«الكاف».. التونسية مدينة الحب والتاريخ والثورة

حجم الخط
1

تونس – «القدس العربي»: مكان واحد اجتمعت فيه أغلب الديانات السماوية وتعاقبت عليه معظم الحضارات الإنسانية، ومدينة ساحرة تضم أبرز المعالم الأثرية في تونس وأحد أهم المراكز الاقتصادية في البلاد وأكثرها تهميشا من قبل الحكومات المتعاقبة بدءا بعهد بورقيبة وانتهاء بحكومات ما بعد الثورة.
تقع مدينة «الكاف» على بعد 160 كيلو مترا من العاصمة التونسية في منطقة جبلية تتميز بطقسها البارد شتاء والمعتدل صيفا، وربما هذا ما دعا البعض لتسميتها بـ»مدينة الحب والجمال» فضلا عن أهميتها التاريخية كمدينة بربرية عاصرت جميع الحقب التاريخية منذ العصر الحجري مرورا بالعهد الروماني ثم البيزنطي فالعربي الإسلامي وحتى الاحتلال العثماني، إضافة إلى أهميتها في مقاومة الاحتلال الفرنسي.
وتمثل «الكاف» نموذجا طريفا للمدينة الجبلية التي تعكس الخصائص الطبيعية والبشرية لجهة التل الغربي التونسي، حيث وجدت أغلب التجمعات السكنية في شكل قرى زراعية اعتلت المرتفعات لأسباب دفاعية، واقتربت من العيون لأسباب حياتية.
ومن أهم العوامل التي أثرت في الحركة العمرانية لـ»الكاف» وجودها في ملتقى عدة ممرات طبيعية تربط المناطق الشمالية بالجنوب، وتربط غرب البلاد بالشرق الجزائري.

مدينة الحب والتاريخ والثورة

وتقع مدينة «الكاف» فوق جبل «الدير» الذي يبلغ ارتفاعه ألف و84 مترا فوق سطح البحر، وتنتصب المدينة في أسفل نقطة من هذا الجبل على ارتفاع 750 مترا باتجاه الجنوب الغربي، حيث يضمن الجبل لها مناعة طبيعية من جميع النواحي، ويزودها بعيون غزيرة أشهرها «رأس العين».
وانتصبت المدينة منذ نشأتها فوق أربع هضاب، أهمها النجد الصخري الذي أعطى المدينة اسم «الكاف» (تحريف لكلمة كهف)، وحماها شمالا وغربا من الرياح الباردة عرّضها طوال النهار لأشعة الشمس فجاء هواؤها نقيا جافا.
و»الكاف» عريقة في التاريخ، فلقد اكتُشف قربها أقدم موقع أثري يُعرف بـ»سيدي الزين» ويعود للعصر الحجري، وثمة بقايا أثرية أخرى حول المدينة تعود لألف عام قبل الميلاد، أهمها الكهوف البدائية والقبور الصخرية.
وكانت «الكاف» قرية بربرية تُعرف باسم «سيكا» وعندما توسعت امبراطورية قرطاج على حساب الممالك النوميدية اتخذتها كقاعدة حدودية، ووضعت فيها مرابطين صقليين انشأوا معبدا لـ»عشتروت» البونية آلهة الخصب والجمال، لكن الملك النوميدي ماسينيسا استطاع لاحقا أن يرجعها إلى مملكته بعد هزيمة القائد حنبعل في معركة «زامة» (202 قبل الميلاد)، لتسقط لاحقا في أيدي الرومان الذي أطلقوا عليها اسم «سيكا فينيريا» نسبة إلى فينوس إلهة الحب والجمال لدى الرومان.
وأصبحت «الكاف» لاحقا أحد أهم المراكز المسيحية في المنطقة، حيث أنجبت العديد من القساوسة، وأدى زحف «الوندال» (قبائل جرمانية شرقية) إلى زيادة تحصن المدينة خلال حكم الإمبراطور البيزنطي جوستيان، ما تسبب في تأخر فتحها من قبل المسلمين، حيث سُميت بعد الفتح الإسلامي «شقبنارية» (تحريفا لاسمها القديم).
وتحولت لاحقا إلى ملاذ للثوار والخارجين على الحكم، حيث احتمى بها «الخوارج الإباضيون» خلال حكم الفاطميين، كما احتمى بها نصرالله بن عياد الكلاعي خلال الزحف الهلالي عام 1052 للميلاد، كما لجأ إليها أهل باجة (شمالا) هربا من أبن غانية الأمازيغي عام 1200 للميلاد.
وخلال الاحتلال العثماني تمت الاستفادة من الموقع الاستراتيجي لـ»الكاف» في إخماد انتفاضات القبائل وخاصة «بنو شنوف» ولمحاربة دايات الجزائر في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي.

أحداث ساقية سيدي يوسف

وبعد احتلال فرنسا للجزائر، ساندت «الكاف» المقاومة الجزائرية التي قادها الثائر الحسناوي بمساعدة بعض القبائل التونسية، إضافة إلى عدة حركات مقاومة أخرى، ويبدو أن المستعمر الفرنسي أدرك مبكرا أهمية هذه المدينة حيث حاول احتلالها لعدة مرات.
ولم يكتفِ الفرنسيون بهذا الأمر، بل ارتكبوا مجزرة كبيرة عام 1958 في قرية «ساقية سيدي يوسف» التابعة لـ»الكاف» وهي قريبة جدا من مدينة لحدادة الجزائرية، حيث شكلت منطقة استراتيجية لوحدات جيش التحرير الوطني الجزائري المتواجد على الحدود الشرقية والذي استخدمها كقاعدة خلفية للعلاج واستقبال المعطوبين.
وخلفت المجزرة التي نفذتها الطائرات الفرنسية حوالي سبعين شهيدا من تونس والجزائر، كانوا متواجدين في أحد الأسواق وبعض المباني الحكومية، فضلا عن شاحنات الصليب الأحمر الدولي والهلال الأحمر التونسي، حيث تواصل القصف لأكثر من ساعة مخلفا دمارا هائلا في القرية.
وقد نددت الصحف في مختلف أرجاء العالم بهذا العدوان الغاشم، كما أدان المجتمع الدولي هذه الجريمة النكراء، منتقدا تجنيد الاحتلال الفرنسي لقوة عسكرية هائلة والاستعانة بالحلف الأطلسي وبمرتزقة من دول أخرى لقصف المدنيين العزل، فضلا عن استعمال بعض الأسلحة المحرمة دوليا كـ»النابالم» وإنشاء مناطق محرّمة في الريف الجزائري، فضلا عن اتباع سياسة القمع والإيقاف الجماعي.

ملتقى الحضارات الإنسانية

والديانات السماوية

وتحتفظ «الكاف» بتراث معماري كبير يعود للفترة الرومانية والإسلامية وغيرها من الحضارات التي تعاقبت على المدينة، فبداية من العين التي ما زالت مقدسة باسم «للامنى» (هبة الله) تكونت جملة مرافق للاستحمام والترفيه، أبرزها العين الرومانية والرواق والمواجل والحمام.
ويربط بين منبع العين في أسفل جبل «الدير» ومصبها دهليز طويل متصل بقاعة مربعة وبجانبها الرواق بطول 40 مترا وعرض 6 أمتار وهو متصل بالحمام الروماني، وكان يستغل للنزهة والهروب من الحر والمطر.
وكانت المواجل (الفسقيات) تصلها المياه من العين عبر نفق، وهي قائمة على 54 عمودا وتستوعب نحو 5 آلاف متر مكعب من المياه، أما الحمام فيحتوي على قاعة مسدسة ذات فسقية مسدسة أيضا ومسقوفة وجدرانها مغطاة بالرخام الأخضر مع أعمدة من مرمر وردي وأرضية فسيفسائية.
وفي «الكاف» معلم طريف وغريب الشكل يعرف بـ»البازيليك» ويُرجح أنه كان مصرفا أو كنيسة مسيحية في القرن الخامس الميلادي، ويتكون من بهو محاط بأروقة مسقوفة ذات أبواب، وقاعة على شكل صليب مؤلفة من أربع غرف موزعة على الأركان، وتم استغلاله في وقت سابق كجامع عبر سقف البهو وإضافة صومعة للمكان، إلى أن تم لاحقا بناء «الجامع الكبير الجديد».
وهناك أيضا كنيسة «دار القوس» وهي من الطراز المسيحي القديم ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع، إضافة إلى مقام «سيدي بومخلوف» (القرن الرابع عشر الميلادي) وهو نموذج للعمارة الدينية في العهد التركي، فضلا عن كنيس يهودي ومتحف العادات والتقاليد الشعبية والخزانات الرومانية، وتشكل القرية الحرفية التي بلغت كلفة تهيئتها 200 الف دولار و»مائدة يوغرطة» التي تقع على ارتفاع 1270 مترا تخليدا لذكرى القائد البربري يوغرطة المازيلي الذي تحدّى الإمبراطورية الرومانية.
أما رمز المدينة فهو «القصبة» التي تتألف من قلعة كبيرة بناها محمد باشا المرادي (ثاني البايات المراديين) عام 1679 ورممها علي باشا ثم خصصها حمودة باشا للعسكريين الأتراك، وحولها المعهد الوطني للتراث لاحقا لفضاء ثقافي، وهناك أيضا قلعة صغيرة بناها حمودة باشا عام 1817.
وتحيط بالقصبة أسوار طويلة رممها كل من علي باشا وحمودة باشا، وكانت تضم ثمانية أبراج وخمسة أبواب أحدها مخفي يُطلق عليه «باب الغدير» (وثمة مثيل له في قصبة العاصمة) وقام الفرنسيون عام 1908 بهدم جزء كبير من الأسوار.
وتشتهر «الكاف» بعدد من الزوايا، أبرزها زاوية «سيدي عبدالله بو مخلوف الفاسي» وتتميز بقبتها ومئذنتها المثمنة ومعمارها الأندلسي، وقد بنيت الزاوية على مرحلتين خلال القرنين الرابع عشر والثامن عشر الميلاديين. وهناك أيضا زاوية «سيدي الملايحي» أو «تربة علي التركي» وهو جد الدولة الحسينية، وتم إرساله مع بعض الجنود إلى «الكاف» بهدف حراستها، فتزوج امرأة «شنوفية» أنجب منها محمد أبا علي باشا وأخرى «شارنية» أنجب منها حسين مؤسس الدولة الحسينية.
أما زاوية «سيدي علي ابن عيسى» فكانت مقرا للطريقة الرحمانية، بناها أحمد بن علي بوحجر عام 1784، وتضم مدرسة ومسجدا ومقبرة، ولعبت دورا كبيرا في مقاومة الاحتلال الفرنسي، ثم احتضنت المتحف الجهوي للفنون والتقاليد الشعبية وجمعية صيانة المدينة.

مدينة الاقتصاد والتهميش

وتتمتع «الكاف» بأهمية اقتصادية كبيرة في تونس، حيث تحوي عددا كبيرا من الثروات الطبيعية (الحديد والإسمنت) كما تؤمن ثلث حاجة البلاد من الحبوب فضلا عن المنتجات الحيوانية والغابية وغيرها، إلا أنها تتضمن أعلى نسب الفقر (42 في المئة) والبطالة (حوالي 30 في المئة) في تونس.
وعانت كغيرها من مناطق الشمال الغربي تهميشا كبيرا خلال عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وحتى حكومات ما بعد الثورة، وهو ما دعا سكانها للتظاهر والإضراب في عدة مناسبات، حيث شهدت في الأشهر الأخيرة عدة احتجاجات أدت مؤخرا إلى شلل تام في كافة مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية بعد تنفيذ أهالي الجهة اضرابا عاما دعا إليه اتحاد الشغل متهما الحكومة بعدم الالتزام بتنفيذ بنود الاتفاقيات المبرمة بين الطرفين والتي تقضي بمكافحة البطالة ودعم مظاهر التنمية في الولاية ودفع عجلة الاستثمار الخاص، وخاصة فيما يتعلق بمشاريع الفوسفات والإسمنت.
واللافت أن أغلب مرشحي الرئاسة زاروا مؤخرا ولاية «الكاف»، وقدموا وعودا «خلبية» للأهالي وخاصة فيما يتعلق بتنمية الجهة ومحاربة غلاء أسعار المحروقات والمواد الغذائية وتراجع القدرة الشرائية، كما قام بعضهم بزيارة قرية «ساقية سيدي يوسف» مستغلين أهميتها الرمزية الكبيرة لدى التونسيين، غير أن معظم سكان الجهة أكدوا أن السياسيين لا يتذكرونهم عادة إلا خلال الحملات الانتخابية.

حسن سلمان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عواطف الكاف:

    السلام عليكم,
    أود أن أعرف أكثر عن تاريخ بلادي ’خاصة مراحل مفصلة عن تأسيسها و أسباب اختيار موقعها .
    و شكرا

إشترك في قائمتنا البريدية