زيارة اردوغان والوقت الضائع في العراق

يبدو أن تركيا تسعى إلى تحسين علاقاتها مع العراق، أملا في الوصول إلى تفاهمات وحلول للملفات المشتركة. وفي هذا الإطار أتت زيارة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان إلى بغداد في الاسبوع المنصرم، التي لا يمكن القول إن طريقها معبدة بالحلول السحرية. فهناك العديد من القضايا العالقة، التي تحتاج إلى حلول شاملة، ولكن يجب أن يسبقها وجود إرادة سياسية، خاصة لدى الطرف العراقي، الذي يفتقر إليها في ظل الهيمنة الإيرانية على قراره، فما هي دلالات هذا الزيارة التي حظيت باهتمام سياسي وإعلامي كبير وكانت مفاجِئة؟
قد يكون حجم الوفد الكبير المرافق للرئيس اردوغان دلالة على أهمية الزيارة، أو عدد الملفات المدونة في أجندة الرئيس، أو العدد الكبير من مذكرات التفاهم التي تم التوقيع عليها، خاصة الاتفاق الاستراتيجي الثنائي لتوسيع الشراكة، في مجالات الاقتصاد والتجارة وتبادل الخبرات، ومواجهة التحديات البيئية والأمنية الإقليمية. فكل هذه دلالات مهمة، لكن كسر البرود الذي ران على العلاقات التركية العراقية لأكثر من عقد، يتطلب أكثر من مسألة زيارات وتوقيع عقود. وهناك حاجة ماسة لبناء علاقة جديدة، لكن ما يعرقل ذلك هو ملف حزب العمال التركي.
صحيح أن بغداد حاولت التحرك من أجل حصر هذا التنظيم، والحد من عملياته ضد تركيا، انطلاقا من الأراضي العراقية في شهر مارس/ آذار من العام الحالي، لكن على ما يبدو أن تركيا لا تثق بهذا التحرك، ولديها معلومات تشير إلى أن هنالك بعض الميليشيات المسلحة تتعاون مع التنظيم، وتوفر له الملاذ الآمن. لذلك هي تريد أكثر من ذلك من الحكومة، هي تريد الذهاب بعيدا في ملاحقة هذا الحزب، وتطوير منطقة عازلة على حدودها مع العراق، وغيرها من الاقتراحات الأمنية.

كسر البرود الذي ران على العلاقات التركية العراقية لأكثر من عقد، يتطلب أكثر من مسألة زيارات وتوقيع عقود، وهناك حاجة ماسة لبناء علاقة جديدة

جدير بالذكر أن آخر زيارة للرئيس التركي إلى بغداد كانت عام 2011 عندما كان رئيسا للوزراء، يومها كان همه الأول هو التعاون بين الطرفين لكبح جماح حزب العمال التركي، ومن الواضح أن العقل السياسي التركي ما زال مسكونا بهذا الهم، والمطلب الأساسي هو أن تتعاون بغداد مع أنقرة فيه، لكن بغداد ما زالت حتى اليوم عاجزة عن القيام بذلك، كون الشركاء في العملية السياسية يتقاطعون في الرأي، ففي الوقت الذي ترى بعض الأطراف من أحزاب الإسلام السياسي الشيعي أن إنشاء منطقة عازلة على الحدود بين العراق وتركيا هو احتلال تركي وخرقا لسيادة العراق، وإشارة إلى ضعفه وعدم إمكانيته في حماية حدوده، ترى بعض الأطراف في الإسلام السياسي السُني، أن من حق تركيا القيام بذلك كون الحكومة العراقية عاجزة عن التصدي لحزب العمال التركي، الذي يهدد تركيا من الأراضي العراقية، لكن الحقيقة هي أن الموقفين لا ينطلقان من مصلحة وطنية عراقية خالصة، فالطرف الأول يريد احتكارا إيرانيا للساحة العراقية، ولا يسمح بتمدد أي نفوذ آخر فيها، بينما الطرف الثاني يحاول جاهدا أن يوازن النفوذ الإيراني بالنفوذ التركي. وإذا كان الهم التركي هو ملف حزب العمال الكردستاني، فإن الهم العراقي الأول هو ملف المياه، حيث قلة الإطلاقات المائية من الجانب التركي، التي أدت إلى انخفاض مناسيب نهري دجلة والفرات، وقلة المخزون الجوفي المائي، لكن إنجاز هذا الملف مع الجانب التركي لن تحله زيارة رئيس تركي، ولا زيارة مقابلة لرئيس عراقي، بل بما يملكه العراق من أوراق ضغط على الجانب التركي، التي يبدو بوضوح أنه لا يملك شيئا منها. فالواقع السياسي العراقي المأزوم، وافتقار هياكل الدولة الرسمية القدرة على صناعة القرار، عوامل تُضعف من قدرة العراق على فرض رؤيته في هذا الملف، وفي غيره من الملفات الأخرى. وقد يربط البعض التعثر السياسي لحزب الرئيس اردوغان، وحاجته إلى تحقيق تقدم في المجال الاقتصادي كي يستعيد ثقة الناخب التركي بما ينعكس إيجابا على قدرة العراق في استغلال ذلك لحلحلة ملف المياه، والحصول على تنازلات تركية فيه، لكن هذا الأمل ضعيف جدا بسبب فشل القائمين على الحكم في بغداد في إدارة الدولة، واستخدام أوراق الضغط لصالح بلدهم.
لكن لا بد من القول بأن هناك فرضيات تتحدث عن أن زيارة اردوغان إلى بغداد هي محاولة تركية لملء الفراغ الأمريكي في حال تم ترتيب انسحاب قوات التحالف من العراق، فهناك مخاوف إقليمية من أن تبقى إيران هي المسيطر الوحيد، وبالتالي فإن تركيا تبحث عن ملء هذا الفراغ، لكن يبدو أن هذه الفرضية ليست صحيحة، فإذا كان النفوذ الإيراني واضحا من خلال الأحزاب ذات المرجعية السياسية والدينية الإيرانية، ومن خلال الحشد الشعبي، فأن تركيا أيضا لديها نفوذ من خلال الأكراد العراقيين، خاصة في أربيل، ونفوذ ليس قويا من خلال مجموعات ما يسمى الإسلام السياسي السُني، إضافة إلى النفوذ من خلال التركمان العراقيين. أما خروج القوات الأمريكية من العراق، فيبدو أنه سيبقى بضاعة في المزاد السياسي العراقي، ولن يحدث على أرض الواقع، حيث لا رغبة أمريكية في الخروج، ولا رغبة عراقية في إخراجهم. وفي حالة حدوث ذلك فسيكون من الصعب على الأتراك ملء هذا الفراغ لان إيران ستكون هي المهيمن الأكبر على البلد. ويجب أن لا ننسى هنا بأن الأتراك في حاجة إلى الأمريكيين والعكس صحيح أيضا. فالطرفان يعتمدان على بعضهما بعضا. والأتراك لا يطرحون أنفسهم بدلاء، بل يدفعون الأمريكيين للتعاون أكثر معهم في الهجوم على حزب العمال. فهناك تعاون مخابراتي وعسكري بين الأمريكيين والأتراك، ومغادرة أي منهم سيحدث فراغا لا يمكن ملؤه بسهولة.
يقينا أن الأتراك وصلوا إلى ما يمكن أن نسميه آخر الحدود من الناحية العسكرية، وليس هناك المزيد كي يحققوه في منطقة الحدود العراقية التركية، بل هناك الآن محاولة للجلوس إلى طاولة المفاوضات، وتحويل التوجه العسكري في هذه المنطقة إلى تطوير الجوانب الاقتصادية والسياسية، والاستثمار في مشروع طريق التنمية، والاستفادة من الفرص الاقتصادية. في المقابل يرى العراقيون أن الفرصة الاقتصادية باتت جدية ومغرية، لدرجة أن بالإمكان استخدامها كورقة قوية مقابل أوراق كثيرة بحوزة الأتراك مثل، ورقة الأمن وورقة الاقتصاد وورقة المياه، لكن الحقيقة أن كلا الطرفين يعيشان أضغاث أحلام. أما ملف تصدير النفط من شمال العراق المُختلف عليه بين حكومة بغداد وحكومة الأكراد، فهو قضية داخلية لا علاقة للاتراك بها، بل قال الأتراك للطرفين إنهوا مشاكلكم الداخلية بخصوص هذا الملف، ونحن على استعداد لتصدير نفطكم لحسابكم، أو نستورده منكم. كذلك ملف حزب العمال الكردستاني التركي هو قضية داخلية تركية وتدل على فشل الحكومات التركية المتعاقبة في حلها سياسيا، دون اللجوء إلى العنف العسكري، الذي أدى إلى عسكرة العلاقة مع دول الجوار، وبالتالي تم استخدام هذا الملف كورقة ضغط خارجية على تركيا.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية