استديو تصوير اسمه: الصحراء

حجم الخط
0

في الطريق المؤدية إلى بطن الصحراء، لن يحتاج المخرج إلى إضاءة، فالضوء يتسرب من الجنبات كلها، كأننا في حفلة مفتوحة يطول نهارها ويقصر ليلها، ويصير المكان استديو متاحاً للاحتمالات، نرى فيه ممثلين يطوفون بأزياء لونها من لون الرمل، لا خشية عليهم من رطوبة تفضح الماكياج ولا ريح من شأنها أن تغير مواعيد تصوير. وإلى جانبهم ممثلون مساعدون، من أهالي البيئة، الذين خبروها مثلما خبرتها يرابيع. يعرفون جوانبها وما يخفي في مجاهليها، يغامرون لأن في الصحراء لا شيء نخسره، بل نفكر في المكاسب وحدها. لا نحتاج فيها إلى بساط أحمر، فهنالك ممرات صهباء اللون يصلح أن نمشي عليها بقدمين حافيتين. والجمهور ليس في حاجة إلى قاعات سينما، من شأنها أن تكلف المليارات، بل يكفي العرض تحت نجمين توأمين، والمشاهدون يفترشون دفء الأرض، ولن نفكر في عدد المقاعد، لن نخشى من عدم توافر أمكنة، لأن الفضاء يتسع للكل ويزيد.
لن يخشى مخرج من هرج ولا صخب أو أصوات دخيلة وهو يصور مشهداً، لأن السكون آية من آيات الصحراء، وكلما التفت ببصره سوف يتخيل كاميرا منتصبة على الرمل وممثلون قبالتها يؤدون أدوارهم.
هل يوجد أفضل من تصوير في مكان طبيعي؟ هذا هو الخيار الذي يلجأ إليه أي مخرج، في حيازة أستديو له أصالة وخصوصية، وهو ما يتيحه مكان مثل الصحراء. حيث تتجلى الطبيعة في كامل طغيانها وحضورها. إن التصوير في أمكنة مغلقة من شأنه أن يوقع العمل في حرج، يشعر فيها المشاهد أن النظر يضيق، ويخشى فيه المخرج أن يقع في مأزق إظهار شيء أو ماركة أو أمر آخر غير محمود من شأنه أن يؤثر سلباً على تلقي العمل، عكس ما يتيحه فضاء مفتوح لا تشوبه استثناءات، ويثير في عين المشاهد وقلبه حالة من الانفراج، من سعة الأفق، مع رغبة في الحلم كذلك. إن التصوير في فضاء مفتوح مثل الصحراء يتيح تقليص عدد التقنيين كذلك، لن نكون في حاجة إلى ترتيبات أولية للمكان، فالمكان جاهز قبل وصول الكاميرا، يوفر شفافية ورؤية أوضح، لا حاجة فيه إلى أكسسوار أو ديكورات إضافية، بالتالي يقلص الميزانية الإضافية.
هنالك عامل آخر يصر عليه المخرج، في بعض الأحيان، وهو محو الحيز الزمني. أن يدرج فيلمه في زمان غير معروف، كي يوسع من خيارات السيناريو، ولا يحصر نفسه في حقبة أو سنة، مما يضيق عليه من الحق في التخييل. في الصحراء يصير الزمن سرمدياً، له بداية لكن لا نهاية له. لن يجد المتفرج نفسه مرتبطاً بحقبة بعينها، ويبحث في المشاهد عن سقطات، بوسعها أن تضر بالعمل. الصحراء تعترف بالجغرافيا لا بالتاريخ، زمنها يمتد أفقياً لا شاقولياً، هو زمن حاضر وماض ومستقبل في آن. لا يخشى فيه مخرج أن يحصره متفرج في لحظة تاريخية واحدة، ويتفادى فيه أن يصير عمله مؤدلجاً. إن أكثر الأشياء التي تؤدلج عملاً فنياً هو حصره في زمن واحد. حينها تصير عين المشاهد عيناً أورويلية (نسبة إلى أورويل)، تراقب لا تشاهد، تبحث لا تستمتع، تعاقب لا تبتهج. تصير عينه عيناً ﻟ«الأخ الأكبر»، تترصد كل ما يدب في المشهد، لا رغبة لها في الخوض في جماليات اللحظة، بل في تصيد سقطاتها، وكل مخرج من صالحه الخروج من عين «الأخ الأكبر»، كي لا يصير عمله بياناً أيديولوجيا، إنما مبحثاً جمالياً، لهذا تتصدر الصحراء قائمة الخيارات في سبيل هذا المسعى.
قصد التصوير، لا بد من تراخيص، والانتقال من مكان إلى آخر، يفترض في كل مرة إتاحة تراخيص جديدة، لذلك يمكن تفادي هذا المطب الإداري بالاستدارة إلى الصحراء. مكان واحد وجامع يلتزم ترخيصاً واحداً، منذ بداية التصوير إلى الانتهاء منه. يتفادى المخرج ومعه المنتج التفكير في مزالق الإدارة. لن يطول صبره في انتظار تراخيص، في حال انتقال من حيز حضري إلى آخر. فالصحراء يُنظر إليها – في أعراف الإدارة ـ كحيز واحد، ويكفي ترخيص واحد قصد التصوير فيها من أكثر من زاوية، خلف الكثبان أو أمامها، على سفح جبل أو أعلاه. كما إنها لا تثير عائقاً في توفير مكان يحفظ فيه العتاد، ولا خشية عما يحتاج إليه الفريق من مركبات، فالمكان شاسع، بمقدوره احتواء ما يتطلب من معدات ومن مركبات، ومن ملاحق مادية تحتاج إليها عملية التصوير. لن نفكر في مرآب أو مخزن، لأنها تحتوي هذه الإضافات كذلك.
ولأن لا صحراء تشبه أخرى، فعنصر الأصالة لا يشوبه خلل، ويبعد المخرج من مخاوفه أن يقع في تشابه مع عمل سابق صُور في الصحراء كذلك، على الرغم من أن الصحراء تبدو ـ ظاهرياً ـ مكاناً متشابها، في تضاريسها، فإن لكل ركن منها شيء يميزها عن غيره، ويقفز المخرج فوق حرج أن يكرر ما سبقه إليه غيره. ونظير موقعها على خطوط الطول، فإن النهار يطول فيها والليل يقصر. من بين الأمور التي يخشى مجابهتها المخرجون هي الخوف من دنو الليل. يسرعون في تصوير المشاهد، مستفيدين من ضوء النهار، وهم يطلون على ساعاتهم في كل حين، خشية أن يعم الظلام. هذا الطارئ لن يطرح في مكان مثل الصحراء. فالضوء علامة مميزة لها، ونهارها أطول من ليلها، والمخرج له الوقت كاملاً في تصوير أو إعادة تصوير المشهد، من غير خشية من أن الليل سوف يداهمه، كما يحصل في أمكنة أخرى.
منذ سنوات قليلة، بات التصوير من أعلى، باستخدام المسيرات، ضرورة في كل مشروع فيلم. لا يخلو عمل من مشاهد علوية، لكن هذا الشرط ليس متاحاً كما نرجو في الأمكنة الحضرية، سوف يضطر المخرج إلى حذر في العملية، كي لا يضطر إلى تصوير خصوصيات الناس، حيث المكان العام يتجاور مع الحيز الخاص، لكن الأمر في الصحراء يصير أسهل، التصوير من الأعلى يتحول إلى متعة، من غير خشية أن نلج على حين غفلة فضاءات من ملكية الغير.

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية