أبو منير.. 100 عام من خفة الدم- مولود بالدولة العثمانية: صديق للعرق والكّبة اللبنانية

حجم الخط
2

الناصرة ‘القدس العربي’ من وديع عوادة: في معظم الأحيان تترك الأيام مفاعيلها السلبية على الناس، مظهرهم، مزاجهم وروح النكتة لديهم مقابل تبعات إيجابية أهمها ثراء التجربة. لكن الشيخ لطف وديع الياس متي (أبو منير)، من عيلبون في الجليل داخل الأرض المحتلة عام 48 لم يسمح للأيام أن تسلبه فرحة الحياة وروح الفكاهة وظل الكأس في يديه وهو ظمآن للمزيد رغم بلوغه الـ 102 من عمره. وفق ‘الكوشان’ التركي الخاص به والمكتوب بالتركية، ولد الشيخ العيلبوني في 1330 هجري. وكل ما لدى أبو منير الذي عمل في عدة أمور من بينها شرطيا في بوليس الانتداب البريطالني في حيفا مقابل ست ليرات فلسطينية شهريا، هو ثمرة تجارب الحياة، فهو لم يذهب للمدرسة في تلك الأيام لضيق الحال.
وردا على سؤال ‘ القدس العربي’ يقول ‘إن جيش الإنقاذ في فترة الانتداب أثقل على أهالي قريته عيلبون وكان ينتقم من بعضهم بعدة وسائل منها إجبارهم على شرب الماء مع الملح’.
وفي النكبة عام 48 لجأ أبو منير وأربعة من أطفاله إلى قرية مارون اللبنانية وأقام في بيت أهل زوجته وما لبث أن غادرها بعدما طلب إليه حماه عدة مرات جلب المياه من عين البلدة.
لم تحتمل طلبه فهو حماك وزوجك ابنته؟ سألنا الشيخ لطف فقال بجدية وبلغته المحكية الفلسطينية: ‘ما يكون عمي.. حالته مليحة وعنده أراضي كثير فكل واحد واحترامه والكرامة أغلى من الذهب. بعدين بنته كانت زوجة معززة ومكرمة بيننا احترام وحب كبير من يوم ما تعرفت عليها في قريتي لما أجت تشتغل فيها معلمة أيام الانتداب’.
وبعد نحو الشهرين عاد أبو منير وزوجته من يارون إلى عيلبون مشاة، فيما ركب أطفاله الأربعة على دابة، حتى وصل بيته ووجده فارغا من كل شيء كبقية بيوت البلدة التي تعرضت للنهب والسلب.
واليوم هو غير مولع بالسياسة ويواظب على متابعة برامج التلفاز ويصغي جيدا للموسيقى والغناء وتطربه بالذات سميرة توفيق وصباح.
أبو منير الذي يتمتع بصحة جيدة يحرص أيضا على استخدام قدميه وطيلة العمر لم يتجول في عيلبون راكبا في سيارة.
آخر مرة مكث فيها بالمستشفى كانت في عام 2000 حينما اضطر لتركيب ناظم معدني للقلب.
وقلب أبو منير كبير يتسع بطيبته لمحبة كل الناس الذين يبادلونه المحبة والاحترام وقد احتفلوا به باحتفالية خاصة في نادي المسنين حينما بلغ 100 عام. وتوضح جولييت متي أن حماها لا يكترث بالحر أو البرد أو بكون الطريق ‘طلوع أو نزول’ فظل حتى قبل سنوات قليلة يمارس هوايته الأولى بالسير على قدميه ويرفض ‘التوصيلة’ من أهالي البلد لصالح الرياضة.
على مستوى الغذاء لا يتناول الألبان ومشتقاتها والأهم أنه لا يدخل مطبخا ولا يتناول طعاما بعد الساعة الخامسة مساء على مدار الأيام، معتقدا بأن ذلك مفيد جدا لصحة الجسد.
ويتناول كافة أنواع المأكولات لكن علاقات محبة ومعزة خاصتين تربطه بالكبة سيما من صنع زوجته التي استحضرت معها من يارون في الجنوب أسرار هذه الأكلة اللبنانية.
كما أنه مقبل جدا وبشكل يومي على تناول الزيت والزيتون مع قطعة خبز مسخن وبالمقابل ليست له أي ‘علاقات دبلوماسية’ مع التبولة ومع اللبنة. ترك أبو منير السيجارة منذ زمن، بعدما تعاطى معها بشكل خفيف جدا لعدة سنوات، لكنه احتفظ بصداقته مع كأس العرق فلا يكاد يمر يوم دون أن يحتسي قليلا من العرق، وعادة يأخذه صافيا من دون ماء، وهي بنظره تفرح قلب الإنسان و’تفتح دماغه أيضا’. يقول متوددا وبفكاهة لافتة ‘رشفة من العرق تمنحني التوازن النفسي وتبعث بي شعورا بالراحة’. ويكمل بصوت جلي وقوي رافعا قدحه الصغير مرحبا بصديقه الشيخ حبيب زريق أبو زياد الذي يصغره بـ 12 سنة، وهو الآخر تزوج بنفس الشهر وذات العام(1943).
تزوج أبو منير في تموز 1943من جوهرة خوري، وهي مربية لبنانية جاءت من قرية يارون في الجنوب وعملت في عيلبون.
وظلت أم منير سيدة مثقفة، مؤمنة، تمتاز علاقاتها مع زوجها بانسجام تام كأنهما زوج حمام كما تؤكد كنتها جوليت متي (أم لطف). بعد النكبة كانت حرمت أم منير من التواصل مع أهلها في جنوب لبنان سوى مرة واحدة غداة الاجتياح الإسرائيلي في 1982.
بعدما رحلت عن عمر تجاوز التسعين في 2006 شعر أبو منير أن الدنيا انقلبت عليه رغم أن ولده وديع أبو لطف وزوجته يحرصان على رعايته ببؤبؤ العين وعلى مدار الساعة داخل شقة رحبة في منزلهما. وقتها طلب أن يحولانه لملجأ بعد رحيل زوجته في 2006 لكن نجله وديع وزوجته جولييت، رفضا وأصرا على أن يقيم معهما في واحدة من شقق بيتهما الواسع.
الشيخ حبيب زريق(أبو زياد) مؤرخ عيلبون وحافظ روايتها حفظه لمسيرته النضالية في صفوف الحزب والجبهة منذ 70 عاما وأكثر، ينوه أن أبو منير رجل يمتاز بأخلاقه وطيبته وعاطفته الجياشة ‘في عيد ميلاده المئة بكى لاستذكاره رحيل أعزائه خاصة رفيقة دربه’.
كما في الاستقبال، صافحنا أبو منير عند مغادرتنا وهو يحاول ان يختبر شبابه وشبابنا بالضغط ‘الموجع’ على راحة اليد دليلا على عافيته (دقوا ع الخشب).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول usa suleiman alsaad:

    يعطيك الصحة والعافية والعمر ابو منير

  2. يقول وليد جبرين فلسطين:

    الله الله يا ابو منير ما اروع حكايتك وما اجملها !! وما اجمل الذي نقلها الينا !! تاريخ حي ياتينا من الزمن الجميل من ايام لم يكن هناك حدود ، لم تات المدرسة ام منير الى المدرسة من نفس القرية ولا حتى من قرية لها حدود وتواصل مع قرية ابو منير بل من مكان ابعد يعتبر اليوم بلدا آخر له علم مختلف وسلام وطني مختلف وشعور بالقطرية على غير ما كان اجدادنا يالفون او يتوقعون !! باختصار دعوني اصرخ عاليا : ما اجمل التاريخ عندما تراه بعينيك وتلمسه بيديك وقد كنا نظن ان التاريخ يقرأ من صفحات الكتب وانه ماض لم يعد له وجود فاذا بابي منير العيلبوني يثبت للجميع انهم على خطأ وانه على صواب . حياك الله ابا منير .

إشترك في قائمتنا البريدية