الدراما والشخصنة

حجم الخط
0

إحدى أهم الإشكاليات التي تعاني منها ثقافات شبه بدائية، الخلط بين مصطلحي المفاهيمية والشخصنة، بحيث يصبحان مترادفين على الرغم من الافتراق الذي يصل حد التضاد بينهما، فالمفهوم، فيه قدر من التجريد والشمول، وليس محصورا في دلالة حسية، وهناك مثال يستشهد به علماء النفس في هذا السياق، هو أن الطفل في مراحله الأولى لا يدرك التفاصيل، وإذا طلب منه أن يرسم شجرة أو إنسانا يكتفي بالذراعين والساقين والرأس، بينما حين يرسم الفنان إنسانا فإنه يعبر بهذا الوصف العضوي المباشر، إلى مكونات بالغة التعقيد والدلالات، ويتم توظيف كل نقطة ضوء أو ظل في اللوحة.
وكلما ارتقى الوعي بالعالم وعلاقات الأشياء، كانت فرصة صياغة المفهوم وتحديده متاحة أكثر، ولو تقصى باحث حالة المدّ والجزر في استخدام الشخصنة والمفهوم، قد يفاجأ بأن الشخصنة تحولت بمرور الوقت إلى إدمان ذهني، وقد يُقرأ تاريخ كامل من خلالها وعبر التركيز المبالغ فيه على دور الفرد، بحيث تختلط الأسطورة بالواقع والدراما بوصفها صراعا، بين مفاهيم ووقائع ليست تعبيرا عن مونولوج فردي، فهي مفهوم له تاريخه وتعريفه منذ الإغرق، وأقرب الأمثلة إلينا في هذا السياق ما تقدمه الدراما العربية المتلفزة في هذا السياق، بحيث تكون حصة البطل الفرد أضعاف حصص المشاركين، وما يشارك فيه هؤلاء لا يتجاوز دور الدوبلير أو السّنيد حسب المعجم السينمائي.
ولم تسلم حتى الدراما الدينية التي قدمت لشخصيات ورموز مهمة في التاريخ من الشخصنة، وتقديم الفرد على المجموع، وكلما كانت الشخصنة التي تقدمها الدراما ذات شهرة واسعة ومكانة مرموقة في مجالها، يصل الإفراط في الشخصنة ذروته، بعكس أشخاص أقل شهرة وأقل إجماعا شعبيا على أهميتهم التاريخية. وأول ما استوقفني في دراما المفاهيمية مسلسل عن العالم المصري مصطفى مشرفة، وكان شريكا لاينشتاين في بواكير النظرية النسبية، ونال اعترافات تتجاوز سنه، ومات صغيرا وقيل إنه مات مسموما، على طريقة الكواكبي، لهذا كان المسلسل معنيا بتقديم هذا العالم وما حوله من الناس وما يحدث في عصره، لإدراك السيناريست أن فائض الشهرة وشبه الإجماع الشعبي لا يؤثر في بطل المسلسل، ولو قارناه بمسلسل «الأيام» عن طه حسين، أو أي مسلسل آخر عن العقاد، لوجدنا أن هناك فرقا كبيرا، لأن السيناريست يتصور أن شهرة الذي كتب عنه تفرض عليه البحث عن زوايا غير مضاءة، ومنها الحياة اليومية للكاتب، لهذا تنحصر فائدة المشاهد في طقوس اجتماعية أو علاقة عاطفة متموجة، ولأن تقديم عالم من طراز مشرّفة يتطلب مكونات داخلية ونفسية قدم كزوج تقليدي مستقر ومكتفيا ببيته، فيما كان تقديم العقاد بصورة مغايرة، سببها أنه غير متزوج ويعيش علاقات عاطفية مرتبكة ومعقدة كعلاقته مع مديحة يسري الفنانة السينمائية أو مي زيادة وغيرهما.
وشخصنة الدراما هي إفراز طبيعي ومتوقع لشخصنة التاريخ، فهناك من ينظرون إلى حقبة كاملة منه وكأنها مملوكة لبطل واحد، خصوصا في فترات الخمول الثقافي والسياسي، فإن لم يجدوه بينهم راحوا يبحثون عنه في المقابر أو في المستقبل بخيالهم، وهناك أسئلة طرحها أحد المؤرخين لإيضاح رأي بمفهوم البطل في التاريخ منها، ماذا لو سحقت سيارة ونستون تشرتشل طفلا، أو مات ماركس بالحصبة الألمانية وهو صغير السن، أو سافر نابليون من فرنسا وهو صغير وعاش ومات في بلد آخر.
هذه الأطروحة مضادة لمفاهيم أخرى حول البطولة، فثمة من يرون أن البطل هو مجرد لافتة على ركام من الأحداث، وإن هناك عوامل موضوعية وذاتية لها علاقة بالسياق الزمني الذي عاش فيه، هي التي انتجته وليس العكس، وهل كان العالم الحديث في القرن العشرين سيتغير تماما لو أن ماركس مات طفلا أو هتلر أصيب بالعمى في سن مبكرة؟
إن أخطر ما أفرزته الشخصنة وأدبياتها هو إضافة شيء من الأسطورة إلى الواقع بحيث تُسقط على البطل صفات ينوء بها فرد واحد، ويزدهر مثل هذا الإسقاط لدى شعوب جريحة في عمق نرجسيتها، وتسعى إلى التعويض الرمزي عن خسارات تاريخية كبرى، وربما لهذا السبب قال كونديرا كلما صغرت الدولة كبر نشيدها وتضخمت ذاتها وأصبحت مهددة بالدونكشوتية ولن تعدم ظلا تابعا مثل سانشوا كي ينشر أخبار انتصارها بالسيوف على الطواحين، وقد أسهمت السينما خصوصا المؤدلجة والمسلسلات في تكريس الخلط بين المفاهيمية والشخصنة، بحيث يبدو البطل في النهاية كما لو أن كل شيء من حوله خلق لأجله. ويقال إن مستشارا لمحمد علي باشا أحضر له عدة كتب من بينها «الأمير» لميكافيللي كي يقرأها، فرماها جانبا وقال لمستشاريه إنه متفرغ لصناعة التاريخ وليس قراءته.
كاتب أردني

الدراما والشخصنة

خيري منصور

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية