بلاد العُرب: نظام إقليمي جديد بدأ للتو

منذ أن بدأت الثورة السورية، كان الدور الروسي سياسياً بشكل رئيس، إضافة للدور التقليدي من دعم عسكري ولوجستي.
عاما بعد عام، بدا النظام السوري محاصراً أكثر فأكثر، فزاد الروس دعمهم للنظام رويداً رويدا. وبعد مرور أربع سنوات من الأزمة التي يعانيها حليفها الأهم في المنطقة، ظهر وكأن القيصر ضاق ذرعاً، فقرر الدخول العلني كطرف رئيس في صراع مع أعداء النظام. وتساءل المراقبون، هل تورط الروس في هذا التدخل؟ أم أنه جاء بتوافق دولي؟ أم أن الأمر مزيج بين هذا وذاك ويحمل أبعاد أعمق بكثير عما يبدو عليه ظاهر الأمور؟
أعلنت روسيا في بادئ الأمر أن تدخلها الصريح هو لمحاربة تنظيم «داعش»، بعد فشل الحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية وبمشاركة 64 دولة منذ أكثر من عام. الإعلان الروسي واجه فتوراً عربياً واضحاً، وسط تشكك الكثير من الدوافع الحقيقية وراء هذا التدخل. أحد الآراء الشائعة رجح السبب إلى رغبة القيصر تأمين قاعدة ووجود في المياه الدافئة على ضفاف البحر المتوسط. قد يكون هذا الرأي مصيباً إلى حدٍ ما، ولكن يجب استعراض بعض الحقائق قبل المضي قدماً في قبول هذا الرأي بشكل مطلق. فمن الناحية النظرية، تشكل الموانئ على المياه الدافئة أهمية جيوسياسية واقتصادية كبرى، وهي موانئ لا تتجمد فيها المياه على مدار السنة، أما من الناحية العملية، فشكلت الموانئ على المياه الدافئة أولوية للسياسة الخارجية السوفيتية (الروسية) منذ قديم الأزل. وخاضت الإمبراطورية الروسية حروبا ضد الإمبراطورية العثمانية بهدف إنشاء ميناء على المياه الدافئة، ولم يكن انهيار الدولة العثمانية ليعطي السوفييت أكثر من حق للمرور الملاحي عبر البسفور، إضافة للحصول على قاعدة عسكرية في ميناء طرطوس السوري منذ عام 1971. مع انهيار الاتحاد السوفييتي لم يبق للروس سوى قاعدة طرطوس التي جلبت الكثير من الانتباه في الآونة الأخيرة.
وعليه، فإن القول بأن السبب الرئيس أو الوحيد للتدخل الروسي في سوريا هو تأمين قاعدة على المتوسط هو حديث جانبي، حيث أن الروس تمتعوا بهذا الوجود حتى في أحلك أوقات دولتهم. إذن، أصبح من المؤكد أن هناك أمرا جديدا يحدث ليحطم قواعد لعبة حكمت المنطقة لعقود، وليغّير استراتيجية الروس تجاه بلاد العرب، فحتى في قمة أوج الحرب الباردة، لم يتعد الدور الروسي إرسال أسلحة وخبراء ومعدات لوجستية للحلفاء العرب. هذا التدخل جاء لاحقاً لعدة أحداث مهمة، أولها إنجاز الاتفاق النووي الإيراني، وهو الاتفاق الذي من شأنه أن يعطي إيران دوراً إقليمياً رائداً، أما الحدث المهم الثاني فهو الانسحاب الأمريكي التدريجي من المنطقة، الذي تجسد في عدة ملامح كان منها سحب القوات الأمريكية من العراق وتركها عرضة لمخاطر الهيمنة الإيرانية وعبث الإرهاب الطائفي، وتباطؤ جهودها لحل الصراع العربي الإسرائيلي، وسحب منظومة الدفاع الخاصة بالناتو من الأراضي التركية بذريعة «الصيانة الفنية»، وتخليها عن حلفائها التقليديين في مصر «مبارك» وتونس «بن علي»، إضافة لعزوفها عن تقديم أي دعم حقيقي وترك دول الخليج تواجه الخطر الإيراني المقبل من اليمن وحدها.
قبل عدة سنوات، قال رئيس المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية ريتشارد هاس، إن حقبة الهيمنة الأمريكية على المنطقة ستنتهي، وإن مستقبل الشرق الأوسط سيتسم بتراجع للدور الأمريكي، حيث وجد هاس أنه أصبح للأمريكيين القليل من المصالح لتستمر في الانغماس في المنطقة، وأنه لم يعد كثيراً لتكسبه. هاس اقترح انسحابا أمريكيا من المنطقة، داعياً لإعادة توازن في السياسة الخارجية الأمريكية وبدء التركيز على آسيا بدلاً من الشرق الأوسط. قد تكون مناقشات الكونغرس الأمريكي حول رفع الحظر المفروض منذ 40 عاما على صادرات النفط الخام في الولايات المتحدة، إشارة واضحة إلى أن الأهمية الإستراتيجية للنفط – وبالتالي المنطقة العربية- لم تعد كما كانت عليه الأربعين سنة الماضية، حيث أن البدائل لهذه السلعة – الإستراتيجية سابقاً- بدت حاضرة في ذهن صانع القرار الأمريكي.
وعند المقارنة بين تفاعل القوى العالمية مع مخططات التدخل الروسي في سوريا، يظهر جلياً محدودية النزعة الإستراتيجية الأمريكية الجديدة حيال المنطقة. فتحت شعار «محاربة الإرهاب»، أرسلت الصين حاملة الطائرات Liaoning-CV-16 وكشفت المعلومات عن عزم الصين تعزيز قوتها بمقاتلات J-15 Flying Shark ومروحيات Z-18F و Z-18J المجهزة بصواريخ مضادة للغواصات، كما أعلنت الصين اتخاذ قاعدة عسكرية في جيبوتي.
بريطانيا وفرنسا (وقبل حادثة باريس الإرهابية) أعلنت تعزيز قواها في المنطقة، وأعلنت الأخيرة تحريك حاملة طائرات Charles de Gaulle للمشاركة في الحرب على «داعش»، إضافة لست مقاتلات رافال موجودة في الإمارات وست مقاتلات ميراج موجودة في الأردن.
الولايات المتحدة الأمريكية أمرت بدورها إرسال 50 جندياً فقط من القوات الخاصة، وأكدت أن دورهم سيكون استشارياً لا أكثر. مقارنة لا تدع مجالاً للشك في نوايا اللاعب الأمريكي حيال المنطقة، وفي حين أعلن أوباما أن إستراتيجية روسيا في سوريا ستفشل، أكد بنفسه عدم وجود إستراتيجية أمريكية من أصله تجاه سوريا، في مؤتمر صحافي في أغسطس عام 2014.
وإن وضعنا أحاديث الإعلام جانباً، يمكن القول بأنه لا يمكن أن يتم تبادل لأدوار القوى الكبرى في المنطقة بدون تنسيق مسبق. فإن افترضنا أن القمة التي جمعت أوباما وبوتين قبل ساعات فقط من الدخول الروسي الرسمي في سوريا، لم تتطرق لهذه المخططات، فهناك العديد من الدلائل تؤكد علم ومعرفة الولايات المتحدة بالقرار الروسي. ففي شهر يوليو الماضي زار الجنرال قاسم سليماني موسكو لتنسيق العمل العسكري والتدخل الروسي في سوريا، وهو أمر لا يمكن أن يمر بدون علم الأمريكيين. تقرير رويترز أكد أن زيارة سليماني سبقت لقاء عسكريا روسيا- إيرانيا وذلك لتنظيم الإستراتيجيات العسكرية المشتركة. بعد شهرين من زيارة سليماني تم الإعلان عن اتفاق جمع كلا من العراق وروسيا وإيران وسوريا على تشيكل لجنة إستخباراتية مشتركة في بغداد تهدف لتبادل المعلومات والتعاون لمحاربة «داعش».
في 18 سبتمبر الماضي أعلن مسؤول عسكري أمريكي أن 20 ناقلة عسكرية روسية ضخمة نقلت دبابات ومعدات عسكرية ومشاة لقاعدتها العسكرية الجديدة في اللاذقية غرب سوريا، ولحقتها 16 مقاتلة روسية من نوع Su-27 إضافة لاثنتي عشرة طائرة دعم لوجستي، وأربع طائرات هليكوبتر عملاقة لنقل القوات وأربع طائـــــرات هليكوبتر مقاتلة. إذن، يمكن القول إن الإدارة الأمريكية كانت على أقل تقدير تعلم بهذه التحركات الروسية الكبيرة وفضلت الاستمرار بالحد الأدنى من الوجود في المنطقة، والقبول بمكاسب استراتيجية محدودة إلا أنها واضحة المعالم، كالوجود في سوريا بعدد محدود من الأفراد ودور واضح في مستقبل بلد لطالما كان منطقة نفوذ روسية خالصة.
قد تكون روسيا تهدف لحرب استباقية ضد الجماعات المتطرفة التي أوجعتها طويلاً، ومنع الغرب من استخدامها ضدها في سيناريو مشابه للحالة الأفغانية، إلا أن هذه الأسباب وحدها لا تتوافق مع الحقائق على الأرض، فمحاربة «داعش» لا يستدعي هذا الكم من المقاتلات وأنظمة الدفاع الصاروخي والدفاعات الجوية المتطورة كصواريخ أرض جو SA15 و SA22التي دفعت بها في قاعدة الحميمة. لهذا السبب، ذهب كثير من المراقبين إلى ربط التحركات الروسية بإستراتيجية روسيا البحرية الجديدة التي نشرتها يوم 26 يوليو 2015. هذه الإستراتيجية هي عبارة عن رؤية روسيا البحرية وسياسة شاملة للتحكم بجميع الأصول البحرية الروسية، والأساطيل العسكرية والمدنية والتجارية، والبنية التحتية البحرية حتى عام 2020.
إذن، هناك قوة كبرى تنسحب تدريجياً من المنطقة وقوى أخرى تدخل، ويهدف الروس من دخولهم الصريح في سوريا إلى ضرب أكثر من طير بحجر واحد، فدور أكبر في المنطقة يعطي الروس مساحة أكبر على طاولة مفاوضات الأزمة الأوكرانية. وخلافاً لمحاولتها إنقاذ حليفها الرئيس في المنطقة، خاصة بعدما سربته بعض المصادر العسكرية بأن نظام الأسد بدأ في التهاوي بعد أن أصبحت سيطرته لا تتعدى 18٪ من مساحة سوريا واستنفاد 93٪ من مخزون السلاح، ستملي روسيا إرادتها السياسية على أي حل مستقبلي في سوريا، وكان إدراج إيران وروسيا في محادثات فيينا وحديث وزير الخارجية كيري بأن الأسد قد يسمح له بالاحتفاظ بالسلطة لفترة، وحديث المستشارة الألمانية ميركل بأن الغرب قد يضطر للتعامل مع الأسد، أمثلة لا تقبل التأويل على هذه الخلاصة. ومنه، فقد ضمنت روسيا دوراً أكبر في تشكيل أي حكومة سورية جديدة، حتى إن تم التوافق على خروج الأسد من السلطة، وكسرت الاحتكار الإيراني على الملف السوري.
روسيا وسعت أيضاً وجودها العسكري في المنطقة، فإضافة لاتفاق تبادل المعلومات الاستخباراتية آنف الذكر، عرض القيصر الروسي مجموعة كبيرة من المعدات العسكرية على العراق (مثل طائرات الهليكوبتر العسكرية والطائرات المقاتلة Su25s) التي رفضت الولايات المتحدة بيعها للعراق عام 2013. الأمر لا يقف فقط عند حد النفوذ العسكري والهيمنة، بل يتعداه ليشمل أيضاً إحياء سوق الصناعات العسكرية الروسية، وبيع تكنولوجيات الطاقة السلمية في الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، تعمل وزارة الدفاع الروسية حاليا على صفقات كبرى مع دول الخليج العربية من أجل تطوير سلاح مشاة البحرية، وأنظمة الدفاع الجوي، وتقنيات الطائرات بدون طيار والمركبات المدرعة وأنظمة الإشارات، وتقوم روسيا الآن ببناء منشأتين نوويتين في جنوب إيران، وتتفاوض موسكو حالياً مع السعودية والإمارات والكويت والأردن حول صفقات لتطوير الطاقة النووية، وكانت أكبر صفقة في 19 يونيو 2015 عندما وافقت موسكو على إنشاء 16 مفاعلا نوويا في السعودية.
باختصار يمكن القول إنه يتعين على دول المنطقة التعامل مع قواعد اللعبة بشكل مغاير للشكل التقليدي، وعلى الجميع أخذ روسيا على محمل الجد باعتبارها لاعبا رئيسيا لا يمكن تجاوزه. قوى عالمية أخرى بدأت تبحث عن مكان جديد في النظام الإقليمي الجديد، وقوى إقليمية تحاول مقاومة هذا التغيير، أما الشيء المؤكد هو أن «داعش» عنصر أصيل في مقومات هذا التغيير. ويبقى العرب على حالهم، يراهنون على الشرق تارة وعلى الغرب تارات، وما هو برهان، فهم يتلاعبون ويتآمرون والفرقة والفتنة يزرعون، فتتهاوى حصون العرب تباعاً، وتتحطم أحلامهم مراراً، فيهرولون بغية الرضا مرة، ويتنكرون لرباطهم مرات، بعد أن ضعفت شوكتهم واستبيحت كرامتهم… ولكن، أليس الفجر بقريب.

٭ كاتب فلسطيني

فادي الحسيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول evette sawaya:

    تحليل صائب ومنطقي

    1. يقول فادي الحسيني:

      أشكرك Evette Sawaya

  2. يقول خليل ابورزق:

    و لكن كيف تنسحب امريكا و تترك اسرائيل حليفها الاستراتيجي؟ وجود احدها يعني وجود الاخر. اذا انسحبت امريكا انهارت اسرائيل و هي اصلا ذراع امريكا و الغرب.
    هل ستصطدم روسيا مع اسرائيل؟
    صحيح ان روسيا يجمعها مع اسرائيل عداء مشتركا للاسلام السياسي و لكن لا يوجد في روسيا اللوبي القوي المساند لاسرائيل كما في حالة اللوبي الصهيوني المسيحي في امريكا و انجلترا و المانيا التي تعتقد بضرورة عودة اليهود الى الارض المقدسة للتعجيل بعودة المسيح.

    1. يقول فادي الحسيني:

      أشكرك أخي خليل ابورزق
      السوفييت سبقوا الأمريكان في الإعتراف بدولة إسرائيل عام 1948. الحفاظ على الكيان الصهيوني وحمايته فيه توافق دولي ولا يوجد أي تعارض بين العمل الروسي والتواجد في المنطقة، والمشاورات العسكرية الروسية الإسرائيلية حول العمليات في سوريا لم تنقطع أبداً. ثم أن إنسحاب الأمريكيين من المنطقة لا يعني ترك مصالحها (ومنها حماية إسرائيل).

  3. يقول Slam Adel:

    يبدو ان هناك بدائل اخرى للطافة ستظهر عن قريب ولن يكون النفط هو المحرك الرئيسي لعجلة الصناعة ولهذا سيترك الامر للروس لتكون هي البديل لامريكا لعدم حاجتها للنفط وستكون اوربا واسيا من يستورد النفط ويتحكمون باسعارة ولهذا لا بد من خارطة جديدة للمنطقة لا يوجد فيها دول كبيرة ومؤثرة سوى ايران في الشرق الاوسط بعد ان يعطى لغزة كيان جديد وكذلك الضفة الغربية مع تقسيم سوريا والعراق وتركيا لتكوين كيان كردي وكذلك اليمن واختفاء بعض دول الخليج مع اعطاء الشيعة السعوديون كيان جديد وسوف تكافح هذه الانظمة الجديدة لبناء دولة يمكنها الاستمرار في النظام العالمي القادم

    1. يقول فادي الحسيني:

      أشكرك Slam Adel
      بدائل الطاقة ظهرت بالفعل، والأمريكيين بدأوا في تعديل استراتيجتهم حيال المنطقة بناء على هذه المتغيرات. فيما يخص تقسيم المنطقة، فقد أشار العديد من الكتاب الأجانب إلى هذا الأمر تحت سياكس بيكو 2، وأعتقد أن خلق تنظيم داعش جاء ليجسد هذا النظام الإقليمي الجديد

إشترك في قائمتنا البريدية