ثقافة الثورة .. وثقافة الدولة !

حجم الخط
0

مات مثقف الثورة، أقصد المثقف الحالم، الذي كان يعد نفسه ليكون ممثلا أعلى للحقيقة. لم يكن لدى الجموع بدائل كبيرة. استمعوا لآلاف الأصوات التي ضمت بين صفوفها قلة من الساسة المحترفين وأكثرية من الدجالين والحواة.
لم يكن صوت المثقف أكثر من ترجيع بعيد لأصوات أعلى وسط صفير الميادين. لم يكن الأمر يدعو للتفاؤل، ليس لأن المثقف التبريري سيقلع عن وظيفته، وليس لأن النظام السياسي سيقلع عن محاولات التدجين وشراء الذمم، لكن لأن المجال العام المزكوم بالفساد طيلة أربعين سنة أو يزيد، لم يعد له من ظهير يسانده، لأن الآلة الجهنمية التي كانت تنفخ في روحه لم تعد صالحة لأداء نفس أدوارها القديمة.
ومع ذلك فالآلة نفسها تحاول بعث الروح في جثامين تعفنت في مقاعدها.
من هنا سيستمر الكثير من سوء الفهم مصاحبا لأي حراك يجهل أهدافه. فالجموع التي دفعت ثمنا باهظا لثورتين لازالت تحلم بنخبة أقل ثقة في نفسها، أقصد أقل خيلاء واستعراضا، فما لم تفهمه النخبة أن الثورة كسرت يقين الأشياء والأسماء. ومن أسف أن النظام الشمولي الذي سقط في يناير والنظام الكهنوتي الذي سقط في يونيو اعتمدا معا ثقافة الوثوقية. الأول اعتبرها تعويذة الاستقرار، والثاني اعتبرها تعويذة لدخول الجنة.
فالدولة الشمولية تمسكت بوحدة الثقافة ودولة الاخوان اعتصمت بوحدة الدين.
أما وحدة الثقافة فأنتجت عقلا يخلو من التضاريس، وهو عقل تلقيني بامتياز. وحدة الدين أنتجت عقلا يقدس المعرفة النقلية في مقابل احتقار المعرفة العقلية من ثم فإن علاقتها بالزمن علاقة نقائض .. فهي تعتمد على تثبيت القيم الإنسانية باعتبارها خارج الصراع التاريخي. وفي الإجمال فإن فكرة كلا الفريقين تقوم على العصمة وامتلاك الحقيقة، الأمر الذي يجرنا الى سؤال أكثر تعقيدا عن مفهوم كليهما للآخر، وعن قدرته على إعادة صياغة هذه الوحدة لصالح تعظيم قوة المشتركات المجتمعية و القومية على السواء، وإلا فنحن نحتاج الى تفسيرات عاجلة لأسباب تغييب القوة الثقافية القبطية التي كانت شريكا أساسيا في صناعة العقل القومي منذ أكثر من قرنين من الزمان، وعلينا أن نتذكر أن مسيحيي الشرق هم من وضعوا اللبنات الأولى بل الأساسية لما عرف فيما بعد بالفكر القومي.
إن الذين يحدثوننا الآن عن وحدة الدين من ناحية ووحدة الثقافة من ناحية أخرى، ‘أخص بالذكر دعاة المصالحة مع الإخوان، ودعاة الإبقاء على رجالات مبارك وفاروق حسني في وزارة الثقافة’ لا يدركون قطعا أن هذه الوحدة تنطوي في داخلها على نية لتقسيم المعرفة، حسب الرتبة الاجتماعية من ناحية وحسب الرتبة الدينية من ناحية أخرى، هذا عوضا عن منح القوة المجتمعية القادمة بعد الثورة الحق في الاختيار.
أمر التغيير ليس يسيرا بالتأكيد، لاسيما إذا كانت الوزارة المعنية بالنهوض بالشأن الثقافي عاطلة عن الفهم، ومتراجعة مئات الفراسخ عن حاجات ملايين ممن ينشدون المعرفة. فالتناقض البادي بين المضمون الثوري وبين القدرة على التعبير عنه، عائدة الى أن أدوات الفعل وقعت في الأيدي الخطأ، ولن تتمكن الوزارة من النهوض بالفعل الثوري بينما تتوزع قدراتها على إرضاء فصيلين، أولهما : قيادات تعاونت مع نظام مبارك والإخوان ودافعت عن شعاراتهما، دون أن تري أية غضاضة في حمل شعارات الثلاثين من يونيو أيضا، بعد أن حملت بنفس الأيدي، الشعارات النقيضة. وقد عادت قيادات هذا الفصيل ‘سالمة’ ! الى نفس مواقعها القديمة في الوزارة. وثاني هذه الفصائل: مجموعات محمومة بالدعوة لتفكيك وزارة الثقافة وغلق أبوابها واقتصار دورها على دعم المؤسسات الأهلية والناشرين من أصحاب المصلحة. وقد طالعت عدة أوراق لإحدى المؤسسات الأهلية الممولة من عدة هيئات تمويلية معروفة على رأسها مؤسسة ‘فورد’. تتحدث عن كيفية وأدوات هذا التفكيك، وعلى رأس ذلك طبعا استبعاد ما يقرب من ربع موظفي الوزارة وإخضاعهم لنظام المعاش المبكر. ورغم ما يبدو من وجاهة في بعض هذا الطرح من الناحية النظرية، لاسيما فيما يتعلق بكسر شوكة البيروقراطية، فلابد من التنبيه الى عشرات المزالق. فالمؤسسات الأهلية التي تعمل بالثقافة والتي يتشدق هؤلاء بدورها لا تغطي أكثر من 1% من احتياجات المواطن المصري على مستوى الجمهورية، فضلا عن أن دور النشر التي تسعى لتدمير أو بيع الهيئات الكبرى لا تغطي أكثر من 5% من الاحتياجات نفسها، هذا فضلا عن ضرورة إخضاع الفكرة برمتها للنقاش العام، حتى لا تكون الثقافة مدخلا لتفكيك العقل المصري وليس الوزارة فحسب .
وأتصور أن ثمة خطوات حتمية لابد من الانتباه لها، إذا أرادت الثورة أن تكون موجها أساسيا للعقل العام :
أولا : ضرورة التواصل مع الكتل الثقافية الفاعلة في العالم، لأن الثقافة المصرية قامت على التنوع والتعدد والتلاقح وهو ما حفظ لها الكثير من حيويتها .
ثانيا : كسر طوطمية نقاء الثقافة المحلية ووحدتها، فليس ثمة ثقافة تقوم على تفريغ محيطها من غيرها، فالثقافة لا تقوم على الإقصاء.
ثالثا : تمكين الكفاءات الطليعية المبدعة في كافة المجالات، ودعمها للانتقال من مرحلة التأثير والتأثر الى مرحلة الخلق والابتكار.
رابعا: الدعوة لإطلاق مشروع حضاري متكامل الأركان تلتف حوله القوة المجتمعية الصاعدة، يقوم على توسيع مفهوم الثقافة باعتباره لا يمثل فكرة الدولة عن نفسها بل يمثل مجمل المنتج الروحي للأمة، ما يعني توسيع رقعة المساهمين في صنعها.
خامسا: إقصاء مجموعات المصالح التي تتعامل مع الثقافة باعتبارها وجودا استعراضيا وكرنفاليا يصب في مفهوم الفرجة وحصد المكاسب في النهاية، ولن يحدث ذلك سوى بسيادة مفهوم جذري وجامع للثقافة الوطنية.
الثقافة، قطعا وكما أشرنا، ليست فكرة الدولة عن نفسها، بل هي امتلاك الهيئة الاجتماعية لقدرتها على التغيير ومن ثم صناعة المستقبل، وهنا تستحيل الأمة كلها مضمونا ثقافيا؛ وليس فئة منها تخص نفسها بصفات فوق البشر.
فهل وزارة الثقافة قادرة على الفهم ؟ .. أتمنى ذلك.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية