الاتحاد الأوروبي والحرب في السودان: تبني السرديات البديلة تشجيع للإرهاب والفوضى

حجم الخط
0

أطلعت على مقال مشترك للسيدين غوسيب بوريل فونتليس المفوض السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية ونائب رئيس المفوضية الأوروبية، ويانيز لينارتستيش المفوض الأوروبي للأزمات يوم الاثنين 8 أبريل/نيسان الجاري عن الأزمة في السودان.

أكدت الحكومة السودانية أن الالتزام بمخرجات منبر جدة هي السبيل للتصدي للأزمة الإنسانية، والتمهيد للسلام، مع الوفاء بالتعهدات التي قدمها المانحون في المؤتمر الدولي للمساعدات الإنسانية للسودان

أقدر للمسؤولين الأوروبيين الرفيعين اهتمامهما بما يجري في بلادي وانشغالهما بالأزمة الإنسانية الراهنة فيها. غير أن أولى خطوات المعالجة الناجعة لأي مشكلة هي الفهم الصحيح والتوصيف الدقيق لها، ومن ثم السعي لإيجاد الحل المناسب. وما وضح لي من المقال أنه انطلق من فهم خاطئ للأزمة وافتراضات تجانب الموضوعية والإنصاف. وإذا ساد مثل هذا الفهم فإنه سيؤدي لتعميق الأزمة وزيادة المعاناة الإنسانية في السودان.

السرديات البديلة:

يقال إن الحقيقة دائما هي أولى ضحايا الحروب، بسبب السرديات البديلة للواقع التي يشيعها من يقف وراء الحرب. وقد وقع كاتبا المقال في هذا الفخ بقصد أو دونه.

عزا الكاتبان اندلاع الحرب قبل عام من الآن إلى ما سمياه الانقلاب العسكري المشترك في أكتوبر/تشرين الأول 2021. لا شيء أبعد من الحقيقة من هذا الزعم.

جاءت إجراءات 25 أكتوبر 2021 في ذروة أزمة سياسية عصفت بتحالف “قوى الحرية والتغيير” (قحت) التي كانت تمثل الجانب المدني في الشراكة العسكرية المدنية التي تأسست على الوثيقة الدستورية 17 أغسطس/آب 2019، وتولت تشكيل حكومتي الفترة الانتقالية في سبتمبر/أيلول 2019 وفبراير/شباط 2021. تعرضت قحت لانشقاقات وانقسامات متتالية، وبرزت منها ثلاث كتل متصارعة، وسط اتهامات متبادلة بخرق الوثيقة الدستورية، والتخلي عن أهداف الثورة، والتنصل عن اتفاقية جوبا للسلام، اكتوبر 2020. وأدت هذه الأزمة لتعطيل الحكومة الانتقالية، بل وتعطيل النشاط الاقتصادي ومعظم مظاهر الحياة العادية في البلاد، بسبب الاعتصامات وإغلاق الطرق العامة، بما فيها الطريق البري بين السودان ومصر، والطريق لميناء بورتسودان والميناء نفسه. وهذه هي شرايين الحياة الاقتصادية في البلاد. وبالتالي كانت إجراءات أكتوبر 2021 محاولة للخروج من تلك الأزمة المستحكمة، خاصة بعد فشل 3 محاولات لرئيس الوزراء الانتقالي لحلها. وقد حظيت هذه الإجراءات بالدعم الكامل من إحدى الكتلتين الرئيستين لقحت، خاصة حركات الكفاح المسلح، أطراف اتفاقية جوبا.

وعلى أي حال فقد مثل الاتفاق الذي وقع بين المكون العسكري ورئيس الوزراء الاتتقالي في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، نهاية لإجراءات أكتوبر2021، إذ عاد الأخير لمباشرة مهامه. لكنه استقال بعد شهر من ذلك لعدم استطاعته توحيد رؤية الأطراف المتصارعة داخل قحت، كيف إذن يمكن أن تعزي حرب 15 أبريل 2023 لما حدث في أكتوبر 2021؟

الأسباب الحقيقية للحرب

الأسباب الحقيقية للحرب تعود لإصرار أطراف خارجية وداخلية على الإبقاء على قوات الدعم السريع المتمردة والمحلولة وتقويتها لتكون جيشا موازيا للقوات المسلحة الجيش الوطني المهني، وفي تحالف مع مجموعات سياسية مدنية، تريد أن تنفرد بالحكم خلال فترة انتقالية ممتدة، بدعم من تلك الأطراف الخارجية. وللأسف فقد تماهت بعثة يونيتامس مع هذا المخطط. لقد وقعت قيادة القوات المسلحة في 2 ديسمبر/كانون الأول 2022 مع أطراف سياسية على الاتفاق الإطاري لاستعادة الحكم المدني، بأمل أن يفضي لإكمال دمج قوات الدعم السريع، قبل تمردها، في الجيش الوطني خلال فترة معقولة، لتحقيق احتكار الدولة للعنف المسلح حتى تتمكن من حماية الحكم المدني الديمقراطي. غير أن المخطط المضاد كان يرمي لتكريس الميليشيا المتمردة قوة عسكرية باطشة مستقلة عن قيادة القوات المسلحة، تدعمها إمبراطورية اقتصادية هائلة وإسناد إقليمي ضخم. وعندما رفضت قيادة القوات المسلحة هذا المخطط، شنت قيادة الدعم السريع ورعاتها الإقليميون هذه الحرب، للاستيلاء على الحكم بالقوة، وحين فشلت في ذلك وجهت بندقيتها للمواطنين العاديين.

الرعاة الخارجيون

استعان الرعاة الإقليميون للميليشيا المتمردة بعدة آلاف من المرتزقة الأجانب والميليشيات القبلية، إلى جانب المجرمين الذين أطلقتهم قوات الدعم السريع من السجون. كما وفر هؤلاء الرعاة إمدادات ضخمة ومتصلة من الأسلحة النوعية، شملت حتى المسيرات، استخدمت لارتكاب أسوأ الفظائع بما في ذلك الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في غرب دارفور والعنف الجنسي واسع النطاق، والتهجير القسري لملايين السودانيين في العاصمة وولايات الجزيرة ودارفور والنيل الأبيض وكردفان.

 نعم لقد أشار المسؤولان لدور الرعاة الخارجيين في الحرب، لكنهما قلبا الحقيقة رأسا على عقب، فالدعم الإماراتي لميليشيا الدعم السريع الإرهابية، الذي يشمل كل أنواع الأسلحة وجلب المرتزقة والتمويل والإسناد السياسي والدعائي، هو العامل الأساسي لاستمرار الحرب كل هذه الفترة. ويكفي الاطلاع على التقرير الأخير، لفريق خبراء الأمم المتحدة المستقل لمراقبة تنفيذ القرار 1591 يناير/كانون الثاني الماضي، إذ أنه يورد تفاصيل الإمدادات العسكرية من دولة الإمارات للميليشيا عبر الحدود مع تشاد، دعك من الرصد الموثق وصور الأقمار الصناعية لرحلات الشحن من المطارات الإماراتية لمطاري أم جرس وأبشي التشاديين، التي بلغت حتى يناير من هذا العام 122 رحلة. وقد تناولت الصحافة العالمية ذلك مرارا، وتحدث عنه مسؤولون ومشرعون في الولايات المتحدة. بينما ظل الاتحاد الأوروبي صامتا تماما، مع أن هذا هو أهم عامل منفرد لاستمرار الحرب. لقد اكتفي الكاتبان بجملة واحدة عن “نفوذ مباشر تتمتع به الإمارات على قوات الدعم السريع، يجب ان تستخدمه لإنهاء الحرب”. وهذا تبسيط مخل وغير مسؤول يرقى لدرجة تزييف الحقيقة.

 أما الحديث عن دور إيراني فهو من باب ذر الرماد في العيون. فليس هناك حاليا تعاون عسكري بين السودان وإيران. وكل ما تم هو استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، شأن الغالبية العظمى من دول المنطقة. ومع ذلك، وبموجب كل الشرائع والقوانين، فإنه من حق وواجب الجيش الوطني الحصول على السلاح والمعدات التي تمكنه من الدفاع من البلاد وشعبها من أي مكان.

حياد تجاه الإبادة الجماعية؟

يقول الكاتبان إن الاتحاد الأوروبي يتخذ موقف الحياد من “المتحاربين”. لقد ذكر خبراء الأمم المتحدة بخصوص القرار 1591 أن ميليشيا الدعم السريع لمتمردة والميليشيات القبلية المتحالفة معها قتلت ما بين 10 إلى 15 ألف من المدنيين في مدينة الجنينة، غرب دارفور، وحدها منذ اندلاع الحرب وحتى نهاية العام الماضي على أسس عرقية. وتوصلت وزارة الخارجية الأمريكية في ديسمبر 2023 إلى أن الميليشيا المتمردة ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وجرائم تطهير عرقي تذكر بالإبادة الجماعية. واعتبر مشروع قرار قدمه الحزبان الرئيسيان في الكونغرس الأمريكي، في فبراير الماضي، أن أعمال التطهير العرقي التي ترتكبها ميليشيا الدعم السريع المتمردة والميليشيات المتحالفة معها ضد المجموعات غير العربية في دارفور ترقى للإبادة الجماعية.

من ناحية ثانية نبّه 25 من مقرري وخبراء الأمم المتحدة في مجالات حقوق الإنسان حماية المرأة والطفل في 17 أغسطس 2023 لـ”الاستخدام الوحشي وواسع النطاق للاغتصاب والعنف الجنسي ضد النساء من قبل الدعم السريع، واحتجازه لمئات النساء، حيث يتعرضن للاستغلال الجنسي والسخرة والاستعباد”. وعضدت ذلك تقارير ميدانية، تقارير لمنظمات حقوقية إقليمية ومحلية مثل “المبادرة الاستراتيجية للنساء بالقرن الافريقي (صيحة) والمركز الافريقي لدراسات العدل والسلام ومرصد مشاد لحقوق الإنسان. بينما رصد مجلس الكنائس السوداني 153 حالة اعتداء على الكنائس من ميليشيا الدعم السريع المتمردة، دمرت خلالها 17 كنيسة كليا.

هذه الجرائم التي صمت عنها الاتحاد الأوروبي، باسم الحياد، أسوأ مما عرف عن ممارسات بوكو حرام وجيش الرب الأوغندي، وتماثل ما قامت به داعش. فهل معها حياد؟ وهل يملك من يتبنى الحياد تجاه الطرف الذي يرتكبها أي سلطة أخلاقية لوعظ الآخرين بالقيم الإنسانية؟

تشجيع الإرهاب والفوضى

وفي المقابل فإن القوات المسلحة السودانية، جيش وطني عريق، عمره مئة عام، ساهم في القضاء على الفاشية والنازية بمشاركته في الحرب العالمية الثانية، وتحرير عدد من دول الجوار من الفاشية، وتأسيس جيوش بعض الدول الافريقية والعربية عقب استقلالها، فضلا عن مشاركته في عمليات السلام الدولية. جيش مهني يعرف ويطبق القانون الدولي الإنساني الدولي وقواعد الاشتباك المعروفة عالميا. فعندما يوضع هذا الجيش، على قدم المساواة مع ميليشيا من المرتزقة متعددي الجنسيات، ومع الأخذ في الاعتبار موقع السودان الجيوسياسي بالغ الأهمية، أليس ذلك تشجيعا للإرهاب والفوضى مما يحذر منه المقال؟

ختاما فقد أكدت الحكومة السودانية أكثر من مرة، أن الالتزام بمخرجات منبر جدة هي السبيل للتصدي للأزمة الإنسانية، والتمهيد للسلام، مع الوفاء بالتعهدات التي قدمها المانحون في المؤتمر الدولي للمساعدات الإنسانية للسودان في 18 يونيو/حزيران 2023 في جنيف. كما لا بد أن يترافق ذلك مع إلزام رعاة الميليشيا الإقليميين، وعلى رأسهم دولة الإمارات، عن التوقف بتزويدها بأسلحة القتل والدمار التي تستخدمها ضد الشعب السوداني.

*وزير الخارجية السودانية المكلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية