نَوبَة بَوْح !

حجم الخط
2

ثمة من عادوا من أول الطريق، لأنهم مُزَوّدون بحاسة شم كَلبيّة كالتي تصفها الشاعرة اميلي ديكنسون، شمّوا عن بعد رائحة زنزانة او كسرة خبز تعشش فيها الفطريات او جنونا يتلهى به الاطفال لأنه ليس نيتشويا او عذريا، وثمة من عادوا من منتصف المسافة اتّعاظا واعتبارا مما رأوا او سمعوا، لكن من اوغلوا في الطريق حتى النهاية، لا احد يعلم الخواتيم التراجيدية التي انتهوا اليها لأن احدا منهم لم يعد، ومن علقت أمانة التبليغ في رقابهم من الورثة خذلوهم، ولعل عبارة السهروردي الخالدة عن القدم التي اراقت الدم هي المفتاح الذهبي للباب المسحور، الذي تكسّرت في اقفاله الصّدئة مفاتيح لا تحصى .
وكان عروة بن العبد اول من دشّن الانتحار غير الارادي عندما حمل رسالة فيها أمر بقتله، لكن احفاد عروة كانوا ادرى من السّلف بما حمل اليهم من أخبار، سواء في اعناق غربان زاجلة او على الهوادج حيث تسود ثقافة الاجترار والتّماوت بحثا عن النجاة، والخيارات التي تفرضها النكاية .
نادرا ما اوغل المثقف العربي في الطريق الذي قال عنه ازرا باوند بأن الزاد والرفيق وحتى الظل تنعدم في نهاياته، ولعلّ هذا ما دفع الشاعر حجازي وهو يرثي صديقه الشاب ان يعترف بأن جيلا بكامله قد عاد، لكن واحدا فقط هو الذي اوغل حتى منابع السّواد والموت الإرادي الذي لا يناقض الحياة بل يدافع عن جدواها .
لقد حرص المثقف العربي منذ بواكيره على ادّخار احتياطيات عدة احترازا او محاولة تدارُك، وكانت الشيزوفرينيا الوقائية احد اهم الدفاعات، كلام للصحيفة او الكتاب او الفضائية وكلام مضاد للآخر الأقرب اليه، علمانية سريّة وثيوقراطية معلنة، افطار حتى التخمة في ايام الصوم وادّعاء بنفاد الصبر أمام الآخرين، وموقف فلسفي وجودي من الزمان والموت وامتثال كامل لثقافة الخرافة وطقوسها، خطّان بل خطابان متوازيان لا يلتقيان الا اذا اجترحت الفيزياء اينشتاين آخر من صلب اللغة، حداثويا يتبنى المعرفة في ذروة تجلياتها واتباعيا يتملق السّائد كي يحافظ على عضويته في ناديه القطيعي، أما كيف يتعايش الخطابان فتلك هي المعجزة التي اخفق في اجتراحها كيان آدمي ملفّق من جيكل وهايد، ومن الملاك والشيطان ومن عنترة واخيه شيبوب .
لنعترف دونما مواربة او مكابرة أن من عادوا قبل التورط بظهيرة نهارهم ومكثوا في الضّحى كانوا الأدرى بشعاب هذه التضاريس سواء كانت طبيعية او بشرية اجتماعية وسياسية، فهُم حققوا النجاة ليس من عقاب الآخرين بل من سؤالهم الوجودي الذي يقضم العمر كما يقضم الحمار جزرة بلا طائل وبلا اجابة .

‘ ‘ ‘

البعض منا صدّقوا ما قرأوا في الصّبا تماما كما صدّقوا مواعظ البالغين وهم في طور العذراء كما هو الحال في الفراشات ودودة القزّ، ولم يرشدهم احد الى مصدر الاضاءة في دودة القز، لأنهم لو عرفوا لعزفوا عن الحرير كله، تماما كما فعل الشاعر الرومانسي كيتس عندما حطّم الكأس الذي كان يحمله وهو يسمع شرحا علميا عن قوس قزح يعيده الى العناصر الفيزيائية، او كما غضب شعراء آخرون عندما عرفوا القمر على حقيقته فهو ليس قنديل العشّاق الأبدي بل حجر عملاق ملقى على قارعة السماء، ولا ضوء له الا ما يتسوله من كوكب آخر.
من صدّق كل المدائح التي كيلت للموتى من الشعراء والكتّاب في حفلات تأبينهم كان عليه ان يدرك حقيقة عارية هي ان عليه ان يموت على الفور كي يظفر بهذا الاستحقاق، وكالعادة لم يتنبّه الى هذه الظاهرة المزمنة في ثقافتنا غير المستشرقين، ومنهم ذلك الذي شاهد الاحتفاء بالسياب بعد رحيله، وهو يعرف ان من ساروا في جنازته في جوّ ماطر أربعة، وحين تلقت ارملته النبأ كان اثاث بيتها في الشارع معروضا للمزاد، لأن دائرة العمل قامت بالحجز عليه .
وحين قال محمود درويش ان ذويه يحبّونه ميتا او يفضلونه ميتا كي تتجلى بلاغتهم الرثائية كان يدرك ان من الحب ما قتل بالفعل، وهذا ما جعله يتنبّه مبكرا الى ما سماه الحب القاسي، هذا الحب الذي يصعب معه التفريق بين القبلة والعضة او بين الهمسة الحميمة واللّدغة !!

‘ ‘ ‘

لم يهبط هذا المشتغل في الثقافة بمظلة من احدى المجرات، انه صناعة ارضية بامتياز، تربى في الحاضنة ذاتها التي تربى فيها من يعاقبهم على العزوف عن القراءة وتلقى علومه الأولى في مدارس اشبه بالزنازين بحيث يكون رنين الجرس في الحصة الاخيرة بمثابة إفراج، ويصبح يوم الخميس هو اليوم المقدس في الاسبوع وليس الجمعة كما كنا نظن، لأنها تفضي الى صباح موحش وموعود بالعقاب .
حمل معه المشتغل في هذا الحقل الملغوم بأشجار الصبير الفيروسات ذاتها، ومنها الحسد لا الغبطة، والمراذلة لا المفاضلة، والنميمة لا الحوار، لهذا نادرا ما نعثر على انصاف مُتبادل ويذكّرنا هذا بما كتبه السّجين الامريكي كارل تشسمان حين قال ان كل السّجناء متشابهون وكل واحد منهم كان يقول ما يقولونه عنه.
والأرجح ان السلطة السياسية في العالم العربي لم تكن حصيفة الا في ترصدها لمثقفين عادوا من اول الطريق بفضل حاسة الشم الكلبية التي تحدثت عنها ديكنسون، فهم ملاقط وقفازات نموذجية للصيد لأنهم يمارسون وظيفة مزدوجة، فمن جهة يعلنون كفاءتهم في العمل، ومن جهة اخرى يثأرون لأنفسهم ممن اوغلوا حتى نهايات الطريق، فالتحاسد لم يسلم منه حتى شهيد او سجين او مشلول .
انها نوبة بوح لا اكثر ولا أقلّ تنتاب المبــتلى بهذه المهنة التي اتسعت للهديل والنّعيق، وقد لا يطول عمرها اكثر من قشعريرة، لكن بدونها يتعذّر على المثقف ان يرقص على موسيقاه!!!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أحمد صابر:

    سلام الله عليكم
    صَدقتم …. لكن هل من مُعتبر؟!! هي حياة تحيانا ولا نحياها!!
    رُزقتم الصبر … فالكل مبتلى

  2. يقول رياض:

    هل تقصد طرفه ابن العبد؟. وليس عروه ابن العبد؟

إشترك في قائمتنا البريدية