التونسي نجا المهداوي وجمالية الحرف العربي: بين الأصالة والتجريد والتفرّد

حورية الخمليشي
حجم الخط
0

الحرف العربي عند الفنان التونسي نجا المهداوي يختزن كلّ الحركات والإشارات والدّلالات. فهو فنّ وخَلْق وإبداع في حركةٍ دائمة، بحيث ينطلق من الحاضر ويمتدّ إلى عبَق الماضي ويستشرف المستقبل. فقد وصل المهداوي بالحرف العربي، كضرب من ضروب الفن التشكيلي التجريدي، إلى قمّة الخلق والإبداع، بعيداً عن أيّ محاكاة أو تقليد. إذ لا يحمل الحرف في ذاته أية معنى أو دلالة. فحروفه تغنّي وترقص وتتمايل في استقلال تامّ عن أيّ مضمون قرائي، باستثناء تشبّعه بمعايير الجمالية الهندسية والفنّيّة ضمن نسيج تصويري لحقائق الحياة والوجود والغوص في أسرار الكون. وهو ما صنع تفرّده.
وكلّما أطلتَ النّظر في أعماله الفنية إلاّ واقتربتَ من إيقاعات ألحانه السّمفونية وهندسته الرّوحية التي لا تأتي من مغامرة تشكيل الحروف وبهجة الألوان وتناسقها، ولا من رمزية الحرف في حدّ ذاتها، بل من كل هذه العناصر مجتمعة، وما تثيره من مشاعر عند المتلقّي لِما تعكسه من جِدّة وفرادة. تقول رشيدة التريكي: «أبدع نجا المهداوي، بمتانة معرفته وبصلابة تقنياته، أساليب جديدة مقحماً حركية إبداعية تضافرية عندما أدرج الحرف العربي في فن الرسم وقد حرّره من سجن المعنى وحبس الرّمز في الآن نفسه.
وقد تأكّد هذا التحرّر وعظم شأنه بممارسته الإبداعية الحالية في لوحاته ذات الحجم الكبير مع تأطير غير معهود وبواسطة عمليات مزج تجريدية حرّة وصرفة للألوان.» (رشيدة التريكي، تحرير الخط وجمالية التفكيك، تعريب فتحي التريكي).»
ما يميّز الطابع التجريدي للوحات المهداوي هو فرادتها وتميّزها في المزج التشكيلي بين الخطوط الهندسية الأفقية، والعمودية، والمائلة، والمتشابكة، والمتقاطعة، والمتوازنة، وغيرها، وعلى الدوائر، والمستطيلات، والمربعات، والفراغات، والامتلاءات، وتعرّجاته بين توظيف الخط الكوفي والنسخي والديواني…في تراسل غرافيكي استثنائي يحمل بُعداً روحياً برؤية معاصرة تكشف عن إبداعية متميّزة في التشكيل الحروفي المعاصر. صلاة الحرف وقداسته ورشاقته ولُيُونَته وجماليته توحي بتجريدية عميقة لامحدودة تثير الدهشة عند المتلقي، وتذهب به إلى عوالم متجاورة موسيقية وشعرية وسينمائية وغيرها.
يعمد المهداوي إلى تقنية تغيير حجم الحروف بتكبيرها وتصغيرها وتوزيعها بين الفراغات وتنويع ألوانها. يقول: «بالنسبة لفنّي فإني أنطلق من النقطة وإليها أعود Nja Mahdaoui, L’Art-calligraphie, L’Or du temps « لذلك تشغل حروفه معظم مساحة اللّوحة، لكن تبقى محتفظة برقّتها وشفافيتها وإيقاعاتها المختلفة لتُشكّل عند المتلقّي حالة من الإشراق والمناجاة في محراب الفنّ بأبعادها الصّوفية التي أنتجتها ريشة المهداوي النّورانية بدرجات ألوانها الفاتحة والغامقة والمُضاءة والمُعتِمة بإحساس غرافيكي راق لإبراز القدرة التشكيلية التّجريدية للحرف العربي. ما يعني أن المهداوي خَبرَ أسرار الفنّ وقواعده وأدواته.
هو ذا المهداوي عبقري أسطوري في فنّه، في يده جمرة من نور لا تنطفئ. هذا النور الذي يغمره بفيضه المطلق. وبحروفه ينسج أحلامنا التي عشقت السّفر والتِّرحال، وعشقت الحرّية من خلال حرّية التّوزيع الخطّي وامتداداته التشكيلية اللامتناهية، ومن خلال التقاطعات اللّونية بعد أن حرّر حروفه من أيّ معنى دلالي لغوي، ومن أيّ مضمون قِرائي. فدلالات وإشارات الحروف عنده مستقاة من روحه العامرة بالصّفاء والضّياء. إن الحرف عند المهداوي كائن حيّ، وفيه تتجلّى قوته كفنّان. بعد أن تمرّد على النّسق التّقليدي. فبدت حروفه بتركيب فني جديد متفرِّد لم يعهده الفن العربي. يقول: «ما يهمّني هو رسم وإنجاز عمل بصري انطلاقاً من أجزاءٍ لمادّة ما (شيفرة لفظية) بعد أن أقطع الطريق على كل البنية اللفظية المسبقة والمحافظة فقط على الشكل بصيغته الجمالية.
حروف المهداوي تستمدُّ جماليتها من عيون الشعر والنثر، وتستمدّ قدسيتها من التجربة الصوفية في عشق الجمال خارج نطاق الجسد، لتأخذ أعماله مكانتها العالية في الفن التشكيلي العربي وغير العربي. سألته مرّة، ما الذي يراه المهداوي ولا يراه الناس؟ فقال: «الغيب وازدواج الأرواح». صحيح أنه لا حدود للفن في استكشاف عوالم الغيب. فالخيال الخلاّق ينير الطريق للبحث عن الحقائق بتعبير المهداوي. أوليس في ازدواج الأرواح نوع من تناغم الأرواح وتقاربها. ما جعل حروفه تنفتح على طاقة من الجمال المطلق وعلى شساعة الخيال الغنيّ بالرموز والإيحاءات التي تفتح أعماله الفنية على المعرفة والفلسفة الصوفية للبحث عن الحقيقة الكونية.
أخبرني المهداوي أنه يقرأ كثيراً قبل أن يرسم وخاصة كُتُب السهروردي، وابن عربي، والحلاّج، والنفري وغيرهم من أقطاب التّصوّف الكبار. لذلك نجد حروفه غنيّة برموز وإشارات وتَوليدات جديدة غير معهودة. ما يعني أنّ تجربة المهداوي من التّجارب المؤسِّسة للمرسوم الخطِّي العربي بإعادة صياغة وخلق الحرف العربي ليصنع منه كوناً قائماً بذاته، دون أن يكون أسيراً لأي مدرسة من المدارس الفنّية. فالمهداوي متأثّرٌ بموروثات الخطّ والفنّ الإسلامي، وقد وظّفها بأُفق مُغاير مُتجدّد ومُنفتح، وهو ما صنع شهرته وعالميته. فأعماله تمتاز بشعرية محمولة بفلسفة فن جمالية ذات معاني فنّية وإنسانية عظيمة. يرى المهداوي أن العمل الفني هو بمثابة قصيدة مرئية توّلّدت من خلال ترسّب تأثيرات غير متجانسة تكون قد حصلت عبر شبكة اللاوعي.
وقد أنجز المهداوي العديد من الكتب الفنية بمصاحبة شعراء وروائيين وأدباء، جمعت بين كلٍّ من شعرية الشعر وشعرية النثر. وهو ما أثرى ذاكرته البصرية. فنقل لنا إحساسه عبر صورة مُفعمة بشعرية الشكل واللون والإيقاع. وقد أنجز أكثر من مائة من أغلفة الكتب للعديد من الكتّاب والشعراء والمفكّرين العرب وغير العرب. وهو الذي قال عنه نزار قباني «نجا المهداوي ليس رسّاماً مبدعاً فقط ولكنه خلاصة الشعر والرسم معاً. لوحاته لا تشبه لوحات الآخرين، وآفاقه لا تشبه آفاق الآخرين…وألوانه أغنى من ألوان قوس قزح. باسم الشعر أحيّيه… وأحيي أصالته وتفرّده… إنه بكلمة واحدة (خرافة)». إذا كان هذا ما قاله نزار منذ ما يقرب من ثلاثين سنة (لندن 1994)، فما الذي كان سيقوله نزار لو اطّلع في يومنا على عمق تجربة المهداوي وما قدّمه من أعمال فنّية باذخة؟
إن كلام نزار يعبّر عن عمق إحساس شاعر يرسم بالكلمات قصيدته، للتّنويه بفنّان يمتلك إحساس الشاعر ويرسم حروفه بالفرشاة. فقد اكتشف نزار ببصيرة الشاعر أنّ كلّ حرف عند المهداوي يحمل سؤالاً في المجهول من خلال شاعرية الحرف ورمزيته، وشاعرية اللّون وجاذبيته، وتناسق الخطوط وهندستها التي تخاطب الوجدان والفكر عند المتلقّي. لذلك نجد حروفه في عناقٍ دائمٍ تعيش حالة حبٍّ وتشابكٍ وتآلف. فرشاقة يد المهداوي تُبدع بمهارة حجم الحرف وشكله وترصد طبقات النّور التي تحملها في تناسق جميل بين اللّون والشّكل في القِصر، والمدّ والشكل والتّموضع في أشكال هندسية مربّعة أو دائرية، أو نصف دائرية، أو بيضوية، أو نصف بيضوية أو حلزونية في توازنٍ خلاّقٍ بين الحرف وتشكيلاته صاعداً أو هابطاً أو على السّطر، لتأخذ الحروفُ سُمكها ورقّتها وتقوُّساتها واستقاماتها وانحناءاتها.
وقد وضع المهداوي لحكاية علي بن بكار وشمس النهار التي ترجم أشعارها جمال الدين بن الشيخ، كتاباً فنّياً موسوماً بعنوان «متعة حتى الموت» (La volupté d’en mourir) في طبعة فاخرة مُذهَّبة. ويمتاز الكتاب بغلاف فنّي باللّون الفيروزي المتدرّج من خلط اللّون الأزرق والأخضر الذي يعشقه المهداوي. وهو البارع في توظيف اللّون الأزرق والأخضر الذي يميّز أعماله برونقه المتدرِّج من اللازوردي.
إنّ أعمال نجا المهداوي لم تقتصر على المتاحف وقاعات العرض فحسب، بل جابت عواصم وعوالم وقارّات. وقد سافرت حروفه على أجنحة طائرات البوينغ، وأخذت شكلها على واجهة البنايات، والسّجّادات، والجداريات، والمنحوتات، وعلى الطبول، والنسيج، والزجاج، والجلد، والذهب، والقماشة، والخشب، والطّين، والفخّار، والنحاس، والورق المصنوع من الأرز وغيرها، بعد أن ارتقى المهداوي بالرّؤية البصرية للحرف العربي إلى أقصى مداها. فامتلكت أعماله صفة المرجعية من خلال صوفية الحرف وفلسفته وتحرّره من كل مرجعياته القديمة إلى أُفق معاصر متحرّر من سلطة الماضي إلا ما اقتضته سلطة الإبداع.  وقد قدّمت سان فرانسيسكو تحية لنجا المهداوي بعد أن اختارت شركة فيسبوك أحد أعماله لتزيين مقرّها الرئيسي بولاية كاليفورنيا، بالولايات المتحدة الأمريكية. وهو عملٌ يجعلك تفكّر وتحار كيف يجري الكلام، وكيف يجري الفنّ عند المهداوي الذي نجح في أن يصنع من الحرف العربي كوناً قائماً بذاته يسع كل العالم.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية