الآن، حيث لا ننزل إلى نهر الدم مرتين

عظام الزمن: كنت أبحث عن شيء ما. فتحت درجًا ‘جارورًا’ في مكتبتي فانفتحت أبواب الجحيم. مثلما تنتصب جثة فجأة في تابوت، فتح الماضي عينيه وشرع يحدق في وجهي بوقاحة أنستني ما كنت أبحث عنه.
بعض ألبومات صور، تحمل التاريخ بدقة والشرح الضروري على ظهر كل صورة من صورها، وسط فيض من الصور المكدسة في فوضى، معظمها بلا تواريخ. كنت في الصور في عمر أكبر أبنائي حاليًا، وهم يخطون أوائل خطواتهم، على شاطئ البحر، في منتزه، فوق دراجة داخل البيت (ثلاثتهم متقاربو الأعمار حتى ليبدون توائم). وكنت قررت أن أهبهم طفولة فوتوغرافية أكثر رغدًا من تلك التي عشتها؛ فصرت لا أفوت لحظة مميزة إلا وحبستها على أفلام سرعان ما عرفت طريقها إلى معامل التظهير وعادت لترتيبها، لكن هذا الدأب لم يستمر طويلاً، فسرعان ما تكدست مظاريف الصور، ومع الوقت تمزقت واختلطت صور كل مناسبة مع غيرها. ومع الانتقال من بيت إلى بيت صارت هذا الجارور المخيف الذي تختلط فيه الصور كعظام في مقبرة!
التصوير الفوتوغرافي صراع عات مع الزمن، ينتصر فيه الطرف المستعد. والزمن أقوى للأسف، ندخل حرب الفوتوغرافيا بكامل اليقظة، وما نلبث أن نرخي قبضتنا، فتكون هذه الكومات من اللحظات، غير المرتبة، صعبة الوصف، وكلما طالعناها نتوعدها بفرصة قادمة للتنظيم والتبويب، لكن الفرصة لا تأتي أبدًا، ويومًا بعد يوم نتعلم عدم الاقتراب من الجارور المخيف كما نفعل حيال غرفة ميت عزيز.

نرجسيتي الغابرة:

قلة صور الطفولة، لم تكن دائمًا من إملاق، كانت الكاميرا رعبًا حقيقيًا بالنسبة لي، ينعوج فمي، وأصبح أقل وسامة مما أنا عليه. قلت: أقل وسامة، ولم أقل أكثر قبحًا. كتبتها هكذا عفويًا، فتذكرت مقولة سوزان سونتاغ، عن رفض الكثيرين للتصوير، فهي لا تحسبه على الإحساس بالانتهاك الذي يصيب البدائيين، بل تعتبره خوفًا من اختبار رفض الكاميرا لهم، حيث كل شخص يتمنى أن تحبه الكاميرا، وأن تمنحه صورة يكون فيها أكثر وسامة مما هو عليه في الحقيقة.
أتصور أن جرأتي على الصور كانت تتصاعد مع التعرف على نصف البشرية الآخر، كلما وجدتني مقبولاً في عين فتاة يقل توتري أمام عين الكاميرا، حتى صرت أحدق في عينها، ليس بوقاحة تامة، أقصد عين الكاميرا لا عين الفتاة. ثم عاد القوس إلى الانحناء، عدت أنظر بعيدًا وإلى الأرض وكأنني بهذا التهذيب أستعطف الكاميرا كي تترفق. ويومًا ما سأستعيد رعب الصبا غير منقوص.
لا نملك حق تغيير لحظة إسدال الستار على حيواتنا، لكننا بالقليل من الثقافة الطبية نستطيع الحفاظ على نوعية مقبولة من الحياة، كذلك يجب أن نفعل حيال حياتنا الفوتوغرافية. مع السن يجب ألا نفرط في التحديق بعيون الصغـــيرات، لأن ما تقوله عيونهن سوف تردده الكاميرا مثل ببغاء.

سر التحنيط:

الفوتوغرافيا تُمكِّن الإنسان من جسد غريمه الزمن. تثبت لحظة وتعزلها عن سياقها، ويصبح بمقدور المنتصر استدعائها في أي وقت. وليس فعل التصويب ما يحقق ذلك النصر، بل الطقوس التي تجري على الجثمان بعد طرح اللحظة أرضًا بالضغط على الزر.
فعل تظهير الفيلم ثم طبعه على الورق يشبه فعل التحنيط عند الفراعنة. يمنح اللحظة جسدًا تتأمله أجيال جديدة بمثل اندهاش زوار المتحف أمام مومياء ملكية. ورغم أن اللحظة المستعادة والملك، ميتان، إلا أنهما يمنحان الرائي العبرة، ويستدعيان كل رصيده من الأسى، من الحنين، وربما من يقظة الضمير.
الآن، الكاميرات في كل يد، بعد أن صارت مكونًا رئيسيًا من مكونات أرخص هاتف محمول. والجميع يستخدمها سواء باعتدال أو بشراهة مرضية، بعكس الساعة(عداد الزمن الذي ولد منسيًا في الهاتف). نكره العداد الذي يذكرنا بمرور الزمن، ونحب الكاميرا التي تصلبه أمام أعيينا.
نلتقط الصور، ونخزن في ذاكرة الجهاز ما قد يصل إلى نصف الوقت الذي عشناه للتو، لكن خزين الذكريات الديجيتال لا يوفر لنا إحساس النصر الذي تعرفه أصابعنا في ملمس جسد اللحظة المحنطة على الورق المحبب أو المصقول.
تشبه اللحظة الميتة في ذاكرة كاميرا رقمية موت انتحاري لم نعثر له على جثمان أو موتًا غير مؤكد لمحارب في الصحراء تقول لنا الأخبار إنه قُضي في غارة نفذتها طائرة بدون طيار.

ربيعنا الذي لا يؤلم:

طوفان الموت الجارف في سوريا لا يؤلم أحدًا. لا أعني بلادة إحساس رعاة جنيف واحد وجنيف اثنين. أعني ضمير البشر الطبيعيين الذي ظل حيًا حتى غزو العراق تقريبًا. لماذا لم تشهد لندن، أو نيويورك، مظاهرات كتلك الكبرى التي شهدتها ضد غزو العراق؟
سوريا؛ البلد الذي تلقى الحصة الأكبر من العقوبة الكونية على الثورة، ملاصق للعراق (الذي صار موته عاديًا كذلك) وليس أبعد من فيتنام التي انتفض لها الأمريكيون.
عيون العالم مفتوحة على الموت بالجملة في سوريا، والموت بالمفرق المتناثر في بقية بلاد الربيع العربي. ملايين البشر في الشرق والغرب يكملون وجباتهم أمام نشرات الأخبار، ربما يتناولون الفيشار مثلما يفعلون أمام فيلم سينمائي.
هناك شيء ما تغير في طبيعة الجنس البشري، شيء تغير في الواقع أوبمعنى أدق في الوعي بالواقع، ولا يمكن أن يكون كل هذا بعيدًا عن التغير في طبيعة الصورة.
في فيتنام، وفي ربيع أوروبا الشرقية وحتى حرب الخليج الثانية التي أرخت للموت المتلفز، كانت الغلبة لم تزل للفوتوغرافيا، كان بمقدور الإنسان لمس لحظة الموت في الملمس الخشن لصفحات الصحف. وشاء حظ الربيع العربي العاثر أن يتفجر في وقت هزيمة الورق.
الصحف الورقية تراجعت لتصبح ظلاً لبواباتها الإلكترونية. والموت الملموس الذي كان يحدق في القاريء بثبات صار سيالاً، يجري وينتهي بلا ألم مثلما تجري الحياة.
متلمس الفوتوغرافيا يجلس أمام الصورة بحزن قابيل، يرى نفسه مسئولاً بشكل ما عن عار القتل. مشاهد التليفزيون ومتصفح الموقع الإلكتروني لا ينزل إلى نهر الدم الواحد مرتين، لهذا لا يغضب ولا يستشعر فداحة الموت.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول eng.Gamal Abdel Nasser:

    تفسيرك معقول ..
    الصوره ف الجريده لو لمقتول ف قضيه عادله كانت وقفتنا أمامه ستطول ..
    أما علي النت ..
    فيضان من صور القتلي …
    لاتعرف من منهم الظالم ومن المظلوم ولانردي إفساد أمسيتنا الفاسده أصلا ولاينقصها بالطبع نزف القلب علي موت آخرين ..
    كأنها جزء من مؤامرة إسترخاص القتل بدأت مع حرب العراق أو مع الحروب التليفزيونيه كما سطرت …أو هكذا أري .
    تحياتي لمقالك الرائع .

  2. يقول eng.Gamal Abdel Nasser:

    أظن أن تفسيرك معقول ..
    الصوره ف الجريده لو لمقتول ف قضيه عادله كانت وقفتنا أمامه ستطول ..
    أما علي النت ..
    فيضان من صور القتلي …
    لاتعرف من منهم الظالم ومن المظلوم ولانردي إفساد أمسيتنا الفاسده أصلا ولاينقصها بالطبع نزف القلب علي موت آخرين ..
    كأنها جزء من مؤامرة إسترخاص القتل بدأت مع حرب العراق أو مع الحروب التليفزيونيه كما سطرت …أو هكذا أري .
    تحياتي لمقالك الرائع ….يسلم قلمك

  3. يقول عاطف -فلسطين 1984:

    تحية لك ايها الكاتب العزيز,. احب ان أقرأ دائما مقالاتك:
    كتبت هتا عدة مرات ان ما يحصل في سوريا كان ضروريا لامرين, بل هو ناتج عن عقدتين متقاطعتين ولهذا السبب نرى السكوت الكوني: العقدة الصهيونيه من الجريمه التي التصقت بها وخسارتها لدور الضحيه الابديه, ثانيا التكفير الامريكي وتأنيب ضميره عما فعله في العراق. اذا التقت الامبرياليه مع الصهيونيه حول احداث سوريا. احداث سوريا برئت اسرائيل من جريمتها وحلت لها عقدتها وكذلك الحال مع امريكيا . الم يوازي توني بلير ويفاضل بين الاسد وصدام وايهما اخطر فتوصل للاستنتاج بان صدّام هو الاخطر. بعد احداث سوريا اسرائيل وامريكيا والغرب استكان من تانيب الضمير او أسترد عافيته المتدهورة. اسرائيل بدأت تتكلم بعنجهيه بأن مشاكل العرب بينهم وبين انفسهم وليس معنا. شكرا لكل من ساهم في سوريا بانتاج ما نراه من جرائم لا يمكن تصورها وهي في بث حي ومباشر بعكس حرب الخليج التي تستر عليها الاعلام لكي لا تؤذي فاذت اكثر مما تخيل الغرب.؟ كما يبدو ان الاستنتاج الان في الاعلام: اذا اردت ان تخدر العالم فاغرقه بالصور وليس اخفاء الصور وهذا هو الاستنتاح اذا قارنا حرب العراق وسوريا.

إشترك في قائمتنا البريدية