مومياءات العوالم السيريالية للتشكيلي المصري أحمد الجنايني

حجم الخط
0

عودنا صانعو الأثر الفني ودارسوه عبر مسيرة خلق وتناول الأعمال التشكيلية العربية على بلورة إضاءات بصرية فسيحة مؤثرة شكليا في عين المتلقي القريب، تتغذى أساسا من ثراء الرافد المحلي، تستلهم التاريخ وتكرر نسج الأمجاد السابقة لتنحصر كينونتها – على الأغلب – داخل عناصر المحيط الطبيعي والإثنوغرافي المحدود. غير أن خصوصية توجه المشروع التشكيلي الذي أسسه الفنان والباحث المصري أحمد الجنايني على مدى ما يقرب من 45 عاما، ولدت شاملة مستلهمة من أمهات الموارد الفنية، تلتقط الرّؤى الجمالية الكونيّة وتنحت اللون المنبثق من الذاكرة الجماعية بدقة لامتناهية. مع تسجيل وتيرة حضور أسطوري ميثولوجي مهيمنة ومؤثرة.

جمالية بعث المومياء بين المعطى الذّهني والفنتازي

تنحصر الإيحاءات الجمالية في لوحة «وهج الشرق» التي جسدها الجنايني سنة 2012 في المقاربة الفكريّة التي تأتي في غنى عن المعطى الشكلي التصويري، وهو ما يعتبره المجادل الألماني إرفين بانوفسكي (E.Panofsky) بالأشكال الرمزية ويسميه الناقد التونسي محفوظ السالمي، في كتابه الصادر عن تبر الزمان في 2007 بالتذهين، يتجسد المفهوم من خلال ارتباط المحتوى الروحي الشخصاني بالعلامة الحسيّة، كنقلة نوعية لمادة فنية شرقية من تصويرية إلى تخييلية، ومن عالمية إلى محلية، ومن أوروبية إلى عربية، ومن غربية إلى شرقية، عبر الحضور المرهف لحسناء عاشقة ومتحررة آتية من زمن وذاهبة في اتجاه زمن آخر، في حين يدل صمتها على انتظار لدور محتمل، ما ينبئنا بمستوى حدود المرأة وببطولاتها المتداولة في التاريخ المصري العتيق، كما يحيل إلى مستوى الاختيار الرمزي البنّاء للجنايني، الذي يرسم تلك الفكرة المرتبطة بالمنجز المصري ، وإن كان متقطعا زمانيا إلا أنه مرتبط دلاليا ومكانيا بما أنجزه الأجداد في الماضي. تصرّح الشخصية الرئيسية في العمل الفني «وهج الشّرق» عن ارتباط رؤى وتصورات الفنان بالبعد الواقعي التاريخي، الذي يجعل هذه اللوحة على اختلاف غالبية أعماله الأخرى المابعد سيريالية، تنحاز عن البعد النفسي الذي يحركه اللاوعي الفرويدي كنسق فني بلوره الرائد والمؤسس أندري بريتون، عند لقائه بفرويد لأول مرة في 1921. وهو معطى يجعل من العمل أقرب إلى التصويري الوفي، ليشكل مزيجا من القراءات يحضر فيها الواقعي، من خلال الإطار الإيقونوغرافي (السند، الوسيط، الثيمة، الموتيف، الحقبة الزمنية الفرعونية، العمق وتعدد الخلفيات) والرمزي عبر إبداع الأشكال الدالة الخطية واللونية (السطح، النمط الفني الخاص، المعنى والحقيقة) والرومانسي عبر المنحى الطبيعي المتحرر (هوية الفتاة الغامضة، الصدر المكشوف، الوردة الحمراء، الصمت والجمال، مشاعر الحنين) والسيريالي، عبر توظيف الرغبة والتخييل (وجه الحسناء وملامحها، لفائف المومياء، البعث وإعادة الحياة عبر الحلم) لتكون جمالية اللوحة مستوحاة من مختلف التشكيلات الفنية مجتمعة. كل هذه العناصر والأفكار تؤدي بالضرورة إلى مجموعة إيحاءات تكشف عن العوالم الداخلية للفنان، وتحيل إلى تفكيره ، ما يطلق العنان لفنتازية مغرقة في الرغبة والحب والجمال، لا تشبه دون شك ما قدمه ماكس أرنست وريني ماغريت، وحتى الإسباني سلفادور دالي، ثم إن العمل يضع المرأة الساكنة في وجدان الفنان في المقدمة، حتى إن التقديم الأنثوي اللطيف والجذاب المتعدد في عدد من أعماله، يذكرنا بمادونات بوتيتشيلي، أو سيدات رينوار، ما يجعل التناول متأرجحا بين الحلم والرغبة أو الجمال والمتعة، بحيث أن التجربة المستخلصة تحيل إلى مستوى معتبر من التجريب تتماهى فيه مبادئ الفن التقليدي والحديث والمعاصر، كما يقول هيدغر في تعريف الحداثة: «تحول الفن إلى تجربة جمالية معيشة وتعبيرا عما تحياه الذات البشرية، وهي نقلة نوعية وتحول جذري من إبدال جمالي قام على التقليد والتمثيل والمحاكاة، إلى إبدال جمالي آخر ميسمه التجريب والمغايرة والاستشكال».

التأويل التصويري في ترابط الشكل واللّون:

تكمن أهمية المعطى المعنوي لعمل «وهج الشرق» في قدرته اللامتناهية على تقبل تعدد القراءات وتحويل وتحوير الأشكال عبر اتحاد المشهد الخلفي (الفتاة المصغرة باللون الأبيض مع مجموعة أشكال غير محددة تؤسس إطار الخلفية) والمشهد الأمامي (الشخصية الرئيسية بالألوان الدافئة مع مجموعة تفاصيل جذابة) ما يعطي عمقا وشخصية للوحة ويجعلها متوازنة تصرح بما تختزله من رسائل جمالية وإنسانية واجتماعية ونفسية، تختلف من متقبل إلى آخر، ما يخلق حوارية مع الآخر وانفتاح في الشكل واللون، بحيث أن تقديم الأشكال غير محاط بالخطوط التي تحدده. كما أن الشخصيات تظهر منسابة ومتغيرة تفتقد لملامح واضحة. وهو لعب متقن على معطيي الوضوح والغموض. هذا الانفتاح يجعل المتلقي الفاعل الرئيسي والشخصية المحورية التي في إمكانها تحديد الملامح والإيحاءات وتصور الحركات وتجسيد النغمية، أو الغنائية الخاصة في تبادل أدوار مميز يتماهى مع ما تطرحه المدارس الفنية المعاصرة، لاسيما الفن المفاهيمي.
كذلك تظهر التقنيات المتبعة مدى جدية العمل ومقدار التجديد الظاهر في تفاصيله، بحيث إن الشفافية الفائقة تحضر فيها الألوان الحارة دون غيرها، بطريقة يتناوب فيها اللون الأبيض الطاغي على أغلب المساحات، تنحدر منه لفائف المومياء المفتوحة، ثم يتناوب الأصفر مع البرتقالي وصولا إلى تدرج قاتم يتضح في المجلس الغامض للحسناء المنبعثة لتوها من القبر. كما يحضر اللون البني، وفي شعرها الذي يبدو بتقليعة ربطات كلاسيكية دائرية على شاكلة الورود، وكذلك الشأن بالنسبة لفتاة الخلفية. وهو اختيار يجعل إمكانية مقارنة التقنية المتبعة والعمل عموما بنظرية أو مدرسة أو توجه معروف صعبة نسبيا. فلا الضوء المكثف يحيلنا إلى التقابل مع الظلام، نظرا لغياب اللون الأسود ولا اعتماد الألوان الحارة تذكرنا بحضور الألوان الباردة، ولا المنحى التخييلي الذي اتبعه الجنايني – وإن كان محدودا في هذا العمل- يذكرنا بسيريالية ميرو العضوية ولا حضور الأشكال اللونية وخطوط الأكريليك يذكرنا بسيريالية دالي الحسية. أما على الصعيد المحلي المصري فارتكز العمل على تباين المقومات المتجهة في عدة أنحاء والمهتمة بقضايا وطنية وإنسانية، منها الاغتراب والمرأة والجنس والسلطة، إضافة إلى الغنائية الشعرية التي تحول الشكل واللون إلى سردية جمالية مترعة بالمفاهيم الإنسانية. غير أن الجانب الملحوظ في عمله تكرس بطريقة غير مباشرة في عدد من الملامح الوجدانية القلقة، التي تصرح بالحنين إلى الماضي وهي عناصر غائبة حاضرة في العمل، وقد أفلح الجنايني في إخفائها باتقان منها صمت الحسناء، والملامح الغامضة والمتحولة واختيار الألوان الحسية الرومانسية التي توحي بالهدوء الذي يسبق العاصفة، ووضعية الجلوس التي توحي بالانتظار الدال على التغيير المقبل من محطة إلى أخرى تختلف عنها تماما، إضافة إلى حرص الفنان على إظهار العناصر الجسدية الأنثوية (الجسم برداء قصير ضيق وشفاف، الصدر العاري، الذراعان، الأصابع التي تحمل وردة، القوام الرشيق، ملامح نصف الابتسامة) بحيث أن البهجة والسعادة الملحوظة في مساحات العمل، لا تمثل إلا قشرة خارجية لجملة من الإرهاصات والأحاسيس الداخلية العميقة بالوجع والمعاناة التي يعيشها الفنان ومنها، تقلص مفهوم السيادة الوطنية والاستقلالية والحرية، ولعله استحضار واستدعاء لملكات مصر من الأسر الفرعونية وللمرأة عموما للعودة إلى المشهد خاصة في المجتمعات الشرقية، ما يعود بنا إلى مفهوم توظيف التقنيات والمبادئ الفنية التنظيرية التشكيلية العالمية، إلى خدمة المتلقي المحلي ، في عصر غابت فيه أغلب قيم الجمال والحب وتصدرت المواقف الانهزامية عناوين المشهد.

ناقد تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية