الحداثة المعمارية في هندسة «بلفدير كندالاما» للسريلانكي جفراي باوا

حجم الخط
0

يَتَّبع الهندسي والمصمم السّريلانكي الشهير في آسيا وفي أوروبا جفراي باوا منذ ظهور أعماله الفنية المعمارية، بداية من منتصف القرن العشرين ميزة متفرّدة تجمع بين المحلية والعالمية، في إعداد تصاميمه وتنفيذ مشاريعه الهندسية التي لا تخلو من بصمات إبداعية جريئة ومجددة، جعلته من أهم المعماريين الصاعدين في الوسط الهندي. ظهرت مقدرته قبل ذلك في التصميم عندما تخلى عن وظيفة المحاماة، واتجه مباشرة إلى دراسة الهندسة في الجمعية المعمارية (مدرسة الهندسة المعمارية) في لندن، التي أتم فيها دراسته الأكاديمية، واتضحت إثر ذلك براعته وظهرت بصمته في تكييف البناء مع المتطلبات، إذ يقول» علينا أن نتعامل مع الموقع؛ ففي النهاية، نحن لا ننتظر من المبنى أن يغير الطبيعة»، تم توظيف جملة التأثيرات والاهتمامات بمهارة بواسطة إدماج نقاط الجذب والقوة الغربية التاريخية الملهمة على غرار المنشأ الروماني الذي زاره عند إقامته في روما واستفاد من مقدراته الأركيولوجية، واستلهم من منجزه الإنساني العتيق في العمارة والنحت. فظل يستلهم النماذج والتجارب الفنية من خلال تنقلاته في أوروبا الواحدة تلو الأخرى، ويسعى لإعادة بنائها في شكل جديد يتلاءم مع محيطه، ويخدم الحاجة الوطنية المحلية. ولا غرابة في ذلك فهو صاحب عدة منجزات بارزة تخلد مشواره الفني المعماري، منها مقر البرلمان السريلانكي و قصر كارلا ونزل بنطوطة الشهير في كولومبو.
تأتي أهمية أحد أهم إنشاءاته الأولى وهو «بلفدير كندلاما» الذي مثل مقر إقامته الأولى كشاهد على نجاح اختياره المعماري، الذي مزج فيه الفن بالطبيعة والصناعة بالإيكولوجيا والقديم بالحديث والمحلي بالعالمي والأوروبي بالآسيوي، الشيء الذي قاده إلى الغوص أكثر في حقل تشكيلي جديد أصبح يميزه في ما بعد.
تعتبر أعماله بمثابة تخطيط واضح لعدد من الإنشاءات الحيوية الواقعيّة المحترمة، وهي قابلة للتطبيق والإنجاز ولا ترتبط بالمفهوم الطوباوي الذي ظهر عند الكثيرين في عصره، لاسيما الفنانين المنضوين تحت سيطرة أنظمة الحكم المطلق والخاضعين لأحكام البروباغندا في فترة عرفت بتحولات كبرى في التوجه الفني والأدبي والطراز المعماري، وهي عناصر متحورة تحكمها الاختيارات السياسية والتنمويّة. كما شكلت الخصوصية المحلية في أعماله ضربة للمدارس الغربية الكبرى التي درس فيها وتعلم مبادئها، ثم توجه للاستلهام من محيطه الطبيعي الأصلي في المنطقة الهندية المدارية، وتمثلت نقاط الاهتمام الرئيسية في عدد من الخصوصيات البارزة التي تجمع بين العنصر الطبيعي (الطبوغرافيا المدارية السريلانكية) والعنصر التاريخي (العالم الروماني، النهضة) والعنصر الإيكولوجي (المواد، المقدرات، التقنيات).

جفراي باوا

حولت هذه الإختيارات إقامته بكندالاما الواقعة وسط الجزيرة السريلانكية إلى جنان باسقة تقع على جنبات بلفدير تطل شرفاته المرتفعة على أحد المصادر المائية المحمية المهمة في الجزيرة، في خطوط وأشكال تعامد متدرجة من الأسفل إلى الأعلى باعتماد الوسائل والمواد المحلية الممكنة، مثل الخشب للتسقيف والتظليل، والبامبو لترسيم الممرات النباتية المقوّسة، والآجر لتركيز الواجهات بانحدارات متفاوتة وحماية المصطبة الخارجية من المياه وتصريف الأمطار الموسمية، وضمان الأبعاد الجمالية المحلية، مع تقنية إدماج الخشب مع الإسمنت واعتماد الواجهات البلورية الضخمة للانفتاح على مناظر سفلية خلابة. كما مثل اعتماد هياكل الزنك المعدنية، وسيلة لإظهار النفوذ ورسم ملامح الشخصية المعمارية الباوية (جفراي باوا) التي تأخذ من الشرق والغرب، تتفاعل مع المحيط الآسيوي (المكان) وتتأثر بالمعطى الأوروبي (الزمان). فبدت منشأة كندالاما بنقاط توزيعها المائية بمثابة تقسيمات فردوسية يتكامل فيها البعد الطبيعي المداري بالبناء البشري الخلاّق أظهر فيها شاعريته بامتياز، وسمح حسن تركيز الخضرة والنبات بتهوية المساحات الداخلية المفتوحة على الغطاء النباتي، مع اهتمام مدروس بمرور الضوء، سواء من خلال الواجهات المفتوحة أو عبر طراز المشربية السريلنكية.
فمثل تجانس العمارة الثابت مع خرير المجاري المائية النهرية الموسيقي المتحول إطارا جماليا لا يقل عن تصنيفات حدائق القصور الإيطالية، التي تأثر بها الفنان باوا خلال إقامته في روما، وغدا مشروعه الإبداعي بمثابة لوحة فنية رائعة تجمع بين الشعر والموسيقى والنحت والعمارة.
كما أن مجهود الانسجام بين المواد والتقنيات والبيئة ظاهر للعيان، من خلال اعتبار المناخ الاستوائي الماطر ومراعاة اتجاه الشمس في اختيار الأبواب والنوافذ وتركيز التهوية. ومثلت تقنية النقش على القطن أو الباتيك الموزعة على عدد من الجدران الداخلية، كطراز لنموذج محلي يختزل عراقة الأصالة والإرث السريلانكي، أما تجميع الحصى بالإسمنت على الجدران الجانبية فمثل عنصر الهندسة حداثيا جديدا يضيف لمسات دقيقة لافتة للبنائية السريلانكية.
وتعود التأثيرات الأوروبية إلى فترة دراسته في أوروبا في بداية الخمسينيات واستقراره في عدد من عواصمها أهمها لندن وروما، التي أُعجب فيها بمنشآت الحضارة الرومانية العتيقة كتصميم أفقي مستطيل الشكل يحتوي على مدخل متصل بممر تحاط جوانبه الداخلية بغرف ودكاكين ( taberna) وحمامات بينما يؤدي البهو ( vestibule ) لساحة داخلية مفتوحة ( atrium) بجدران مربعة مجهزة بقنوات لتجميع مياه الأمطار، لتصب في حوض سفلي (implivium) معد للاستغلال والديكور الداخلي. أما البصمة الأخيرة التي طبعت «بلفدير كندالاما» فتتمثل في حضور المنحى الإيكولوجي الذي غفل عنه بعض المجددين، غير أن اتباع الفنان لهذا التمشي نابع من عنصرين اثنين أولهما تلقائي يتصل بالالتزامات البيئية والارتباط بالمعطى الطبيعي الجنائني للمكان، أما الطابع الثاني فقصدي ويتعلق بمراعاة المستوى الاقتصادي المتواضع للبلاد، من حيث التكلفة الباهظة لبعض المواد، وفقدان البعض الآخر في ظل الوضع المتوتر الذي عاشته الجزيرة السريلانكية طيلة الحرب الأهلية، وهو ما لا يمكن مقارنته بالعالم الغربي، سواء من ناحية الاستقرار أو من ناحية القدرة والوفرة، رغم أن المهندس الفنان جفراي باوا ينحدر من جذور بورجوازية، بحيث شكلت المدرسة الهندسية عنده مزيجا دقيقا من الحديث والتقليدي والشرقي والغربي والمعتاد والغريب والرسمي والخلاب. من خلال كسر الحواجز بين الداخل والخارج، بين البناء والطبيعية، لتقديم نموذج جديد للعيش والاستقرار في مدينة استوائية مفتوحة على غطاء نباتي كثيف.

كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية