في غياب التأمل

حجم الخط
5

عرفت الثقافة في الغرب والعالم العربي أيضا نمطا من الكتابة بلغ ذروته في النصف الأول من القرن العشرين، وحمل عدة أسماء لم تكن كلها دقيقة، لأنها جاءت بمثابة التصنيف الذي يمارسه ناقد الأدب ومؤرخه من أجل التسهيل واستكمال تضاريس الخريطة.
وما حمل اسم المقالة في الأدب العربي والمحاولات في الثقافة الفرنسية، لم يكن تعبيرا عن فائض بقدر ما كان مكتفيا بذاته، لأن التأملات هي مادته، وما كتب من المقالات في فرنسا قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، نال شهرة نافست الروايات، رغم أن كتابها هم على الأغلب شعراء وروائيون، وهناك من ينظرون إلى مقالات البير كامو تحديدا في «أعراس» على أنها ليست فقط خلاصات تجارب، بل هي بحد ذاتها رحيق لا ينضب، وبالتحديد المقالات التي كتبت عن تيبازة والصيف وجميلة. حتى سارتر الذي أصدر أعماله في كتب، أعطى أهمية خاصة لمقالات «جمهورية الصمت»، ففيها الجماليات العمرانية، وتضميخ الشعر بالأسطورة، كما في مقالة «أورفيوس الأسود»، حيث قرأ أيميه سيزير وليوبولد سنغور من باب غير مطروق، كما فعل في دراسته الفريدة عن الشاعر بودلير. فلماذا اصيب هذا الحقل من الكتابة بالضمور وأوشك أن يتوقف لصالح كتابات عابرة للأنواع؟ البعض يقولون إن هذه الكتابة تتطلب قدرا كبيرا من التأمل بحيث تشمل الوضع البشري وتقف حائرة أمام مصيره.
إن الزمن في هذه الكتابة نفسي ونسبي، لهذا يكون مجال التداعيات أوسع، وكأن كيمياء جديدة تتشكل من ذاكرة يقظة وخيال شديد الجموح يعيد إنتاجها، اما شعرية هذه الكتابة فهي أولا طليقة ومبثوثة في أدق التفاصيل وليست بقعا قرمزية تتناثر هنا وهناك، كما يقول ناقد فرنسي، لكن حرص الاتجاهات الاتباعية في النقد على التصنيفات لتبقى الكتابة داجنة في تعريفاتها، فقد وجد في هذه الكتابة شيئا من الهجانة بحيث يحار في اعتبارها شعرا أو نثرا، والقول بأن غياب التأمل والإيقاعات السريعة لحياتنا من أسباب انحسار هذا الإبداع المركب، فيه تجاهل لما هو أهم، وهو تراجع الثقافة لصالح بدائل تشبهها شكلا، لأن ما طرأ على العالم بعد الحرب العالمية من متغيرات شملت كل مناحي الحياة لم تسلم منه الثقافة الجادة، إذ أقحمت إلى عالم السوق والسلعة، إضافة إلى ما فرضه التاريخ من شروط على الفرد كي يتأقلم مع السائد، خصوصا بعد ظهور أحزاب وتيارات تحكمها الأيديولوجيا ولا ترى في الكتابة الحرة حقا لأحد، لهذا مررت هذيانات وثرثرات لا حصر لها تحت اسم الأدب المؤدلج.
وحين أصدر جان بول سارتر كتابه عن الأدب الملتزم، أساء الكثيرون فهمه وخلطوا بين الإلزام والالتزام، لأن فترة ما بين الحربين في أوروبا خلخلت مفاهيم، وأفرزت منظومات جديدة من القيم التي شكلت قطيعة مع الحقبة الكلاسيكية، وما ظهر من تيارات تجريبية في تلك المرحلة كان، في بعض جوانبه، تعبيرا عن شكوك جيل بكامله بكل ما ورث، فكل ما كان محظورا أصبح متاحا، ولم تعد العقلانية هي السائد الذي يحتكم إليه في القياس. وما ظهر من نصوص تأملية، خصوصا في أمريكا اللاتينية وبالتحديد لدى بورخيس، فذلك لأن هذا البصير رغم العمى بدأ قراءته للعالم من داخله، ثم أقام علاقة جدلية وآسرة بين الداخل والخارج، أما في الغرب فإن هذا النمط من الكتابة أصبح نادرا وغير لافت للنظر، لأنه أشبه بالتصوير البطيء للمشاهد المتكررة ذاتها التي تنشر، والكتابة التأملية ليست الشيء الوحيد الذي خسرناه في عصر الإنترنت والعزف السريع.
ثمة أنشطة إنسانية دافئة بدأت تنحسر، وعلى سبيل المثال كان فن تبادل الرسائل بين المبدعين من أهم وأبرز الفنون الأدبية لعدة قرون، ثم انتهى به الأمر إلى هذه البرقيات الباردة التي تخلو من أي قيمة جمالية.
لقد استطال الذراع العلمي بمعناه التكنولوجي لدى الإنسان المعاصر على حساب الذراع الآخر، بكل نظريته ومورثه التاريخي، وربما بسبب هذا الخلل عانى العالم وسيعاني من التناغم والتكامل، وهناك تجربة طريفة مارسها فريق ياباني لتأليف موسيقى إلكترونية تخلو تماما من الأخطاء، وحين أصغوا إليها وجدوا أنها باردة ورتيبة، وتخلو مما سماه رئيس الفريق الخطأ البشري الحميم.
إننا الآن في حاجة إلى ناقد من طراز ذلك الناقد الذي قال بمناسبة قراءته لرواية «الفهد» للامبيدوزا الإيطالي وهو، لقد انتصر الرقم على الاسم والكم على النوع، وأصبحت كلمة الإنجاز بحاجة إلى إعادة تعريف، ويقصد بذلك أن الفهد هي الرواية الوحيدة للأمير لامبيدوزا.

٭ كاتب أردني

في غياب التأمل

خيري منصور

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رأفت العيص - فلسطين:

    تحياتي أستاذ خيري منصور: الكتابة بكافة مجالاتها تخضع للثقافة السائدة والمكون النفسي والاجتماعي وطبيعة المرحلة التي يعيشها الكاتب.
    ولا اعتقد أن الوقت الحاضر في ظل العولمة وثقافة الاستهلاك، ترك مجالا للتأمل.
    فالتأمل له علاقة بالفلسفة ولم يعد هناك مكانة للفلسفة.
    إن أشهر الرسائل في التاريخ الإسلامي هي رسائل إخوان الصفا والتي حاولت التقريب بين الدين والفلسفة والبحث في الطبيعة واصل ومكونات الوجود انطلاقا من وجود الله ومن ثم العقل والروح والعودة إلى الطبيعة.
    واستقى إخوان الصفا فلسفتهم من الفلسفة اليونانية القديمة واثروا بشكل واضح بالفلسفة الإسلامية بعد ذلك وكانوا سببا في ظهور الإسماعيلية والباطنية.
    وقد اتهم إخوان الصفا بالزندقة والخروج عن الملة وتتكون رسائلهم من 52 رسالة، بحثت في كافة جوانب الحياة.
    لا اعتقد أن هناك بالأقدمين والمحدثين كتابة تأملية تضاهي كتابات ورسائل إخوان الصفا، فهي تشكل مادة غنية للإجابة عن كثير من التساؤلات التي تهم الباحثين بالعقل والروح والطبيعة.

  2. يقول عادل الصاري / ليبيا:

    أستاذ خيري منصور/ لك خالص الشكر على هذه المقالة المفيدة ….
    يمكن القول إن الكتابة الإبداعية المعاصرة بكافة أجناسها لا تخلو من تأمل ، ولا أحسب أن النتاج الأدبي المعاصر كله نتاج غنائي أو درامي عاطفي، بل فيه الكثير من التأملات والأسئلة الوجودية التي تفتح أفاق المتلقي للتأويل ، فشعر أدونيس وصلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي مثلا هو نتاج تأمل ورؤيا وفلسفة ، ويمكن أيضا التماس التأمل في كثير من نصوص القصة القصيرة جدا وفي الكتابات التي تجمع بين السرد والشعر، وفي القديم يمكن عدُّ شعر المتنبي والمعري، ونصوص الفلاسفة والمتصوفة مثل الحلاج ابن عربي والتوحيدي والنفري ورسائل إخوان الصفا نصوص أدبية تأملية.
    ولا بد لي أخيرا من أن أسجل إعجابي وتقديري لمداخلة الأستاذ رأفت العيص من فلسطين الحبيبة ، فهي فعلا مداخلة قيمة ومفيدة.

  3. يقول منى-الجزائر:

    في الربيع ، تيبازة تسكنها الآلهة …. هذا ماافتتح به البير كامو مقالته الاولى (ترجمة الراحل جورج طرابيشي) … الان تيبازة مهددة “كمايقولون ” ب”الكوليرا”.. فأيهم تيبازة ..؟
    قرأت محاولات لكتابات تحاكي تأملات وفلسفة البير كامو في الكتابة .. كانت بائسة !
    لايكتب التأمل الا اذا وصل الكاتب الى مستوى وضع اطر فلسفية يتبناها ويحيا من خلالها .. عندها تكون الكتابة التأملية الفلسفية تحصيل حاصل … كم من النصوص التي غرق بعض الكتاب في وصف القشور بعيدا عن روح الكلمة وفلسفتها انتجت فقرات باردة ميتة تشبه دمية محكمة التصميم والزينة !
    تبقى الكتابة الابداعية مدارس واجناس والوان .. محظوظ من نال منها قسما..
    ارفع لك القبعة استاذ خيري منصور على كل ماتتحفنا به كل احد…

  4. يقول عادل الصاري / ليبيا:

    السيدة منى ـ الجزائر …
    مداخلتك قيمة ومفيدة … ولعلي أضيف هنا أن الكتابة الإبداعية تفسدها اللغة المزخرفة والعواطف الذاتية الساذجة لأنها تميعها ، وتفسدها كذلك الفلسفة بمعناها الأكاديمي الجدلي، لأنها تصير ثقيلة الدم بممحاكاتها ، فالكتابة المبدعة المقبولة هي التي يكتبها مبدع يمتلك ناصية اللغة ولديه رؤيا ، أي لديه قدرة استثنائية لتطويع اللغة لرؤياه ، بحيث يمكنه تقديم موقفه وتصوراته المتميزة والمختلفة عن السائد والمألوف.

    1. يقول منى -الحزائر:

      هي بالفعل كما تفضلت سيد عادل الصاري … اجدت الوصف والتحليل…
      اشكرك

إشترك في قائمتنا البريدية