عن حولا والناجي الوحيد من المجزرة الإسرائيلية

ذهبنا إلى بيته مباشرة في بلدة حولا الجنوبية اللبنانية المحاذية للحدود الفلسطينية المحتلة، فلم نجده، ثم انتقلنا إلى مقبرة الشهداء الذين استشهدوا في 31/تشرين الأول/اكتوبر من العام 1948 (نحو 70 شهيدا) إثر مجزرة ارتكبها الجيش الإسرائيلي في ذلك اليوم. كان بعض رجال البلدة الكبار يجلسون على مقعد خشبي طويل، يحاذي الحائط الجنوبي للمقبرة، سألناهم عن أبي فهد (حسين محمد ظاهر رزق) الناجي الوحيد من المجزرة، فذكر أحدهم أنه شاهده يتجه هو وزوجته إلى أشجار زيتون لهما، تقع في أسفل ما يسمى «خلة بلوط» لقطف أشجار الزيتون، فالشهر هو شهر القطاف، أي شهر تشرين الأول/اكتوبر، حيث أن امطارا قليلة سقطت قبل أيام، ما يجعل أشجار الزيتون تأخذ نصيبها من قطرات المطر، فتتشبع حبات الزيتون بالزيت بعد أشهر النشاف صيفا.
تبرع أحد الشبان بمرافقتنا (ثلاثة صحافيين) إلى خلة بلوط، حيث تبعد نحو ثلاثة كيلو مترات من البلدة. وعندما وصلنا إلى رأس الخلة، وهي مرتفع كأنها تلة يتدحرج النازل فيها نحو قعر يطول الوصول إليه. فأشجار البلوط ما زالت غالبة فيها. نادى الشاب على أبي فهد، فلم نسمع أصواتا ترد، فاضطررنا إلى النزول بحذر خوفا من التدحرج على أرض وعرة غير مستوية، لنأخذ في اكتشاف وجود رصاصات وقذائف فارغة. نظرنا إلى الجهة الشمالية، فأدركنا أنها الجهة التي تم إطلاق القذائف والرصاص منها، والمكان هو «موقع العباد» الشهير الذي يرتفع نحو 1000 متر عن سطح البحر، حيث بنى الإسرائيليون هناك مرصدا مرتفعا جدا، بحيث يكشف الحدود اللبنانية والفلسطينية المحتلة والسورية وحتى حدود البحر، وهو يقع بالقرب من مستعمرة المنارة التي بنيت على أنقاض بلدة هونين (من القرى اللبنانية السبع).
أدركنا بعدها أن الرصاص والقذائف كانت تنهمر من ذلك الموقع الإسرائيلي في اتجاه خلة البلوط وبلدة حولا أيضا، فأخذنا نتدحرج بحذر وأشد خوفا من أن تصادفنا قذائف لم تنفجر من قبل، ثم شاهدنا أشجارا من الزيتون بدلا من أشجار البلوط، فأدركنا أننا على وشك العثور على أبي فهد، فنادينا عليه فسمع الأصوات وأجاب.
اقتربنا من مصدر الصوت، فوجدنا رجلا سبعينيا متسلقا فرعا كبيرا من شجرة زيتون معمرة، ويلتقط حبات الزيتون ويسقطها على بطانية نشرها تحت الشجرة، وكذلك كانت تفعل زوجته. رحب بنا الرجل، وكذلك فعلت زوجته، وساعدناهما في النزول عن شجرة الزيتون الضخمة، وافترشنا البطانية. تذكرني وتذكرته، حيث كنت قد زرته من قبل، فسألته عن أحواله وعن جرأته وجرأة زوجته في الصعود على شجرة الزيتون من دون سلم يساعدهما في الوصول إلى حبات الزيتون. أجاب هناك صعوبة في حمل سلم لمسافة طويلة في عمري المتقدم (من مواليد العام 1924).
أضاف: خفت أن يذهب قطاف الزيتون ولا أحصل على نصيبي من الزيت والزيتون. سألته ألا تخشى أن تقع أو يصيبك مكروه، جراء صعودك ونزولك عن الأشجار، فابتسم وعلق قائلا: عمر الشقي بقي. لقد نجوت من مجزرة الصهاينة في بلدتنا حولا في العام 1948، وكنت مع أهلي وأهل بلدتي الذين هجرهم الصهاينة، وهجروا كذلك سكان 14 قرية من قرى الجنوب، ضمن خطة واسعة (خطة حيرام) التي نفذها الجيش الإسرائيلي لاحتلال الشمال الفلسطيني وبعض قرى الجنوب اللبناني، وارتكب خلالها مجازر عدة في فلسطين وفي بعض القرى اللبنانية كقريتنا حولا.
نعم لقد تهجرنا لمدة ستة أشهر، امضيناها خارج بلدتنا بين حرش بيروت ومنطقة ضبية، ونحن نعاني من عدم وجود ما يؤوينا أو يطعمنا أو يسقينا، ولم تخرج القوات الصهيونية من قريتنا والقرى المحتلة الأخرى إلا في 23/3/1949، أي بعد عقد الهدنة بين لبنان ودولة الصهاينة، حينها عدنا إلى قريتنا لنجدها منهوبة وخاوية من أي شيء يمكن أن يساعدنا على الحياة، فبدأنا من جديد في الزراعة وتربية المواشي وزراعة الأشجار المثمرة وشتلات التبغ.
ذكرت يا أبا فهد أنك أصبت أثناء ارتكاب المجزرة في بلدتكم في العام 1948 بيدك وفخذك، فما الذي جرى؟ تنهد الرجل وتنهدت معه زوجته، وعلق أبو فهد: حكيت الكثير عن المجزرة وعن ما أصاب أبناء قريتي من قتل وتهجير، ومن هول ما أصابنا، أنسى التحدث عن نفسي، لأنني في النهاية نجوت، بينما استشهد أعزاء لي من الأقارب والأصحاب والجيران. نعم أصبت بيدي وفخذي في اليوم المشؤوم للمجزرة، فتحاملت على نفسي وانطلقت مسرعا ودمي يسيل من جراحي، عندما أحسست بالأمان خارج القرية، فإن أحد معارفي أخبر والدي فجاء ونقلني إلى مستشفى الخليل في صور، وهناك تم استخراج الرصاص من جسدي، ثم التحقت بأهلي في تشردهم بين حرش بيروت ومنطقة ضبية.
سألته: عندما اجتاح الإسرائيليون لبنان في العام 1982، ماذا فعلت؟ علق بسخرية مرة قائلا: بلعت لساني ولم أعد أتعامل مع أجهزة الإعلام، وعندما تم تحرير الجنوب في 25/5/2000، فإن العديد من الناس عادوا إلى بلداتهم وقراهم، وأخذت الحياة تعود تدريجيا إليها بعد هجرة قسرية.
لكن يبدو أن أولادك لم يعودوا إلى بلدتكم، سألت، لتعلق أم فهد قائلة: يا حسرة لقد توزع أولادي بين بيروت وبلاد الغربة البعيدة، ولم يبق في البيت إلا أنا وزوجي، وها نحن نكد ونحاول أن نحصل على رزقنا من كدنا وتعبنا، ليكمل أبو فهد القول أن الدولة لم تعوضنا عن ما خسرناه بأي مقابل، والجنوب اللبناني كان يعاني من الحرمان دائما، حتى إننا ما زلنا نفتقد إلى مياه الشفة.
كان ذلك لقاء لنا مع أبي فهد في العام 2003، وكان يتمتع بصحة جيدة وبحس من السخرية اللاذعة. وعندما أكمل الثمانين من عمره، كان على موعد مع اللحاق بزملاء له سبقوه منذ العام 1948، وقد دفن في مقبرة شهداء حولا، بعد وفاته في 31/1/2005.

٭ كاتب فلسطيني

عن حولا والناجي الوحيد من المجزرة الإسرائيلية

سليمان الشّيخ

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية