حورية الخمليشي ترصد جماليات العلاقة البصرية بين المكتوب والمرسوم

يحاول كلّ منا كفنانين تشكيليين بتجربته الشخصية، الانتباه إلى العلاقة بين الشعر والتشكيل، بين التشكيل والموسيقى وهو ليس انتباهاً معرفياً حسب، إنما إجراء يعتمد على الإحساس والإدراك بأن الأسوار بين الشعر والتشكيل شفافة وربما غير مرئية.
نستطيع أن نرى في قصيدة لوحة تشكيلية بتجربة تلامس وجداننا وإدراكنا، وكتجربة شخصية كانت قصيدة «سيدي الرئيس» للشاعر حبيب يونس وغناء ماجدة الرومي إلهاما أولياً للوحتي «إلى متى بغدنا يقامرون» (2011) التي تجمع في تفاصيلها وخطوطها وألوانها ربما أكثر من قصيدة.. كذلك اللوحة تسهم في شحذ الخيال لدى الشعراء، لصناعة الصورة الشعرية المعبّرة، أو في استلهامها كقطعة موسيقية تتراقص نوتتاتها كما ألوانها، وهذا ما حصل مع مؤلف موسيقي مغربي فكانت لوحتي مصدر إلهام لقطعة موسيقية بعنوان رؤية شرقية، والعديد من التجارب لا مجال لذكرها الآن..
ربما كان يجدر بي الحديث عن الشعر والتشكيل قبل الآن، لكن قراءتي لكتاب «تواشجات الشعري والفني في الشعر العربي الحديث/ شربل داغر نموذجاً» بإهداء قيّم من الشاعر نفسه… عمّق معرفتي بتقصى التداخل الإبداعي بين المكتوب والمرسوم من جهات عدة: كالإحساس بالذات الإبداعية في كل منهما، هذا فضلاً عن استعدادات هذه الذات في الإبداع والتأثير الثقافي، وبإعادة إنتاج الواقع وتجاوزه.

جولة فكرية إبداعية

في بحث المنظّم المحدد الأهداف والمعالم يتجلى كتاب حورية الخمليشي الثري والممتع «تواشجات الشعري والفني في الشعر العربي الحديث» لتصحبنا الكاتبة بفكر مستنير وعبارة أنيقة، في جولة فكرية وإبداعية داخل مملكتي الشعر والفن، مصطحبة معنا الشاعر شربل داغر نموذجا يطرح خلاصة معرفية وعمرا من الإبداع والإنجاز، بتواشج بديع بين شعره والفن التشكيلي.
يختص القسم الأول من الكتاب بالشعرية الحديثة، وفي القسم الثاني نستكشف عالم القصيدة وبناء الرؤيا في شعر شربل داغر وأهمية هذا التواشج الشعري والفني في قصيدته. أما القسم الثالث فهو سردية ساحرة لقراءات بصرية لأعمال فنانين تشكيليين، حوارات غنية تبحث عن المعنى، إلى استكشاف عوالم مثيرة مع كبار الفنانين من العالم العربي في القسم الأخير، ولا تكتفي الخمليشي بالإضاءة على اللوحة والقصيدة، بل تدخل إلى عمق الشعر وتعرّج على الموسيقى والمسرح والسينما.
في هذا الكتاب نتلمس خلاصة فنين مختلفين متجاورين مع محاولة إدراك الحدود بين ما هو كتابي وما هو بصري. تقودنا الباحثة بكل دراية إلى الينابيع التي استقت منها مادتها، تحدثنا بلغة الكاتبة المتمرسة بدخولها عالم الشعراء والفنانين. فطافت بنا بحرفية داخل عوالمهم، نستطلع شغفهم بجوهر الشعر وتفاصيله وغموضه، وقدرة الفنانين منهم على مقاربة شعر شربل داغر تشكيلياً، من خلال ما قدموه من أعمال فنية مصاحبة لشعره، ومن كتب فنية مشتركة، صاحبت فيها قصيدة داغر العديد من الرسومات والأعمال الفنية. هو كتاب الخلطة السحرية للعناصر التي لا يتقنها سوى باحث جيد بخبرة موسوعية، تخترق عالم الصورة في مجتمعاتنا الحديثة بقدرة نص يمتلك أكثر من حياة، بحيث أثبتت الكاتبة قدرة الشعر كما الفن، بأنهما فعل انساني يرتبط بقيمة الإبداع، وهذا لا ينفي الخصوصية المرتبطة بكل نوع فني كأفق مفتوح لبستان رياحين لتكتمل جولتنا الممتعة.

شربل داغر وفوران الخلطة السرية

العلاقة الفنية والشكلية بين الشعر الرسم لم تكن علاقة معاصرة، فالكاتبة تستشهد بأقدم نص في التاريخ يشير إلى هذه العلاقة منذ العهد الإغريقي وهو العبارة المنسوبة إلى سيمونيدس الكيوسي التي يقول فيها «إن الشعر صورة ناطقة أو رسم ناطق، وأن الرسم أو التصوير شعر صامت». وقول لفنان القرن السادس عشر ليوناردو دافنشي يقول: «إن التصوير هو الشعر الذي يرى ولا يسمع، والشعر هو التصوير الذي يسمع ولا يرى». وما ميّز شعر الحداثة هو انفتاح القصيدة على الفنون وعلاقتها بالتشكيل والموسيقى والمسرح والسينوغرافيا والموسيقى وغيرها. السؤال يكمن كيف يمكن لقصيدة شربل داغر أن تلهم العديد من الفنانين التشكيليين، بينما تعجز قصائد أخرى عن أن تحرك وتراً لخيال أو فكر لمبدع؟ ما الذي يجعل المتلقي أو الفنان بعد قراءة قصيدة بأن يشعر شعوراً مختلفاً، وليس عادياً؟
شعورا يمكّنه من السير في ممرات لونية متحركة عابقة بأثر الأمكنة، هل هي خلطة سرية يطرحها الشاعر ويتنشقها المتلقي الفنان ليغوص في فوران المعنى مكتشفاً عناصر اللون والسحر؟ هي بالتأكيد خلطة ليست عادية، بل تحتوي اعترافات داغر وخلجاته الوجدانية والنفسية، تتدفق عاطفيا وفكريا لتمتزج بروح الفنان المتلقي، فتلامس أوتار شغاف القلب وتغوص في أعماق الروح وتنبثق من خلالها بكل يسر.
شربل داغر شاعر وباحث لبناني ومثقف كبير غني عن التعريف، هو من مجددي قصيدة النثر في العالم العربي، وعدّه نقاد وشعراء شاعر «ما بعد قصيدة النثر» وقد وصفه محمد العامري الفنان التشكيلي والكاتب الأردني بأنه «بمثابة نحات يقشر حجراً باحثا عن زمردة عبر الحتّ والنقب».
فهل هناك أجمل من هذه اللوحة المعبرة التي طوعها العامري بكلمات من ضوء ولون؟ كذلك تجيب الباحثة بأن قصيدة داغر تأتي بألوان مختلفة لقصيدة مختلفة، قصيدة منفتحة على أجناس القول وأجناس الفن. فقد رسم قصيدته بالريشة والقلم بحيث تثير المتلقي بتشكيلها النّسقي المستمد من خبرته الشعرية والفنية. فانفتحت على شساعة التأويل ولا نهائيته.
وقد أطلق داغر على مجموعة من قصائده «تواشجات» احتفاء بهذه الاستضافة الفنية، وبهذا العناق الجميل بين الشعر والفن. وربما استقت الكاتبة عنوان كتابها من هذا الحوار المتفاعل، المفتوح بين الشاعر والتشكيلي وهذه الصورة المتخيلة بين فنين مختلفين متجاورين بتناغم وتداخل لتخلق نوعا من المتعة الفنية من خلال شعرية التجاور.

الخمليشي وجدلية العلاقة بين الشعر والفن

تُعد الأكاديمية والناقدة المغربية حورية الخمليشي من أهم الباحثات العربيات المتخصصات في نقد الشعر المعاصر والنص العربي القديم والمناهج النقدية المعاصرة، لكن في كتاب «تواشجات الشعري والفني في الشعر العربي الحديث» أجرت عمليات تنقيب واسعة بين الشعر وأجناس الفنون لتخلق حوارا، بل تواشجا بديعا بين الشعر والفن رغم استقلالية كل فن وجماليته بمعزل عن الفنون الأخرى. ولا تنسحب مقاربتها على القصيدة العربية بشكل شامل، بل على نوع محدد من الكتابة الشعرية يستجيب للشرط الجمالي الذي وضعته الكاتبة كعلامة تشير إلى منهجها النقدي. فما بحثت عنه الخمليشي داخل النصوص الشعرية هو حضور التشكيل والجماليات البصرية، فكان اختيار قصيدة شربل داغر كعمل إبداعي شاملاً، ومنفتحاً على إيقاعات بصرية جديدة وغير سماعية، تنقل قارئها من وضع السماع إلى وضع المشاهدة، والتأمل، والإدراك البصري، لذلك عمدت إلى تحليل شعرية التجاور الشعري التشكيلي في شعره وكتاباته المتعددة، إلى إقامته في القصيدة وهي إقامة في اللغة، إقامة في الوجود كما وصفتها الكاتبة. انطلقت الباحثة من الشعرية الحديثة إلى جدلية العلاقة بين الشعر والفن، لضبط المسافة بين الشعر والتشكيل، ولتقريب القارئ من طبيعة العلاقة بين هذين المجالين الإبداعيين، فقد حملت الحداثة معنى جديدا في تجديد الشعر وتطوره وانفتاحه على الفنون في زمن الانفتاح والتلاقح الثقافي بين الحضارات.

المقاومة الثقافية علّنا ننجو

في ظل مجتمع الصورة والحياة الرقمية وعالم المتغيرات لا بد من سؤال هل نحن في زمن تسوده قيم شعرية أو فنية في زمن انهيار القيم الإنسانية؟
إذا كان لا بد من حضور الأعمال التشكيلية والأدبية وباقي أصناف الفنون في حياتنا اليومية مهما اشتدت الصعاب والمحن، لتأخذ دورها في تعديل السلوك النفسي لدى الفنان والمتلقي على حد سواء وتطوير ملكة الإدراك والشعور بالجمال. ربما هي المقاومة الثقافية التي تحدثت عنها في إحدى المقالات، فالفن كما الشعر كما الأدب ما زال يقاوم كنوع من التعبير الإنساني الذي يقود ويحصّن حرية الفكر، يقاوم الخوف من انعدام الإنسانية بشكل كامل، لذلك لا يستسلم. وللكاتبة الخمليشي «إيمانٌ عميقٌ بقدرة الشعر على أنسنة العالم. فالحب والإنسانية وعشق الجمال دين الشعراء». وهي الباحثة في كل المراحل التاريخية التي تشبه المراحل التي يمرّ بها الشعر في زمننا، لتجد أن رسائل الشعراء في زمن الحروب والأزمات أكثر تأثيراً من رسائل الزعماء والقادة. كذلك يقول ضياء العزاوي وهو من أكبر الفنانين العراقيين في حوار مع الكاتبة بأن ما قدمه من أعمال هو «محاولة لإبقاء الذاكرة حية لما تعرضنا له من دمار وسلطوية فاشستية.. هذه الأعمال ليست تأكيدا على فعل الرفض لكل هذه الممارسات، بل هي أيضاً تأكيد لروح الانتصار على اللاعدالة والظلم».
في النهاية إذا كانت هذه الدراسة مغامرة في المجهول لاكتشاف العوالم المتشابكة بين الشعر والفن، كما وصفتها الكاتبة، فهذه الأعمال الفكرية والفنية ستغامر وتواصل حياتها وإبحارها للوصول إلى عالم آمن كوثيقة تجسد روح العصر، وستبقى تقاوم هذا الانحدار في عالمنا العربي.

أكاديمية وتشكيلية لبنانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بلي محمد من المملكة المغربية:

    هل تسمحون لنا بدخول لعالم الفن الواسع لاحدود لانهاية ولن تكون لكي نضع بعض الكلمات متواضعة رغم قلة المعرفة والعلم شكرا لكم وكدالك الكاتبة الباحثة الفنانة التشكيلية المحترمة قرأنا هد ه الكلمات التي رسمت بريشة الفن حرفا حرفا كلمة كلمة ببطئ ولقد سبق لنا ان قلنا ان لشعر علاقة قديمة جد ا جد ا جد ا با التشكيل فهو منافس قوي له وفي نفس الوقت رفيقا لايمكن الفراق وكلاهما محتفظ بأسراره ولايمكن ولو طال الزمان ان يبوح بها لصاحبه وكدالك لن يتمكن شاعر او تشكيلي كيف ماكانت الدرجة التي وصلوا اليها من معرفة واحد من اسرار الشعر او التشكيل فاالشعر ناطق وليس أبكم لكنه حدر ودكي ومحنك وخبير وطبيب نفساني لامثيل له والتشكيل صامت لاينطق ولا يمكن لكنه يشير بالالوان وباالقلم وكأنه يقول حاول ان تفهم أو تمتع ثم انصرف لشغلك

    1. يقول هناء عبد الخالق:

      إضافة جميلة وقيمة.. شكرا بلي محمد على المتابعة والاهتمام.. تحياتي وتقديري

  2. يقول salamjabbar:

    تحية واعتزاز لجهدكم النقدي المميز دكتورتنا الراقية نتابع باهتمام هذا الطرق الإيجابي لحيثيات بنية التشكيل المعاصر

    1. يقول هناء عبد الخالق:

      تحية كبيرة لحضوركم الغالي والمميز د. سلام، الباحث والمبدع والناقد الجمالي متابعتك وتقديرك مصدر سعادة وشرف لي..?? كل المحبة والإحترام

إشترك في قائمتنا البريدية