أحجية اليوم التالي

منذ السابع من أكتوبر 2023، وهو التاريخ المقدس لكل رموز الإمبريالية الأوروبية واعتبارهم ذلك التاريخ هو تاريخ «مذبحة اليهود» في غلاف غزة، وحتى الآن ينشغل الرئيس الأمريكي جو بايدن وتابعه بنيامين نتنياهو، في تحديد «اليوم التالي» لوقف الحرب في غزة، ويخططون ويدرسون مَن الجهة التي سوف تدير القطاع، وكيف ستديره، بعد وقف الحرب و»القضاء على حماس» وتحرير الأسرى، أي أنهم يحلمون بالعودة للاحتلال المباشر، فمنهم من اقترح عودة السلطة الفلسطينية بعد إدخال تحسينات بنيوية عليها (على اعتبار ذلك ممكناً)، وبعض الإسرائيليين يصرون على أن الإدارة ستكون بيدهم ضماناً لعدم تكرار «المذبحة»، وآخرون يطمحون إلى خلق «روابط قرى» محسنة الشكل والمحتوى، وفريق آخر يسعى للاستعانة برموز عشائرية من بئر السبع أو بقوات دولية ـ عربية مختلطة.
ولم تتوقف العبقريات الإمبريالية عن البحث عن «مدير» لقطاع غزة، يتولى مهامه في «اليوم التالي». ولم يخطر ببالهم أن في غزة شعبا ويجب ان يُستشار، أو يفكرون في إشراكه في الحكم، كما تقتضي أبجديات الديمقراطية الأولى. كما لم يأت أحد على ذكر حماس وفصائل المقاومة الأخرى على افتراض أن القضاء عليهم قد تمّ إنجازه. وهذا الانشغال في إدارة قطاع غزة في «اليوم التالي» مقتصر على دائرة اهتمام السلطة المهيمنة على مسار الحرب في غزة، وهي الولايات المتحدة، وتحاول أن تقوم بترويض أتباعها في حكومة الحرب الإسرائيلية، وهي التي تحضر اجتماعات تلك الحكومة وكأنها «من أهل الدار».
وسارعت السلطة الفلسطينية لإظهار استعدادها للقيام بدورٍ يحدده «المعلّم»، وبادرت بتغيير ما يسمى «الحكومة»، فشكلت حكومة جديدة، إلاّ أن المحاولة لم تجد الترحيب المتوقع، ذلك أن «الحكومة» ـ أي حكومة فلسطينية ـ لا تملك من الحكم إلاّ الاسم، مع الاحترام لمحمد اشتيه والدكتور محمد مصطفى، ذلك أن أي حكومة فلسطينية بما في ذلك الرئاسة، ليست أكثر من مكتب للتنسيق مع الحكم العسكري الإسرائيلي، مهما أسبغوا عليها من ألقاب فخمة.

اليوم التالي هو اليوم الذي يقيم الشعب الفلسطيني فيه سلطته الوطنية جزئياً في قطاع غزة، ذلك أنه الأولى بذلك انسجاماً مع مبدأ حق تقرير المصير

إن اللافت للنظر في أحجية «اليوم التالي» أن الرئيس جو بايدن طرح، أو أعاد طرح حل الدولتين (على فرض جديته) في الوقت الذي يتحدث فيه عن سلطة «اليوم التالي» في قطاع غزة. ولو كان جاداً في حل الدولتين لكانت «الدولة» الفلسطينية المقترحة هي المشروع الذي يبدأ بتولي الحكم في القطاع. وتبدأ الحكومة في ممارسة أعمالها والتدريب على القيام بمهام الحكم، منذ أن دشّن بايدن مشروعه. إلاّ أن هذا يدلل على الرياء الرئاسي الأمريكي وعدم جدية الإدارة في مشروعها، والرأي، على الأرجح، تمّ طرحه للاستهلاك والتسلّي. إلاّ أن الجانب الأخطر من المشروع الأمريكي هو أن الإدارة الأمريكية، أغفلت المهمة الملحة والواجب تنفيذها، إذا أرادت هذه الإمبريالية أن تنهي الصراع وتضع حداً للدماء والدمار (وهي أضغاث أحلام على أي حال). أليس أوفى بالغرض الأسمى وهو السلام الدائم في المنطقة، أن تطلب الولايات المتحدة من إسرائيل أن تعلن انسحابها من الأراضي الفلسطينية، التي مضى على احتلالها ما يقارب ستة عقود من العذاب والقهر والحرب المتواصلة والفشل الظاهر؟ أليس الانسحاب من الأراضي الفلسطينية هو الحل الأمثل لمسألة «اليوم التالي»؟ ذلك إن الاحتلال، وليس حماس، هو أصل البلاء، كما أجمعت على ذلك كل تقارير مفوضي الأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان، والمذكرات القانونية المقدمة من الدول إلى محكمة العدل الدولية، حول هذا الاحتلال الممتد لستة عقود تقريباً. إنني أدرك أن هذا السؤال أقرب إلى الطوباوية منه إلى سؤال يستدرج رداً جدياً، ومع ذلك يجب التدليل على أن مأساة الفلسطينيين الحقيقية تقع في المربع الأمريكي، وهذا ليس مقتصراً على الرئيس بايدن، ذلك أنه لو أخذنا الرئاسات الأمريكية المتتالية منذ اعتراف الرئيس ترومان بقيام دولة إسرائيل إلى الآن، مروراً باثني عشر رئيساً أمريكياً وانتهاءً بالرئيس بايدن، نجد أن المسار الأمريكي في الدعم الثابت والمتواصل لإسرائيل لم يطرأ عليه أي تغيّر أو تباطؤ، لا عسكرياً ولا سياسياً ولا مالياً. إن هذا التواتر في العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية يدلل على أن إسرائيل مشروع استعماري أمريكي. وبالتالي لم يكن من المستغرب أن تهرع حاملتا طائرات أمريكية إلى شرق المتوسط بُعيد أحداث السابع من أكتوبر. وليس سرّاً أو مستغرباً هذا الكم الهائل من الأسلحة والأموال والجسور البحرية والجوية ما بين الدولة الأم وإسرائيل. ثم هل نستغرب هذه «الفزعة» الأمريكية الأوروبية الإبراهيمية لحماية إسرائيل من الهجوم الإيراني؟
إسرائيل مشروع استعماري أمريكي بامتياز، وله فوائد جمّة لها وعبّر عن ذلك أرييل شارون الذي قال إن وجود إسرائيل في المنطقة العربية يوفر على الأمريكيين مليارات الدولارات، وبالتالي كان يرفض القول إن أمريكا تدعم إسرائيل، ذلك انه في رأيه إن ما تدفعه الولايات المتحدة هو مقابل «خدمات» تقدمها اسرائيل للدولة الأم.
وقد يُقال إن الرئيس أيزنهاور كان الاستثناء للرؤساء الأمريكيين، حين شاركت إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر، واحتلت غزة وأجزاء من سيناء. في تلك الفترة، كان أيزنهاور صريحاً مع رؤساء بريطانيا وفرنسا من أن الولايات المتحدة سوف تملأ الفراغ الذي تتركه الدولتان في الشرق الأوسط بعد هزيمتهما في حرب السويس، ثم طلب أيزنهاور من بن غوريون الانسحاب إلى ما وراء خطوط الهدنة. وحين كان بن غوريون يماطل في الانسحاب ويطالب بضمانات، كتب له أيزنهاور قائلاً «إذا قبلنا أن الهجوم المسلح يحقق أغراض المهاجم، فإنني أخشى أن نعيد عقارب الزمن إلى الوراء». وذكره بما تخطط له الولايات المتحدة في ملء الفراغ في المنطقة. بعد ذلك مباشرة، بعثت له غولدا مائير وزيرة الخارجية آنئذ،ٍ رسالة تقول فيها إن إسرائيل سوف تنسحب انسحاباً كاملاً وناجزاً. وهكذا كان موقف أيزنهاور أنه يريد أن «يملأ الفراغ» بما سماه الكونغرس آنئذٍ «مبدأ أيزنهاور»، أي أن العملية كانت عملية لخدمة المصالح الأمريكية الصرفة، وليست عملية إرغام لإسرائيل، أو إرضاء للجانب العربي.
إن اليوم التالي هو اليوم الذي يقيم الشعب الفلسطيني فيه سلطته الوطنية جزئياً في قطاع غزة، ذلك أنه الأولى بذلك انسجاماً مع مبدأ حق تقرير المصير، ولو جزئياً، وامتثالاً للقرار الدولي رقم (1514) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي على اساسه تمّ، وما زال تتم، تصفية آثار الاستعمار في العالم بما في ذلك الاستعمار الصهيوني، واعتصاماً بالحق التاريخي من أن غزه كانت وطناً لأهلها النجباء وستبقى.
محام وكاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية