الحراك الطلابي عامل وعي ويقظة للشعوب

الصراعات السياسية الكبرى لا تنحصر تجلياتها بالجوانب الدبلوماسية او العسكرية، بل كثيرا ما تتحول إلى ظواهر طويلة الأمد بأبعاد أيديولوجية وربما ثقافية وأدبية. في أدنى مستوياتها تنحصر الصراعات ضمن دوائر ضيقة بين حكومات، وتكون موضع اهتمام السياسيين فحسب. ولكن حين تتوسع دائرة الصراع يختلف الوضع وبشكل تدريجي تظهر التموضعات الأيديولوجية لتضيف أبعادا للاهتمام الاجتماعي بما يحدث. فيبدأ المفكّرون والكتّاب والأدباء في توسيع دوائر الصراع.
هل الصراع العربي ـ الإسرائيلي اليوم سياسي فحسب؟ أم أنه أيديولوجي ثقافي حضاري؟ ألم يتمخض عن ذلك الصراع منذ بداياته توجهات فكرية وأدبية؟ ألم يتغنّ الشعراء والأدباء بفلسطين؟ ألم تُفرض مقاطعة سياسية واقتصادية وثقافية على كيان الاحتلال من قبل الدول العربية؟ وهذا ما حدث كذلك مع حرب فيتنام التي تحولت بمرور الوقت إلى مضمار يتسابق فيه ذوو الاختصاصات لطرح رؤاهم إزاء ما يجري ضمن أطر اهتماماتهم. ويمكن القول إن اقتحام القطاع الطلابي دائرة السجال يضيف أبعادا جديدة لأي حراك سياسي. بل أن الحراك الطلّابي كثيرا ما كان الصاعق لانفجار سياسي أوسع، فيدخل العمّال على الخط مطالبين بحقوق نقابية ومعاشية، ثم تتبعها الأحزاب والمجموعات السياسية لتطرح ما يناسب مشروعها السياسي. وحينما يكون الوضع محتقنا، تدخل العائلات كذلك مطالبة بإطلاق سراح أبنائها المعتقلين من سجون النظام الحاكم.
ربما لم تشهد الجامعات الأمريكية حراكا طلابيا كما يحدث هذه الأيام. لقد حدثت في السابق تظاهرات واحتجاجات طلابية ضد العنصرية خصوصا بعد وفاة جورج فلويد في 25 مايو 2020. وقبلها تحرّك الطلاب في ذروة حرب فيتنام. كانت تلك الحرب نقطة تحول في الحراك الطلابي في الولايات المتحدة، فقد انطلقت الحركة الطلابية لتقاوم تلك الحرب بقوة.
ولم تكن مظاهرات عادية ضد السياسة الخارجية بل كانت تشكك في شرعية السلطة التي أدخلت البلاد في حرب مع فيتنام، وتطالب بحكم يتوفر على قدر من الأخلاق. وبلغت تلك الاحتجاجات ذروتها بمظاهرة صاخبة في 1967 توجهت نحو مبنى البنتاغون ضد حرب فيتنام. وتصاعد الحراك الطلابي بعد مقتل أربعة طلاب برصاص عناصر الحرس الوطني خلال احتجاجات طلابية بجامعة مقاطعة كنت الأمريكية وذلك في 4 مايو 1970. فقد كان هناك تجمع معارض لتوسيع دائرة الحرب الفيتنامية لتصل إلى كمبوديا، وكذلك لتواجد الحرس الوطني الأمريكي في الحرم الجامعي. وكان من نتيجة ذلك خروج أكثر من 4 ملايين طالب في مظاهرات بأغلب الجامعات، وتصاعدت المعارضة للدور الأمريكي في حرب فيتنام والتدخل في لاوس وكمبوديا.
هذه المرة بدأ الحراك الطلابي مختلفا وفي اتجاه مختلف عما هو متوقع. ففي الجامعات الأمريكية الكبيرة والعريقة مثل جامعة كولومبيا وبنسلفانيا وجورج واشنطن وتكساس وبيركلي وأكثر من ثلاثين جامعة أخرى تظاهر الطلاب متفاعلين مع ما يجري في غزة ومطالبين بدور أمريكي مختلف عن الدور الحالي الداعم بدون حدود للسياسات الإسرائيلية. وهذه ظاهرة ستكون لها تبعات وتداعيات سياسية عميقة.
فالولايات المتحدة الأمريكية التزمت سياسة واضحة وثابتة داعمة لـ «إسرائيل» الأمر الذي أصبح موضع نقاش في أوساط النخب الأمريكية التي تتساءل عن مدى حكمة هذه السياسة وما الذي تجنيه الولايات المتحدة منها.
ويزيد من حدة الشجب والانتقاد لهذه السياسة ما تمارسه قوات الاحتلال من قمع وانتهاك لحقوق الإنسان وعقوبات جماعية وعنف وصفه الكثيرون أنه «حرب إبادة». القوات الأمريكية من جهتها استخدمت قوة مفرطة لمواجهة الاحتجاجات والتظاهرات الطلابية في الجامعات. وصدرت تحذيرات من تفاقم الحراك الطلابي واحتمال استخدام الرصاص الحي ضد المشاركين. وقالت منظمة العفو الدولية في تغريداتها: «واجهت إدارات الجامعات الأمريكية الاحتجاجات الداعمة لحقوق الفلسطينيين بعرقلتها وقمعها.

في الجامعات الأمريكية الكبيرة والعريقة تظاهر الطلاب متفاعلين مع ما يجري في غزة ومطالبين بدور أمريكي مختلف عن الدور الحالي الداعم بدون حدود للسياسات الإسرائيلية

بدلا من السماح لطلابها بممارسة حقهم بالاحتجاج وحمايته، بذلت جهدها لقمع هذا الحق، حتى أنها أشركت السلطات المحلية وطالبت باعتقال المحتجين وأوقفت الطلاب المشاركين في المظاهرات السلمية عن الدراسة». وأكدت المنظمة «الحق في الاحتجاج مهم جدًا للتحدث بحرية عما يحدث الآن في غزة، خاصة مع استمرار الإدارة الأمريكية بإمداد الجيش الإسرائيلي بالأسلحة، وهي متواطئة بشكل متزايد في الفظائع التي تُرتكب ضد الفلسطينيين كل يوم».
ومع تصاعد أعداد ضحايا القتل الإسرائيلي الممنهج يتوقع تصاعد الاحتجاجات في بلدان كثيرة. ولا يُستبعد تفاقم الأمر وعودة شبح مظاهرات فيتنام التي هزّت أركان النظام الأمريكي قبل نصف قرن. وثمة توقعات بالانعكاسات السلبية لتلك التظاهرات وتداعياتها على رئاسة جو بايدن بسبب سياسته الداعمة للاحتلال. وقد تكون تلك السياسة عاملا لحرمانه من الفوز بالانتخابات المقبلة. هذا برغم عدم رغبة الكثيرين بفوز دونالد ترامب الذي سوف يستفيد كثيرا من تراجع حظوظ بايدن. ومع تصاعد حدة الاحتجاجات والتظاهرات يزداد قلق فريق بايدن الانتخابي. فقد توسع الحراك وانتقل من جامعة لأخرى حتى بلغ عدد الجامعات المنتفضة قرابة الأربعين. ورفعت شعارات ضد بايدن. كما عرقل المتظاهرون حركة المرور في الشوارع الحيوية ومنها برج البوابة الذهبية في كاليفورنيا. وبدلا من التناغم مع المتظاهرين وإبداء شيء من التغيير في سياساته الداعمة لـ «إسرائيل» تعمّد بايدن انتقادهم واتهامهم بـ «معاداة السامية». وقارنت صحيفة «نيويورك تايمز» بين التظاهرات الحالية وما حدث في العام 1968. يومها كانت أجواء أمريكا ملبّدة بالتوترات السياسية التي اتخذت طابعا شعبويا غير مسبوق. فقد كانت حرب فيتنام عاملا لانقسام سياسي كبير، وجاء اغتيال روبرت كنيدي ومارتن لوثر كينغ في العام نفسه ليزيد التوتر في المجتمع الأمريكي خصوصا الأوساط الطلابية. وعندما عقد الحزب الديمقراطي مؤتمره في ذلك العام هيمنت عليه أجواء التظاهرات التي شابها شيء من العنف. وتقول الصحيفة إن نشطاء القضية الفلسطينية هذه المرة يخططون لحضور مؤتمر الحزب الديمقراطي في الصيف، الأمر الذي من شأنه إحداث اضطراب سياسي عميق على غرار ما حدث آنذاك، ويؤكد عدم قدرة الديمقراطيين على احتواء الوضع الحالي كما فشلوا آنذاك.
هناك حقائق عديدة يجدر طرحها عند الحديث عن الحراك الطلابي المتصاعد. أولها أن الحركة الطلابية شهدت في العقود الأربعة الأخيرة تراجعا كبيرا لأسباب من بينها تغير المناخ السياسي في العالم وإلهاء الطلاب بما يبعدهم عن السياسة خصوصا مع انتشار الهواتف الذكية وبرامج التسلية المتعددة. ثانيها: عمل المؤسسات الغربية الحثيث لتحييد الحراك الطلابي الذي كثيرا ما أدى لتوسع دائرة الاحتجاج ضد السياسات الحكومية خصوصا في الدوائر العسكرية وتوسيع الصناعات العسكرية. ثالثها: الخشية من أن تكون الصحوة الطلابية الأمريكية ناقوسا يوقظ الحركة الطلابية العالمية ويعيدها إلى دورها التاريخي الذي ساهم في ترسيخ الوعي السياسي لدى الشعوب ودعم حركات التحرر الوطنية في حقبة الحرب الباردة. رابعها: أن تصاعد دور بعض الحركات الدينية في الحقبة الأخيرة كان له أثر على الحراك الطلابي الذي أصبح مؤدلجا بشكل كبير، ربما ضمن خطط لإضعافه وتهميشه. ويمكن ملاحظة هذه الحقيقة من خلال أنشطة المجموعات الطلابية في الجامعات الغربية هذه الأيام، فاهتماماتها منصبّة على أنشطة غير سياسية، وتكاد أنشطتها تخلو من الأدوار التي كانت تطبع الحركة الطلابية آنذاك. وبدلا من تعميق دور الطلاب في مشاريع التغيير الاجتماعي والسياسي وإعدادهم لأدوار مستقبلية ضمن تلك المشاريع، يُحصر اهتمامهم بالممارسة العبادية البعيدة عن الاهتمامات الأخرى. سادسها: أن الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية أضاف بعدا إعلاميا وشعبيا جديدا للقضية الفلسطينية، وأحدث استقطابا في التفكير الطلابي تم تغييبه خلال نصف القرن الأخير. وتدرك الولايات المتحدة الأمريكية والحكومات الغربية والعربية أهمية الدور الطلابي في دعم مشاريعها وحروبها أو معارضتها. وحيث أن التوجه الطلابي (وهو جزء من الحركة النقابية العالمية التي هي الأخرى تشهد ضمورا وتراجعا) يميل عادة لرفض الحروب والتدخلات العسكرية، ويهتف ضد الاستبداد وينطلق للدفاع عن معتقلي الرأي والمناضلين المرتهنين لدى الأنظمة القمعية، فقد تم الإجهاز عليه بالأساليب التقليدية لدى الحكومات. واليوم تستخدم أدوات الحرب الناعمة لمحاصرة الدور الطلابي وتمييع الأجيال الناشئة ودورها في قضايا الحرية والديمقراطية والاستقلال.

كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية