ليس مثل النظر من الخارج

منذ سنوات قليلة، بات المثقف ضيفاً ثقيلاً على مائدة السلطة السياسية. جرى تدجينه من غير علم منه. يحصل أن يتعرض إلى إهانة ـ في العلن ـ كما حصل مع الكاتب رشيد بوجدرة، الذي وجد نفسه متورطاً في (كاميرا خفية) ومجبراً، تحت التهديد، على نطق الشهادة، أو تقوم السلطة بتوظيفه في مناصب صغيرة، قصد إسكاته، وحصل ذلك مع مثقفين كثر، يرضون بأدنى منصب يقربهم من باب وزير أو من باب مساعد وزير. لقد ترسخت قناعة جديدة، بين المثقفين، مفادها: «اصمت طويلاً كي تنال كثيراً» فالسلطة تهتم بتصنيف خصومها، بمعرفة من يُعاديها، وهؤلاء تتم محاصرتهم، بينما من يسكتون عن أدائه، يتغاضون عنها، فهم الأكثر حظاً في نيل بركاتها، لذلك بات المثقف في الجزائر مثل الأصم والأعمى إزاء ما يحصل في بلده، لا يناقش ولا يعترض ولا يعلق، بل يمارس حقه كمثقف نقدي إزاء قضايا تجري خارج وطنه، في تلك الأثناء سوف يصير مثل تشي غيفارا، معارضاً وثورياً وبطلاً، مستفيداً من خدمات السوشيال ميديا وما توفره له من مريدين ومن متابعين. هذا المثقف الذي ينظر إلى السلطة من الداخل، من داخل مصلحته الآنية، ولا ينظر إليها من الخارج، قصد إبداء وجهة نظر نقدية، نجد أنه مسالم إزاء منع كتاب أو منع كاتب أو منع دار نشر، ما دام أن معارضته هذه القرارات سوف يعكر صفو علاقته مع السلطة، لكنه مثقف تقدمي إزاء أوضاع البيئة في غابات الأمازون، وإزاء التضييق على النساء في أفغانستان. ولا يكتفي بهذه المواقف السلبية وكفى، بل صار يورثها للأجيال الشابة، ويصف لهم الطريق نحو مهادنة السلطة. لطالما كنا نتفاخر في الجزائر بوجود أجيال شابة من مثقفين وكتاب. لكن الشيء الخفي أن هؤلاء الشبان يتربون في حضن من هم أكبر سناً منهم، يتعلمون منهم إنجيل الطاعة والدخول في بلاط السلطة، بعينين معصوبتين.

نجاحات السلطة

قد يحسب على السلطة في الجزائر، قبل سنوات، فشلها في تحقيق نجاحات اقتصادية أو دبلوماسية، وكذا عدم تحكمها في الحالة الاجتماعية في الداخل، فشلها في تنويم الشباب بالكرة، عقب النتائج المخيبة للمنتخب، لكن يحسب لها واحد من الانتصارات المهمة أنها أفلحت في وضع المثقف في جيبها، في التحكم في لسانه وفي قلمه، في كسبه إلى صالحها، من غير أن يطلب منها ثمناً. فالثمن الوحيد الذي بات يرجوه المثقف هو أن تلتفت إليه السلطة، بمنصب مهما كان صغيراً، بتذكرة سفر فيطير إلى واحدة من التظاهرات الثقافية ممثلاً للسلطة، بأن يذكر مسؤول في الدولة اسمه، أو تنشر صورته في واحدة من الصحف العمومية، هذه هي أحلام مثقف في الجزائر. بعدما كان هذا المثقف هو الذي يصنع الرأي في السلطة، زمن فرانز فانون، وكان عنصرا لا مناص منه، في السنوات الأولى من الاستقلال، فقد شيئاً فشيئاً مركزيته، ورضي بهذه الخسارة، مباركاً نجاحات السلطة في إسكاته، بل صار ينوب عنها في ذم كل مثقف نقدي. فكلما بادر مثقف أو فنان في انتقاد الشأن العام، فلن يأتيه رد لا من وزير ولا من مسؤول آخر، بل سوف يعترضه زميل له، سوف يصير شخصاً مذموماً من مثقفين مثله. هذه هي إذن تنشئة المثقف الجزائري، في السنوات الأخيرة، مطيعاً في بيت السياسة، غاضباً إذا سمع زميلاً له ينتقد من هم على الكرسي.

روائي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية