ماتا هاري… جاسوسة أم ضحية؟

تمثل الهولندية «ماتا هاري» علامة فارقة في الإعلام العالمي وتاريخ الجاسوسية، فاسمها يرمز دائما إلى الحسناء التي تتلاعب بالرجال بالإغراء للحصول على معلومات سرية لجهاز مخابرات أجنبي. ولكن هل كانت هذه الفتاة جاسوسة فعلا أم إنها كانت ضحية ظروف دولية لا قدرة لها على مواجهتها.

البداية

ولدت « ماركريتا زيلي» (ماتا هاري لاحقا) في هولندا عام 1876 ولم تكن حياتها على ما يرام حتى ظهرت عام 1903 في باريس. وهناك واجهت الهولندية ذات الشعر الأسود والطويلة القامة (1.78 م) مشكلة كونها وحيدة ومفلسة، فعملت في سيرك وموديل للرسامين وأعمال أخرى. واعتقد البعض أنها من أصول أوروبية ـ آسيوية لكونها سوداء الشعر وتميل نوعا ما إلى السمرة ولم يزعجها ذلك بل اعتقدت أنها ازدادت إثارة بهذا. إلا أن كل شيء تغير عندما التقت برجل محلي أقنعها باختلاق شخصية «ماتا هاري»، راقصة التعري الاندونيسية، والادعاء بأنها أميرة من جنوب شرق آسيا واختلقت قصة مفادها أنها سبق وأن عملت راقصة في أحد المعابد الهندوسية. ويعني الاسم باللغة الاندونيسية «عين النهار»، أي الشمس. وكان عرض «ماتا هاري» الأول عام 1905 وفي أحد متاحف باريس، ولكنه لم يكن عرضا لأي رقص حقيقي لأنها لم تكن قادرة على الرقص أو الغناء الحقيقي ولكنها خلعت أغلب ملابسها. وحسب قوانين تلك الفترة كان ما قامت به مخالفة صريحة للقانون وجديرة بزجها في السجن، إلا أن «ماتا هاري» كانت تقوم قبل كل رقصة بشرح حول تاريخ الرقصة ورموزها الدينية. وكل هذا كان مختلقا ولكنه وفر قناعا ثقافيا مزورا لما كان في الواقع عرضا فاضحا. وكان الجمهور من النخبة العليا في المجتمع الباريسي وحقق العرض نجاحا باهرا وأصبح مدير المتحف من عشاقها. وبدأت شهرة «ماتا هاري» بالانطلاق، فقد قامت بعروض مماثلة في جميع العواصم الأوروبية البارزة وأمام أبرز رجال عهدها مثل ولي عهد ألمانيا ووزير الدفاع الفرنسي، وكانت كذلك عشيقة الكثيرين منهم، فقد فضلت أصحاب السطوة والثروة والذين مدوها بالمال. ولذلك فقد عاشت في بحبوحة، ولكنها كانت مبذرة ولم تهتم بالادخار وكأن الحياة الرغدة ستدوم إلى الأبد.
بعد بروز نجم «ماتا هاري» أخذ الكثير من الفتيات في تقليدها في عروضها بشكل أكثر جرأة تدريجيا مع اختلاق الأصول الغريبة لهم مما أثار غضبها وقامت بانتقادهم. وحتى بالنسبة لـ «ماتا هاري» نفسها فبعد سنوات من النجومية فإنها أخذت تعاني من التقدم في السن والزيادة في الوزن مما أدى إلى قلة الطلب على رقصاتها ابتداء من عام 1912. وكان آخر عرض لها عام 1915 وأخذ عدد عشاقها يقل وانعكس هذا على حالتها المالية.

الحرب العالمية الأولى

تغيرت الأحوال في أوروبا عند اندلاع الحرب العالمية الأولى وكانت «ماتا هاري» تتنقل بين العواصم الأوروبية مما أثار انتباه أجهزة مخابرات الدول المتحاربة. وكان أول من اتصل بها هوالقنصل الألماني الفخري في أمستردام (هولندا) عارضا عليها مبلغ 20,000 فرنك للتجسس لصالح ألمانيا. أخذت «ماتا هاري» المبلغ ألا أن المؤرخين يجمعون على أنها لم تزود الألمان بأي معلومات من الممكن اعتبارها سرية بأي شكل كان. وحسب أحد المصادر فإن «ماتا هاري» كانت تعاني ضائقة مالية، كما انها اعتبرت هذا المبلغ تعويضا عن ملابس ونقود تابعة لها كان الألمان قد صادروها سابقا.
وفي تلك الفترة أحبت «ماتا هاري» طيارا روسيا في الخامسة والعشرين من عمره كان ضمن خمسين الف روسي يقاتلون إلى جانب فرنسا ضد ألمانيا، وكان حبيبها قد تعرض لسلاح كيميائي ألماني سبب له فقدان بصره في عينه اليسرى. وذهبت «ماتا هاري» إلى فرنسا في أيلول/سبتمبر عام 1916 للقاء حبيبها والأطمئنان عليه، ولكن كان عليها أولا الحصول على أذن خاص من السلطات الفرنسية للذهاب إلى الجبهة. ولذلك اتصلت بأحد عشاقها للاستفسار عن كيفية الحصول على الإذن اللازم، فنصحها هذا بالذهاب إلى إحدى المؤسسات الحكومية والتي كانت تضم أيضا قسم مكافحة التجسس في فرنسا دون أن تعلم هي بذلك. وفي تلك المؤسسة قابلت «جورج لادو»، رئيس قسم مكافحة التجسس، والذي كان قد بدأ في مراقبتها منذ عام، واتفقا على أن تحصل هي على مبلغ مليون فرنك مقابل التجسس على الألمان وأعطاها الإذن اللازم لذلك. ولكنه لم يعطها سوى الوعد بالمال ولم يزودها بأي معلومات حول كيفية الأتصال به أو أسماء الأشخاص الذين يريدها أن تغويهم أو أي معلومات محددة عليها معرفتها من الألمان. ولكنه طلب منها الذهاب إلى هولندا عن طريق اسبانيا وبريطانيا، فسافرت بعد لقائها بحبيبها. وأرسلت «ماتا هاري» رسائل عدة بالبريد العادي إلى «لادو» طالبة منه دفع مقدمة من المبلغ دون أي جواب. ولكنها لم تصل إلى هولندا لأن السلطات البريطانية منعتها من أكمال الرحلة بعد التحقيق معها، ألا أنهم سمحوا لها بالعودة إلى اسبانيا. وفي اسبانيا تعرفت «ماتا هاري» على الملحق العسكري الألماني في مدريد، ولكن الرجل شك بها فأعطاها معلومات خاطئة، وقامت «ماتا هاري» بإرسال هذه المعلومات إلى «لادو» بالبريد العادي وكذلك عن طريق شخص كلفته بهذه المهمة، وطالبت بتزويدها بالمال ولكن دون رد.

الاعتقال

عادت «ماتا هاري» إلى باريس في الثاني من كانون الثاني / يناير 1917 وحاولت جاهدة لقاء «لادو» وبعد محاولات عدة نجحت في مسعاها إلا أنه أنكر استلامه أي شيء منها. ولم تكن «ماتا هاري» في وضع جيد فقد كانت حاجتها للمال في ازدياد ولم تستلم أي أخبار من حبيبها وخشيت أن يكون قد أصيب مجددا. وفي يوم الثاني عشر من شباط / فبراير ألقي القبض عليها في غرفة الفندق الذي كانت تقطن فيه وأخذت الشرطة الفرنسية عند ذاك كل مقتنياتها. وكان رئيس التحقيق شخصا عرف بقسوته وكرهه للنساء غير المحتشمات في تصرفاتهن وحقق معها أربع عشرة مرة، وكل ما كانت»ماتا هاري» تستطيع عمله هو الاستعانة بعشيق سابق لها ليعمل محاميا للدفاع عنها، ولكنه كان عديم الخبرة بالمحاكمات العسكرية. وكانت «ماتا هاري» في البداية قلقة إلا أن قلقها تحول إلى فزع، فقد كانت في الحبس الانفرادي وكانت زنزانتها قذرة وبدون صابون وتسكنها الجرذان ولم تكن هناك وسيلة لها للاتصال بالعالم الخارجي، فحتى بالنسبة لمحاميها كان الاتصال به صعبا ومُنِعت عنها الرسائل، ومن ضمنها رسائل حبيبها الروسي. وكل ما اعترفت «ماتا هاري» به كان أخذها لمبلغ 20.000 فرنك من الألمان ولكن لم يكن هناك دليل واحد يثبت أنها أعطت للألمان شيئا مقابل هذا المبلغ.

المحاكمة

بدأت محاكمة «ماتا هاري» يوم الرابع والعشرين من تموز / يوليو1917 في باريس ووجهت إليها ثمانية تهم مبهمة. وتألفت المحكمة من قاضي عسكري وسبعة محلفين عسكريين. ولم يحاول محامي الدفاع دحض الأدلة التي قدمها المدعي العام العسكري بل طلب الرأفة بالمتهمة مما أضعف موقفها وجلب شخصيات مرموقة في الحكومة الفرنسية وشهدوا أن المتهمة لم تحاول أن تأخذ أي معلومات منهم، ولكن ماذا كانت الأدلة؟ لم يقُدم أي دليل في المحكمة حول أي معلومات كانت «ماتا هاري» من المفروض قد قدمتها إلى الألمان. وقام المدعي العام بجلب الشرطي الذي كان مكلفا بمراقبتها والذي شهد بأن المتهمة كانت تحيا حياة غير أخلاقية وخير دليل على ذلك ادعاؤه بأنها كانت مبذرة وكان عشاقها من ذوي النفوذ والمال ومن جنسيات مختلفة. وكان أهم الشهود هو»لادو» (رئيس قسم مكافحة التجسس) والذي ادعى أن المخابرات الفرنسية التقطت مراسلات بين السفارة الألمانية في مدريد وبرلين مفادها أن السفارة قد أعطت مالا إلى عميل سمته «أتش-21» وأعطت بعض التفاصيل عنه والتي قد تنطبق على «ماتا هاري». ولكنه، وفي الوقت نفسه، ناقض كلامه حول بعض تفاصيل هذه الرسائل، ولم يقدم النسخ الأصلية، مدعيا أنها اختفت. ويجمع المؤرخون أن قصة هذه الرسائل كانت مفبركة من قبل «لادو» نفسه. والطريف في الأمر هو وجود احتمال كبير أن الألمان كانوا على علم بأن الفرنسيين كانوا يتنصتون على تلك المراسلات ولذلك فقد كانوا يرسلون ما كانوا يريدون أن يسمعه الفرنسيون، ولم يقدم أي دليل يثبت أن «ماتا هاري» كانت هي ذلك العميل «أتش-21» الذي ذكر في رسائل السفارة الألمانية في مدريد. وأدينت «ماتا هاري» بجميع التهم وحكم عليها بالأعدام. ولم ينفع طلب الحكومة الهولندية من مثيلتها الفرنسية بالعفو عن «ماتا هاري».

العرض الأخير

وفي فجر يوم الخامس عشر من تشرين الأول / أكتوبر 1917 أبلغت «ماتا هاري» بأنها ستعدم بعد ساعة فارتدت الفستان النظيف الوحيد الذي كان لديها واستعدت لمصيرها المحتوم. وأخذت إلى قلعة قريبة حيث كان في انتظارها فريق الإعدام ومن ضمنه أثناعشر جنديا مغربيا والعسكري المسؤول عن الإعدام وكاهن. وعند مثولها أمامهم رفضت أن تربط يداها أو أن يوضع شيء على عينيها ثم قامت بأطلاق قبلة في الهواء للجنود والكاهن. وأطلق الجنود النار لتسقط «ماتا هاري» جثة هامدة. وقال العسكري المسؤول عن الإعدام «يا إلهي هذه السيدة تعرف كيف تموت».

ملاحظات عن المحاكمة

أقر المدعي العام العسكري بعد ذلك بأن الأدلة كانت لا تكفي لإدانة قطة، وأما «لادو» رئيس قسم مكافحة التجسس فقد أدعى أنه سبق وأن أعطى «ماتا هاري» اسم جاسوس للفرنسيين إلا أن الألمان اغتالوه مما دفعه إلى الاعتقاد بأنهم أكتشفوه عن طريق «ماتا هاري»، وهذا يناقض ما قاله سابقا عن شكه فيها منذ البداية، وإلا لماذا أعطاها اسم الجاسوس. وألقي القبض على «لادو» بعد أربعة أيام من الإعدام بتهمة التجسس لصالح الألمان إلا أنه أخلي سبيله لاحقا لعدم ثبوت الأدلة. وذكر أحد المحلفين الذين حاكموها في مذكراته أن «ماتا هاري» قد تسببت في مقتل خمسين الفا من الجنود الفرنسيين بالإضافة إلى الفرنسيين الذين غرقوا نتيجة لطوربيدات الألمان بسبب معلومات زودتها لهم، وهو ادعاء لم يتم أثباته في المحاكمة.

مفارقات

رفضت الحكومة الفرنسية دفع تكاليف الدفن. ولذلك سلم الجثمان إلى كلية الطب في جامعة السوربون لاستعماله في التعليم، ثم سلم إلى متحف بعد فصل الرأس عن الجسد إلا أن الاثنين اختفيا في ظروف غامظة. وقامت الحكومة الفرنسية ببيع مقتنيات «ماتا هاري» في المزاد وصادرت ريع ما بيع منه.
كانت محاكمة «ماتا هاري» الشغل الشاغل للصحافة الفرنسية آنذاك، واختلف المؤرخون حول سبب إدانتها. وهناك من اعتقد أن السبب كان محاولة إلهاء الرأي العام الفرنسي عن المصاعب التي كانت تواجه الجيش الفرنسي في الحرب أو أن الحكومة الفرنسية كانت تبحث عن فرصة لإظهار أنها تلقي القبض على الجواسيس وبذلك فإنها تمنع الآخرين من التجسس أو أظهار أنها تحقق انتصارا أمام الشعب الفرنسي عن طريق ادعائها أنها تكشف الجواسيس وتعاقبهم. وأما المخابرات البريطانية، التي كانت قد حققت مع «ماتا هاري» كذلك، فقد صرحت بأنها لم تعثر على أي شيء قد يدينها.
أنتجت حتى الآن ثمانية أفلام عن «ماتا هاري» وعلى الأقل تسعة كتب وأوبرا واحدة وعرض شهير للباليه بالإضافة إلى عشرات المقالات. وخصص لها جناح في متحف في مدينتها الهولندية. وهي الآن رمز لشخصية الجاسوسة الداهية التي تحصل على ما تريد عن طريق إغواء الرجال.

٭ كاتب عراقي

ماتا هاري… جاسوسة أم ضحية؟

زيد خلدون جميل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية