منعطف التحولات التشكيلية في المحطة الصقلية لـ«نيكولا ديستال»

حجم الخط
0

لا يُعرف كيف صاغ الحداثي الطلائعي الروسي نيكولا ديستال عوالمه الفنية المتفرّدة، ولا أين تأسست خصوصيّة الخلق والاختلاف في أعماله بالتحديد، وهو الرحالة العاشق والباحث عن فضاءات التجريد والتجديد، في زمن ما انفك يمجد الواقعية الصُوريّة. أكان ذلك في بلجيكا، مكان دراسته الفنون الجميلة في أكاديمية سان جيل بداية من 1933، أم في سويسرا، أم في إسبانيا، أم في المغرب، مكان تعرفه على زوجته الأولى جانين، أم في تونس، عندما كان مجندا ميدانيّا ضمن قوّات التحالف في فترات الحرب الكبرى، أم في فرنسا حاملا لتناقضات العاصمة والغرب والجنوب. أم في إيطاليا، في روما خصوصا وسط جزيرة صقليّة جنوب البلاد، التي أثرت كثيرا في مواضيع وتوجهات وتقنيات أعماله.
ومن المؤكد أنه عايش مع عائلته فترات صعبة ومزرية في صغره بعد مغادرة روسيا بسبب تداعيات الثورة الشيوعية (البلشفية) والحرب الأهليّة، وكذلك بسبب استقراره في فرنسا في خضم فترة صعبة أتت قُبيل اندلاع الحرب الكبرى ومآسيها. ولا يُعرف حتى متى طوّر صياغة واستنباط طريقة استخدام الفرشاة، ولا كيف طوّع مراس أنامله، التي أظهرت تحولا جوهريّا لمصير مشروع فني بأكمله، تدرّج في اتجاهات بحثيّة تصاعديّة رغم ضبابيّة رؤية التوجّه الانتهازي وتلاشي مشاريع التشخيص (البورتريه) متدرّجا بذلك من العتمة إلى الضوء، ومن التسطيح إلى التراكب ومن القتامة إلى البهجة ومن الظلام إلى الضّوء ومن الاحتضار إلى الديناميكيّة، على الرغم من حساسية التجربة التي استفادت من مدارس عديدة، هولندية، فلمنغية، إيطالية، إسبانية وفرنسية. وصولا إلى تأثيرات متوسطية وافريقية ضوئية وترابية واضحة، وهي سمات وتقنيات حاضرة بقوة في منعرج «أغريجنتي». وهي سلسلة تتكون من خمسة أعمال بأحجام عملاقة متفاوتة رسمت في الفترة بين 1953 و1954. ومع وجود عنوان وحيد لمختلف اللوحات، اخترنا تخصيص بعض التفاصيل حول القياس 60/81 ( من المجموعة الخاصة).

عودة إلى الحزن في «طبيعة ميتة باللون الرمادي» 1955

– معضلة انبلاج الضوء من رحم المعاناة: مثل الوهج المتوسطي الجنوبي لعمل «أغريجنتي» (نسبة لأحد أحياء صقليّة القديمة) تحوّلا سريعا وغير منتظر من فنان تمسكت لوحته بمطفّة لونية ضبابية شاحبة، لاسيما بعد الصعوبات المتتالية لترويج أعماله وفقدان قرينته الأولى في حادث إنهاك جسدي لم تتحمل خلاله بدايات حمل صعب. فكانت عناصر الولادة الجمالية الجديدة مجتمعة كإعلان نجاح للمسار الفني الحديث، وكان صعود وميض الضوء إلى الأفق الصّوري كافيا لنسيان الماضي البائس – رغم فترات البحث والتعاطي مع عدة أعمال تخطيطية لرسومات على الورق – من هذه القفزات نذكر، التعرف على العشيقة جان بعد الزواج الثاني من فرانسواز والزيارة التاريخية لجزيرة صقليّة في أغسطس/آب 1953، ثم تحول الإقامة من شمال فرنسا، باريس إلى جنوبها أفينيون، مينيرب، أنتيب. ما جعل البهجة تنطلق من القلب كالفراشة لتحط على الخامة مولّدة ثورة ضوئية تفجر ألونا ناطقة بلغة الشمس وحاملة للمجد الإغريقي الروماني الخالد تحت القرص الذهبي، وفوق الأرض الحمراء في سيراكيز حامية الفضاء الأيوني العتيق وأكروبوليس سيلينانت، ووادي المعابد ومدينة تورمينة القديمة التي تتعانق فيها المنازل الحمراء المرتفعة بأفق السماء الأزرق الممتد . وكما يقول غوتة: «إن رؤية إيطاليا دون صقليّة بمثابة عدم رؤية إيطاليا». هذا الزّخم اللوني زاد في ثراء التجربة وتعميق الحس الفني وعمل على تأسيس أشكال ملغزة ذات منظور عميق ما عمل على إظهار لوحة داخل اللوحة، باعتماد نقطة التقاء تجمع الأصفر والبرتقالي ونقطة تلاشي باعتماد اللون الزهري تحت سماء أرجوانية عنيدة. فكان توظيف الضوء الصقلي الساحق بمثابة عودة قياسية إلى الحريّة.
– الدّوران في حلقة مفرغة: لئن كانت تجربة أغريجنتي علامة مضيئة في تجربة ديشتال القصيرة نسبيا، التي دامت خمسة عشر عاما بأعداد فنية محفوظة من الأعمال قاربت الألف، وأعداد متلفة تجاوزت الألف بسبب السرعة والتسرع أحيانا والبحث الغامض عن أشكال مجهولة وألوان محيرة ومتناقضة، فإن شخصية الفنان الهشّة وغير المستقرّة وتعدد علاقاته الحميمية وتتالي عشيقاته جعله يتموقع بين قبول ورفض وحب وكره وسعادة وحزن. وهي مراحل انعكست في أعماله منذ البدايات الأولى مع تقديم تشخيصات جانين بهيئات شاحبة عظمية حزينة داخل خلفية قاتمة (بورتريه جانين 1941) وعمل «تشكيلة بالأسود» (1946) كتقديم لمرحلة مترددة طغى عليها البعد الظلامي الذي أغرق الأحجام والأشكال مع تراكم وتراكب الخامة السوداء وأغلق المجال على كل بداية تناظر وخنق نقاط الضوء بحجة التدارس والبحث، بعدما سلك توجها متفردا في عصره، محاربا الصُّوَرية الوفيّة، وداعما للتجريد والتشريد. بعد ذلك حضر انفتاح اللون على النور والهدوء تميزت فيها الأعمال بالهدوء والمرونة والخفة والبساطة وتقلصت الأحجام، وتم تحديد الأشكال بعدما كانت سابحة في أعماق الكثافة الخامية الزيتية والفحمية، من ذلك ظهور لوحتي «تشكيلة» ( 1949) وتشكيلة (1950) و»أزهار» مع اعتماد اللون الأسود على كامل النصف السفلي للقماشة، وكأنه بذلك يخلد الورود على جدار التجربة، ثم يسحقها وسط جس نبض ومواقف لا متوقعة ومتغيرة بسرعة رهيبة، ثم بعد ذلك تقفز بوصلة المزاج لفترة محدودة إلى إشعاع اللون، عبر اختيار الصباغة من جهة، واعتماد تقنية التصفيف والتجاور من جهة أخرى. وكان ذلك جليا في سلسلة «أغريجنتي» الأعجوبة التي كانت منفتحة على محيطها الصقلي وكان دور الخلق والتجديد فيها قياسيا باعتبار الفترة الزمنية آنذاك، فتم رسم شاطئ البحر الأزرق بألوان صفراء وبرتقالية حارة مثلت خلاصة انطباعية لتشييد جمالي ملغز ومتفرد وسريع، أعطى أحد أهم أعماله على الإطلاق، التي نجحت في تأسيس نموذج جمالي خاص. وهكذا فإن فترة أوج تفجر الألوان لم تدم إلا سنوات قليلة، عادت على إثرها الفترة الداكنة مجددا بعد انفصال عاطفي قاس وصعوبات في مجاراة نسق تقدم الأعمال المباشرَة أصلا ، فاكتملت بذلك حلقة مسار الألوان والأحجام، لتعلن عن تشكل الدائرة السوداوية العدمية ، التي بدأت بالظلال وانتهت بالظلام مع اشراقات بسيطة برقية خلدت لونه. ما أدى بالفنان إلى الانتحار بعدما ألقى بنفسه من الطابق العلوي لمنزله في أنتيب في الساحل اللازوردي جنوب فرنسا في 1955.

كاتب تونسي

العمل الشاحب
«بورتريه جانين» 1941

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية