سعيد بنسعيد العلوي نموذجاً: تراسل الرواية مع التشكيل والسينما والغناء

حورية الخمليشي
حجم الخط
0

لم تعد الرواية العربيّة الحديثة والمعاصرة تلتزم في عصرنا بالحدود التي سنّتها النظريّة الأدبيّة، بل أصبحت أكثر انفتاحاً على أجناس أدبيّة مختلفة من يوميّات، ومحكيّات، وعلوم، ومعارف مختلفة. كما انفتحت على أنماط الفنون السمعيّة والبصريّة من تشكيل، وسينما، ومسرح، وموسيقى، وغيرها. وتتميّز التجربة الروائيّة للمفكر والروائي المغربي سعيد بنسعيد العلوي بالارتكاز على تعالقات التاريخي، والفكري، والفني، والانفتاح على الآخر المختلف. فنصوصه الروائيّة تستدعي العديد من الأسئلة المعرفيّة، كما تستدعي قارئًا مختلفًا لهذا النوع من الكتابة الروائيّة الحداثيّة. ما يعني أنّ اللقاء مع روايات بنسعيد العلوي هو لقاء مع أسئلة الإبداع، والفكر، والتاريخ، والسياسة، والفن.
فرواياته «مسك الليل» (2010)، و«الخديعة» (2011)، و«ثورة المريدين» (2016)، و«سبع ليالٍ وثمانية أيام» (2017)، و«حبس قارة» (2021) تمتاز بالنّسيج الحكائي المتعدّد، والسّرد الرّوائي التّخييلي، لاعتماده على البُعد الجمالي للتخييل. وهو ما يفتح عيْن المتلقي على أُفُق ثريّ للكشف عن المتن الحكائي لرواياته في تشكّلها للعوالم المحيطة بالنص. وهو نوعٌ من أسئلة السرد الروائي الجديد، ومن الجماليّات الروائيّة التي تستبطن في نسيجها اللغوي التصويري صيَّغا إبداعيّة بلاغيّة متعدّدة. دون أن ننسى أنّ تجربته الإبداعيّة الروائيّة ترجع إلى سنّ الخامسة عشرة من عمره حيث كتب رواية «الجلباب الأبيض» كما جاء في حواره مع الإعلامي والشاعر عبد الإله التهاني.
فبنية الكتابة في رواية «حبس قارة» مثلاً، تعتمد على تعدّد الفصول داخل متن حكائي مختلف ومتعدّد، يطغى عليها الجانب الأسطوري والغرائبي. فقد استطاع الراوي أن يقدّم لنا بتقنيّة المونتاج السينمائي عوالم، وفضاءات، وأمكنة، وأزمنة، ومشاهد، وأحداث، وشخصيّات جمعت بين محكي الطالب عبد الجبار ومشروع بحثه التاريخي عن حبس قارة، حول موضوع «الحياة اليومية للأسرى الأوروبيين في حبس قارة». وهذا مقابل محكي الرسّام الفرنسي أوجين دولاكروا في رحلته إلى المغرب مع البعثة الفرنسيّة الدبلوماسيّة في القرن التاسع عشر، والتي امتدّت من شهر كانون الثاني (يناير) إلى شهر نيسان (أبريل) 1832. وما تفرّع عن هاتين الحكايتيْن من حكايات أخرى، وذلك عن طريق الحوار والتّضمين والاسترجاع. فجاءت الرواية متنوّعة من حيث طبيعة الحدث الروائي، والثيمة الروائيّة، والنّسيج اللغوي، والزمان، والمكان.
وللأمكنة في رواية «حبس قارة» هويّة ورمزيّة روحيّة. فكان التصوّر الذهني لرائحة اللغة دور كبير في صُنع الحدث، وتنامي الشعور النفسي المتناغم مع سياق الأحداث والمشاهد. وهذه اللغة الواصفة، كما يرى فيليب هامون، هي تعبير عن القدرة اللغويّة والمعرفيّة والإحاطة بعالم الأماكن والأشياء عند الروائي.
وقد أفضت الشُّرفة والمفاتيح بالروائي إلى رسم أماكن عديدة وأحيانًا غير محدودة. فهي من أهمّ الروايات التي أعطت المكان أهمّيّة كبيرة. بحيث تتّخذ الشخصيّات من المكان الروائي مسرحاً لأحداثها. لأنها تعكس مشاعرهم وحزنهم وفرحهم، ويأخذ المكان دلالته من خلال السيّاق الذي وُضع فيه سواء كان مستمدّاً من الواقع أو مُتخيَّلاً. فهو محكومٌ دائمًا بنظرة الروائي. وتتوزع الأمكنة بين فضاءات مدينة طنجة، ومكناس، وزرهون. فالحدود المكانيّة التي يرسمها الروائي تعطي الشعور بأن الشخصيّة تعيش في نوع من الضّيق والانغلاق أو تكون أمكنة مفتوحة تمنح المتلقي الإحساس بالحريّة والحركة.
إنّ الانتقال من عالم سجن حبس قارة إلى عوالم دولاكروا هو انتقالٌ من عالم مُغلَق إلى عالم مفتوح يمنح الإحساس بالحرية بحضور رسّام كبير. الرسام الذي رسم الحريّة من أجل بلده وأعطى مشعلها لآلهة الحريّة في لوحته الشهيرة «الحرية تقود الشعب». هذا النزوع إلى عشق الرسم والحرية هو ما يمنح الرواية صبغتها الفنيّة البصرية الباعثة على التأمل الفني والجمالي. وتندرج رواية «حبس قارة» في هذا السيّاق. فهي من الأعمال الفنيّة المنفتحة على عوالم لا متناهيّة، بالإضافة إلى ما تمتاز به من ثراء لغوي منفتح على أنماط الفنون.

التراسل مع الفن التشكيلي:

من الملاحظ أنّ بنسعيد العلوي له شغفٌ كبيرٌ بالفنون البصريّة من خلال بنية السرد المنفَتحة على التشكيل. وهذا يدعو إلى النظر في العلاقة بين المتن السردي والمتن البصري. فقد تبنّى قاعدة الانفتاح بين الخطاب الروائي والفن التشكيلي، وهو ما أضفى ميزة وجماليّة خاصة على الصورة الروائيّة.
فقد كانت رحلة دولاكروا إلى المغرب عام 1832 إلى مدينة طنجة وبعدها إلى مكناس للقاء السلطان عبد الرحمان حدثاً ثقافيًّاً كبيراًعلى المستوى التاريخي والفني والدبلوماسي. وأثمرت هذه الرحلة عدّة لوحات استلهمها دولاكروا من مشاهداته في المغرب، وذلك في فترات زمنيّة مختلفة كلوحة «مولاي عبد الرحمان سلطان المغرب»، و«طنجة»، و«صيد الأسود»، و«خيول عربية تتصارع في الإسطبل»… فكانت الشرارة التي أطلقت الفن الاستشراقي في تلك المرحلة. وقدّمت الرواية لوحتيْن للرسّام أوجين دولاكروا، يتشابك فيهما الضوء واللون. فعبد الجبار كما تقدّمه الرواية عاشقٌ للرسم ولفنّ دولاكروا وللوحة «السلطان مولاي عبد الرحمان بمكناس» والتي تعرّف عليها من خلال أستاذ الرسم حنفي الوهراني في المرحلة الثانويّة، حينما حمل لهم ألبوم أوجين دولاكروا. فهو كما يصفه فخر فرنسا ورائد المدرسة الحديثة. فأدرك بعد ذلك بأن صورة هذه اللوحة معلّقة في غرفة والده.
هكذا قدّمت الرواية لوحتيْن لأوجين دولاكروا، الأولى للسلطان عبد الرحمان بن هشام وهو يمتطي صهوة جواده مع حاشيّته استعداداً لاستقبال مبعوث فرنسا الكونت مورناي، والثانيّة هي لوحة «الحرّيّة تقود الشعب»، وهي اللوحة الأكثر شهرة لدولاكروا، بل هي معجزة دولاكروا، كما وصفتها الرواية. فهي تحمل سموّ المعاني الثلاثة التي تجتمع في الحرية والقيادة والشعب. فظلّت مصدر إلهام لذاكرة الفن ومصدر تمثيل في الروايات العربيّة المعاصرة. فاللوحة جزءٌ من تاريخ الفن الحديث، تاريخٌ قائم الذّات. فحضور شخصيّة دولاكروا عمل على مدّ الجسور بين الروائي، والتاريخي، والتشكيلي، وجماليّة الرؤية، والتخييل.

تعالق السردي والسينمائي:

تمتاز رواية «حبس قارة» بلُغةٍ قائمةٍ على الصورة والحركة. فحبس قارة مكانٌ مُستهدَفٌ بالتّدوين والتّأريخ من زاوية الروائي والمؤرخ ببُعده التخييلي البعيد عن التوثيق، اعتمد فيه على مجموعة من التقنيّات المستمَدّة من عالم السينما كتقنيّة المونتاج السينمائي في سرد الأحداث.
فقد اعتمد الراوي تقنيّة المونتاج السينمائي للكشف عن الأمكنة والأزمنة وفضاءات الرواية التي جرت أحداثها بين زمنيْن وعصريْن مختلفيْن، أي بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين. فكأنّ عيْن الراوي كاميرا تنتقل بين ماضي رحلة دولاكروا وعوالم عبد الجبار. هذه العوالم المدهشة فيها الكثير من العجائبي والغرائبي والتاريخي والعمراني. واستكشاف لجماليّة الرحلة البحريّة الخارقة لدولاكروا.
ونلمس من خلال هذا الوصف أن هناك علاقة متجذّرة تجمع بين الفنّ التشكيلي والفنّ السينمائي. فالتشكيل يرسم اللون بينما السينما ترسم الضوء، ولوْ أن الضّوء أساسي في كلتا الصورتيْن. بذلك نجح الراوي في تقارب المونتاج السردي مع المونتاج السينمائي بتقنيّة عاليّة، وهو ما نلمحه في العديد من مشاهد الرواية. هكذا يمكن أن نقول بأنّ رواية «حبس قارة» تتجلى فيها الثقافة السينمائيّة من خلال طريقة تناول الحكاية بتقنيّة سرديّة تتفرّع إلى حكايات عن طريق التّضمين، عبر توظيف تقنيّة «التقطيع الحكائي» والتي تجمع بين حكاية الراوي عبد الجبار ومشروعه العلمي عن حبس قارة. ففي عهد المولى إسماعيل امتلأ حبس قارة بالأسرى المسيحيّين، من جنسيّات مختلفة، وكل من أُلقيَ القبض عليه من طرف قراصنة سلا الأسطوريّين لبيعهم في سوق النخاسة، ومعظمهم يُنقلون بعد ذلك إلى قاعدة السلطان بمكناس. وحكاية رحلة الرسام دولاكروا إلى المغرب بعوالمها، وفضاءاتها، وشخصيّاتها التي امتدّت من القرن التاسع عشر إلى سبعينيّات القرن العشرين، وهذا التقطيع الحكائي تقنيّة سرديّة جديدة ناتجة عن انفتاح الرواية على عالم السينما كفنّ من الفنون السمعيّة البصريّة.

التراسل مع الأغنيّة:

عمل بنسعيد العلوي على توظيف التراث الموسيقى في العديد من رواياته والتّناص معه ضمن سيّاق جديد. ونجد في رواية «حبس قارة» أنّ والد عبد الجبار، سي البشير، يعشق الموسيقى الأندلسيّة التي تبثّها الإذاعة الوطنيّة كلّ يوم بعد الظهيرة، ويعشق صوت محمد عبد الوهاب وأحمد شهبون المعروف بأحمد البيضاوي. والسلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام افتتن بالموسيقى والتراث الشعبي المغربي الأصيل. ويظهر هذا من خلال إقامته لحفلة موسيقيّة في قصره تكريمًا للبعثة الفرنسيّة ولدولاكروا.
فبعد أن غمر السلطان أعضاء السفارة الفرنسيّة بالعديد من الهدايا، أهدى دولاكروا فرساً عربيّة أصيلة لافتتانه بالفروسيّة. وأمر كذلك بإحياء سهرة موسيقيّة فريدة تُحييها فرقة يستقدمها السلطان مولاي عبد الرحمان بين الفينة والأخرى من مدينة الصويرة وهي لسلطانة الطرب ميمونة المغنيّة اليهوديّة المعروفة بصوتها الشّجي.
وكانت ترافق ميمونة ابنة شقيقها الجميلة سيلفانا حاييم التي كانت تقطن بمدينة فاس. ومن عادة سيلفانا مرافقة عمّتها في كل الحفلات التي تحييها بقصر السلطان. وقد نشأت علاقة حبّ بين سيلفانا ودولاكروا. إنها علاقة حب أسطوريّة بين مطربة جمعت بين الجمال وعذوبة الصوت وبين رسّام كبير. لكن الأقدار حكمت أن يرجع دولاكروا إلى مرسمه في باريس مفعماً بالشوق والحنين الدائم إلى سيلفانا.
إنّ اختيار السارد لفنّ الموسيقى، كمصدر لا ينبض بالعواطف، نلمسها في الشخصيّات والأمكنة والاستعارات والمقاطع الشعريّة التي تزخر بها الرواية من روائع الطرب الأندلسي وطرب الملحون. وبذلك فتحت رواية «حبس قارة» مساحة روائيّة جديدة من حيث لغتها وشخوصها وبنائها السردي، فهي من بين أهمّ الروايات العربيّة التي تمتاز بالحس الفني، والعمق التاريخي والفكري. رواية قادرة على استيلاب القارئ وإدهاشه لِما تمتاز به من تخييل وانفتاح على الفنون السمعيّة البصريّة من تشكيل، وسينما، وموسيقى وغيرها، وانفتاح على العالم.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية