حروب مفتعلة وجبهات مفترضة والضحية أمة عربية

ما أن خرج شارون من قطاع غزة، راهن الكثير على اقتتال فلسطيني داخلي فـــي هذه البقـــعة «المحررة»، وما هي إلا سنتان حتى بدأ التناحر الفلسطيني يشـــق أواصر القضية الفلسطينية برمتها.
لم يختلف الوضع كثيراُ، فما أن انسحبت قوات الاحتلال الأمريكي من العراق، حتى انتقل الصراع هناك من مقاومة المحتل لصراع عرقي وإثني وإلى ما أبعد من ذلك. تصاعدت وتيرة الصراع في بلاد العرب، فلم يعد مكان سالماً، ولم تبق عاصمة منيعة أمام عنف ودموية تذّكر بزمن المغول حين اجتاحت جحافلهم مناطق العرب. شئنا أم أبينا، كان لداعش دور ليس بالقليل في هذه التطورات، ولا نهدف في خضم هذا المقال إلى تقييم أفعال أو تبعات جرائم هذا التنظيم، ولكن ننشد نظرة أوسع تحلل واقع العرب بعد ما يقارب الأربع سنوات من ثورات ما يسمى بالربيع العربي.
كنت دوماً من المؤيدين لنظرية المؤامرة على شعوب ومقدرات هذه الأمة، ولكنني لم أنكر قط أي اجتهاد ورأي مغاير في تقييم تطورات الأحداث في منطقتنا. ولكن في واقع الأمر، تجسدت يوماُ بعد يوم قناعاتي بأن ما يدور في هذه المنطقة يستحيل أن يكون عفوياً أو مصادفة، وبدون تخطيط أو رؤية ممنهجة لما ستؤول إليه الأمور. وهنا أستذكر مقولة منسوبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون وهي: إن قوة إسرائيل ليست في ترسانتها العسكرية، لكن في ضعف مصر والعراق وسوريا، وفي مقولة أخرى في إضعاف جيوش هذه الدول.
فحين سقطت بغداد، كان أول قرار للحاكم العسكري الأمريكي المحتل هو تفكيك بنية الجيش العراقي، الذي كان يصنف أحد أقوى الجيوش في المنطقة آنذاك. أعيد بناء جيش العراق بعقيدة قتالية مغايرة عمّا كانت عليه في السابق، وفي الوقت الذي عجز فيه جيش الفرس عن انتزاع بقعة ضيقة من أرض العراق بجيشها التقليدي، استطاع بضع مئات من عناصر تنظيم «داعش» من احتلال ما يقارب ثلث العراق، والاستيلاء على الموصل ثاني أكبر مدينة عراقية، على الرغم من وجود حامية تعدادها الآلاف من جيش العراق «المستحدث».
في سوريا، أنهِك الجيش السوري يوماً بعد يوم، بعد أن تحولت الانتفاضة والثورة الشعبية لحرب بالوكالة، تقودها دول عظمى وأخرى إقليمية. ورغم العداء المعلن لقوى الغرب مع حزب الله، استطاعت قوات الحزب عبور الحدود اللبنانية السورية، بدون أي عوائق أو عواقب، وبدون أدنى تحذير أو تنديد غربي.. لأن الهدف الأسمى هو إنهاك مقدرات هذه الأمة أكثر وأكثر، والدفع بمزيد من الاقتتال وتوسيع دائرة التناحر لتتآكل قدرات الجيش العربي السوري وقوات حزب الله من جهة، وقوات المعارضة والجماعات المسلحة من جهة أخرى.
أما في مصر، فكان لتقديرات الخبراء العسكريين أن أحداث الربيع العربي وما تلاها لم تستنزف سوى القليل من قوة هذا الجيش، وقع الصدمة على الكثير، فافُتعلت جبهات واخَتلقت جبهات أخرى. بدأ الحديث عن سد النهضة في إثيوبيا (التي تربطها علاقات وطيدة بالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل) الذي سيؤثر بشكل مباشر على منبع الحياة ومجرى نهر النيل لمصر والسودان. وعبر المسؤولون المصريون صراحةً أنهم على استعداد لاستخدام الخيار العسكري، إن لم يتم التعامل مع هذا الملف بطريقة تهدئ من المخاوف المصرية.
لم تكن جبهة الجنوب الإثيوبية كافية، فافُتعلت جبهة أخرى في الجنوب تمس وبشكل صريح دخلا رئيسا للاقتصاد المصري- جبهة اليمن. ففي الوقت الذي بدا واضحاً أن سيطرة الحوثيين (أي إيران وفقاً لتقديرات الخبراء) على مضيق عدن ستؤثر على الملاحة في البحر الأحمر، لم تحرك أي من القوى الدولية ساكناً خوفاً على مصالحها الاقتصادية والملاحية. التحرك كان مصرياً وسعودياً، ونشرت «نيويورك تايمز» مقالاً بتاريخ 17 فبراير الماضي أشارت فيه لوجود خبراء عسكريين مصريين بالفعل على الحدود السعودية اليمنية، لتعطي مؤشراً حول جدية التطورات في هذه الجبهة على كلا البلدين. لم تقف الأمور والتهديدات صوب جيش مصر عند هذا الحد، فافُتعلت جبهتان في الشرق (سيناء) وفي الغرب (ليبيا- داعش) ليستمر مسلسل المحاولات لاستدراج الجيش المصري لمواجهة تستنزف قواه بدون توقف.
انعكست هذه التطورات على ترتيب قوة جيوش المنطقة، حيث استند التصنيف على تقييم شامل للجيوش بما يتضمن القدرات التشغيلية والعتاد وموازنة الدفاع. فوفقاً لموقعي بيزنس إنسايدر الأمريكي ومؤسسة «IHS» الاستشارية للفضاء والدفاع والأمن ومقرها في بريطانيا، إن الجيش الإسرائيلي أصبح أقوى جيوش الشرق الأوسط، يليه التركي فالسعودي ثم الجيش الإماراتي فالإيراني، بينما يحل الجيش المصري في المركز السادس ووراءه الجيش السوري (المركز الـ42 عالميا، مقابل 26 العام الماضي)، وجاء الجيش العراقي الذي كان ذات يوم أحد الجيوش المهيمنة بالشرق الأوسط في الترتيب الثالث عشر قبل الجيش اللبناني والجيش اليمني (المركز 79 عالميا مقابل 45 العام الماضي) الذي حل في المركز الأخير.
تطور يصعب وضعه في إطار المصادفة، خاصة إذا ما رُبطت هذه التطورات بالتحسن الملحوظ في الاقتصاد الأمريكي خلال العامين الأخيرين، حيث اقترن هذا التحسن الاقتصادي بانسحاب قواتها من مناطق عديدة في العالم، وارتفاع كبير في مبيعات أسلحتها، خاصة لدول المنطقة، مع انخفاض أسعار البترول. بعبارة أخرى، في الوقت الذي بدت إسرائيل وكأنها في أبعد بقعة عن هذه المنطقة، لا علاقة لها ولا تأثير عليها رغم هول التطورات، حافظت بل وعززت قوتها العسكرية في حين استطـــاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تتخطى أزمتها الاقتصادية الكبيرة، تعمقت جراح العرب وتفرقوا أكثر من أي وقتٍ مضى.
وكان ابن خلدون قد حذر من خطورة كثرة العصبيات على الحضارات، واعتبرها إنذارا بزوال الدولة فقال «إن الأوطان الكثيرة العصائب، قلّ أن تستحكم فيها دولة». تفرقت الأمة لدول ومن ثم لدويلات، ثم قسمت لفئات وعرقيات، وغُذيات العصبيات، وتُركت لتنحر بعضها بعضا تحت ذرائع ومسميات، عُرف آخرها باسم «داعش».
قد ينتقد البعض هذا القول معللين هذا بأن الولايات المتحدة الأمريكية تقود حلفاً ضد «داعش». ولكن إن أمعّنا النظر في هذه المقولة نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تحرك ساكناً، وتقود التحالف الذي لم يؤثر في قدرات «داعش»- وفقاً لتقديرات الخبراء العسكريين الأمريكيين أنفسهم- إلا بعد سيطرة هذا التنظيم «الجديد» على مساحات واسعة من العراق وسوريا، وتحديداً بعد أن بدأت قوات البغدادي تهديد المصالح النفطية شمال العراق والاقتراب من الأكراد- وهو العنصر الذي تراه الولايات المتحدة الأمريكية أحجية مهمة لعدم الاستقرار في العراق وسوريا وتركيا وإيران.
وفي السياق ذاته، يقول ضاحي خلفان نائب رئيس الشرطة والأمن العام في دبي بأنه متأكد تماماً أن من يقود التحالف يعرف مقر البغدادي، وبأن قوافل الدواعش تجوب الطرقات العامة ولا تضرب. أما المحلل الأمريكي أوليفير نورث فقد كشف أن السلطات المصرية طلبت من الولايات المتحدة الأمريكية – التي تمتلك أقمارا صناعية تجعلها على علم بكل مواقع الجماعات المسلحة – إمدادها بمواقع تنظيم «داعش» داخل الأراضي الليبية، إلا أن هذا الطلب قوبل بالرفض، وهو الأمر ذاته الذي حصل مع الأردن بعد إعدام الطيار الأردني الكساسبة.
نعم، هناك من يسعد بفرقتنا، يغذي انقسامنا، وإن اضطره الأمر سيحاول جاهداً منع وحدتنا. ولكنني أستذكر هنا مقولتين الأولى للفيلسوف ويل ديورانت بأن «الحضارات العظيمة لا تنهزم إلا عندما تدمر نفسها من داخلها»، والثانية للفيلسوف أرنولد توينبي بأن «الحضارات لا تموت قتلاً، وانما تموت انتحاراً». إذن فالأمم والحضارات تموت كالأشجار حين تغيب البيئة الصالحة لبقائها، وهي بالأصل عوامل داخلية ـ تتجسد في انهيار منظومة القيم والأخلاقية. إن أراد العرب أن يعيدوا مجداً تليدا، عليهم أن يبدأوا بإعادة بناء مجتمعات وقيم وأخلاق بعدوا عنها منذ زمن.

٭ كاتب فلسطيني

فادي الحسيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سمير_ بريطانيا:

    شكرا للكاتب
    ارنولد توينبي المؤرخ البريطاني وصف بانه اشهر مؤرخي القرن العشرين ومن اشتهر كفيلسوف فهو برنارد شو
    احزن حين اسمع تداول مقولة ان العرب كان لهم مجد
    الاسلام اعز العرب والامه الاسلاميه ككل
    فكان المجد اسلاميا لكن لم يكن للعرب مجد قومي في اي عصر.
    منذ انتهاء العهد العثماني والعرب يتفانوا قوميا ويتوانوا اسلاميا
    والنتيجه هى ما نراه الان

إشترك في قائمتنا البريدية