هل تستطيع أمريكا تصحيح فشلها في العراق؟

لا شك في أن التداعيات الخطيرة التي سببتها الأزمة الإنسانية في غزة، قد زادت من حدة حالة عدم الاستقرار في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وتوسعها، لتجعل من الأهداف المعلنة الأمريكية المتمثلة في إرساء السلام مع دول المنطقة، ورمزا للحريات المدنية وحقوق الإنسان في العالم، ليست سوى مجرد وهم.
أحد أهم أسباب فشل الولايات المتحدة في العراق، تكمن في اتخاذ القوة العظمى، القرارات السيئة، التي عملت على تقويض السلطة السياسية، والتي تمثلت في إصرار دعم الإدارات الأمريكية المختلفة، عبر الآليات الديمقراطية، لنظام الدين السياسي، المبني على التمثيل الديني والعرقي، الذي جاء بنتائج عكسية، حيث تم تحديد هوية العراقيين على أسس طائفية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالجغرافيا والانتماءات المجتمعية. والترويج في البداية من خلالها للديمقراطية كواجهة براقة، لتنتهي بالتمسك بالحكم.
من هنا أصبح من الصعوبة إن لم يكن من المستحيل أن نتجاهل قراءة موضوعية لمستقبل العراق والمنطقة، وفق معطيات المنطق والواقع، الذي فرضته أخطاء السياسة الأمريكية من موقفها في العراق، من دون الرجوع إلى الواقع التاريخي العراقي، الذي يضمن سيادته ويؤمن مصالحه. فلا يمكن إلا لجاهل في السياسة، أن يتجاهل شدة المتغيرات السياسية التي تشهدها دول المنطقة في السنوات الأخيرة، من دون أن يتم ربطها بالوضع السياسي لهذا البلد المتأثر بأجندات الدول الإقليمية المارقة، في ظل التغيرات المقبلة في عالم متعدد الأقطاب لإيجاد الحلول لتصحيح فشل الولايات المتحدة في سياستها في العراق. يبقى السؤال عن احتمالات تغير الموقف الأمريكي واستراتيجيته في العراق، في حال فوز مرشح الرئاسة دونالد ترامب الذي تميز بسياسته الخاصة تجاه العراق، على الرغم من تشابه أهداف الإدارات الأمريكية وحرصها على الدفاع عن الأحادية الدولية في عالم أحادي القطب، وباختلاف الأحزاب والرؤساء لكونهما، وكما يراه ويلمسه الكثيرون، وجهين لعملة واحدة، قد لا تختلف مواقفهم إلا من خلال التباين في طرق تنفيذ أهداف «أمريكا أولاً». وهذه سياسة ثابتة لا تتغير بتغير من سيمثل البيت الأبيض، إلا من خلال الخصوصيات والتباين في وجهات النظر، حين اعتبر الرئيس السابق ترامب الحرب على العراق بمثابة الخطأ الكبير. في المقابل، يبدو واضحا أن الحرص الأمريكي للحفاظ على استمرار الأحادية الدولية في عالم أحادي القطب، قد يدفع بالعديد من الدول الإقليمية وبمساعدة روسيا والصين، إلى شل القدرة الأمريكية في تثبيت أهدافها في الشرق الأوسط. وهذا ما نراه واضحاً في أزمة إدارة بايدن من الموقف الإيراني في العراق، وعلاقته بالموقف الصيني والروسي تجاه خطر الأحادية الدولية.

حلفاء الولايات المتحدة في الغرب، من الذين تربطهم علاقات تاريخية مع دول المنطقة العربية، أبدوا القدرة في إعادة الاستقرار فيها من خلال إيجاد الحلول الدبلوماسية العادلة للأزمة الفلسطينية

وفي هذا السياق الإقليمي والعالمي، ساهمت الشراكة الروسية ـ الصينية في تعزيز علاقتهما العسكرية والاستراتيجية مع إيران، لتحقيق أهداف مشتركة، لا تخدم أهداف الولايات المتحدة في العراق، وتشل تطور استمرار وجودها العسكري، من خلال إعاقة الوصول إلى اتفاق أمريكي ـ عراقي، يرضي الجانبان ويطوي صفحة الفشل التي تعانيه الإدارات الأمريكية في هذا البلد، منذ احتلاله في 2003. وهنا لا بد من رجوع لقراءة سريعة لمغزى الوساطة الصينية الهادفة لتطبيع العلاقات بين بعض دول الخليج العربي وإيران، وحقيقة أهدافها لتغيير وإعادة تنظيم مراكز القوى في الشرق الأوسط، واستبدالها بشبكة جديدة من العلاقات الاقتصادية، والعمل بالتالي إلى وضع المنطقة في دائرة الطموحات الصينية، وإعاقة أسس الأحادية الدولية، ومن ثم الذهاب إلى عالم متعدد الأقطاب للتنافس مع واشنطن.
وبالتزامن مع تطور العلاقات الاستراتيجية الصينية ـ الروسية أبان فترة الحرب الباردة، تطورت علاقات موسكو وبكين مع طهران، التي أصبحت تتمتع بنفوذ كبير في العراق خلال الحرب في أوكرانيا، ما زاد من حجم صعوبات الإدارات الأمريكية، وقدرة مستشاري البيت الأبيض في إيجاد حلول تضمن الخروج باتفاق يرضي النظام السياسي العراقي بأحزابه القريبة من إيران، من خلال سعي إدارة جو بايدن، العمل على صياغة مشروع انسحاب، يشمل قواعدها العسكرية من بعض أجزاء العراق، عشية الذكرى الحادية والعشرين لشن الحرب وبدء احتلالها الفاشل لهذ البلد، بعد أن أضحت هذه الأهداف مجرد وهم ومنهج ورؤية لا تنسجم ولا تنطبق على أرض الواقع.
فشل إدارة بايدن في إدارة الأزمة الروسية الأوكرانية، وعجزها عن إيقاف الحرب في غزة وتداعياتها الإنسانية الخطيرة، الدليل الواضح لفشل السياسة الأمريكية في أهم ملفين في العالم، وهي إشارة أيضاً لفشلها في العراق، والتي يمكن اعتبارها فشلا للديمقراطيين ابتداء من الرئيس السابق باراك أوباما ونهاية بالرئيس الحالي جو بايدن. وبغض النظر عن الصعوبات التي تواجه واشنطن في العراق، يبدو واضحا أن حلفاء الولايات المتحدة في الغرب، من الذين تربطهم علاقة تاريخية مع دول المنطقة، أبدوا القدرة في إعادة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط من خلال إيجاد الحلول الدبلوماسية العادلة للأزمة الفلسطينية، للوصول إلى إحياء حل الدولتين، وإيجاد الحلول للصعوبات التي تواجه مسار التحول السياسي في العراق، ما قد يخلق مجالاً لدبلوماسية أوسع في جميع أنحاء المنطقة، تسمح لباريس في تفضيل توجهات متعددة الأطراف، تضم شركاء إقليميين رئيسيين، رغم تفهمها لأهمية الدور الأمريكي في تحقيق الاستقرار الإقليمي. وفي هذا السياق، ثمة من يرى أن باستطاعة سياسة فرنسا الديغولية للدول العربية أن تستفيد من علاقاتها التاريخية مع بلاد الرافدين ولبنان ودول الخليج العربي، في إيجاد الحلول لتهدئة هذه الأزمات، حيث تكمن فعالية الدبلوماسية الفرنسية من خلال علاقتها التاريخية مع العالم العربي، وقدرتها في تصحيح فشل الولايات المتحدة، والعمل على تغيير الصورة القاتمة للغرب، التي تركها نزلاء البيت الأبيض في منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً بعد غزو العراق، من خلال الاستمرار على نهج الرئيس جاك شيراك في معارضته لإدارة جورج بوش. ومن ثم العمل على إعادة الاستقرار وخلق المجال لحوار يضمن عودة الاستقرار، عن طريق ترحيب باريس بالحوار الثنائي الأمريكي ـ العراقي الخاص بإنهاء مهمة التحالف الدولي، واستعدادها لزيادة التعاون الثنائي مع بغداد، وحرصها على أهمية التنسيق الفرنسي ـ الأمريكي الخاص بإدارة المرحلة الانتقالية، وإعادة تحديد الأهداف الاستراتيجية في العراق بعد تراجع النفوذ الأمريكي، نتيجة للقرارات الخاطئة التي اتخذتها القوة العظمى الأمريكية في الشرق الأوسط. وقد تكون هذه الصورة، بمثابة الفرصة الملائمة لحلفاء واشنطن لكسب الرأي العام العراقي، ما قد يؤدي إلى إعادة حساباتها وتصحيح الأخطاء التي وقعت في العراق.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية