ميشيل فوكو والثورة الإيرانية

ميشيل فوكو (1926/ 1984) واحد من أهم مفكري القرن العشرين صاحب “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” 1961 ثم “الكلمات والأشياء” عام 1966 حيث تطرق إلى العلاقة بين البنى السياسية والعلوم (السلطة والمعرفة) واعتبر هذا الكتاب أهم كتاب بعد “نقد العقل الخالص” لعمانوئيل كانط، وأدرج خلالها فوكو كمفكر بنيوي من خلال دراسته البني الداخلية للأنظمة الفكرية، حيث أعلن موت الإنسان كمفهوم شامل وقد كان هذا الإدراج المتعجل مجحفا في حقه. وهذا الكتاب الذي اشتهر بهذا العنوان لم يكن هو العنوان الأصلي إذ الأصل هو “نظام الأشياء” فقد أرسل الكتاب إلى الناشر، لكنه تفاجأ بوجود كتاب بهذا العنوان لكاتب آخر تحت الطبع فراسل الفيلسوف المؤلف قصد تغيير العنوان، لكنه امتنع مما اضطر فوكو نفسه إلى تغيير العنوان إلى “الكلمات والأشياء” وظل يشترط على الترجمات أن تحافظ على العنوان الأصلي.
كما انخرط في دراسته للأنظمة العقابية في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر في “المراقبة والمعاقبة” عام 1975 وهي تحلل أجهزة السلطة (السجن، المستشفيات) إلخ، ثم نشر الجزء الأول من تاريخ الجنس عام 1977 تحت عنوان “إرادة المعرفة” وأكد فيه أن العلاقة بين الرغبة والسلطة ليست بالبساطة التي يتصورها دعاة التحرر الجنسي. ويمكن القول بكل أريحية أن مفتاح المنهج الفوكوي في “أركيولوجيا المعرفة”.
كان فوكو قد اهتم بالثورة الإيرانية، بل زار إيران أكثر من مرة فالزيارة الأولى تمت في 16 أيلول/سبتمبر عام 1978 والثانية كانت في 9 تشرين الثاني/نوفمبر من السنة نفسها ومكث في المجموع من خمس إلى ست أسابيع وزار خلالها ثلاث مدن هي، طهران وقم وعبدان، والتقى بالمثقفين والطلاب والعمال من الإسلاميين واليساريين والليبراليين، ودبّج مقالات في الحماسة لهذه الثورة والإعجاب بها وتأييدها.
ويعترف بأنه قرأ كتابا في ذلك العام صدر في فرنسا بعنوان “مبدأ الأمل” لأرنست بلوخ، ويتمحور الكتاب حول الرؤية الجماعية للتاريخ التي بدأت تتبلور في أوروبا في القرون الوسطى، وكان فوكو من أهم نقاد تراث الحداثة والتنوير الغربي، وقد رأى في هذه الثورة حدثا يتجاوز نمط الحداثة الغربي وينفتح على إمكانيات خارج المركزية الغربية، ولذا سعى إلى زيارة إيران ومعاينة الحدث بنفسه غير مكتف بما تدبجه الصحافة الغربية وما يتحدث به الساسة والمحللون في الاستديوهات الغربية، فليس كالرحلة إلى قلب الحدث من معين على الفهم والمراقبة والفحص، وإصدار الحكم تأييدا أو شجبا. وفي زيارتيه إلى إيران التقى بشريعتمداري ومهدي بازركان وكان يعرف من قبل علي شريعتي وحماسته للثورة وقلب الأوضاع رأسا على عقب، وليس صحيحا ما أشيع من أن فوكو التقى بآية الله الخميني في منفاه الباريسي عام 1978 وهو ما نفاه للصحافي اللبناني فارس ساسين في لقاء معه في 26 آب/أغسطس 1979.
تحمس فوكو إذن للثورة ورأى فيها حدثا استثنائيا يتمرد على المركزية الأوروبية، وينفتح على إمكانيات أخرى ورؤى بديلة ليست بالضرورة تابعة للتنظير والتأطير والأدلجة الأوروبية على النمط الليبرالي، أو الماركسي، كما أدرك الشجب الغربي لهذه الثورة وهو ما يسميه بالغيرة الحضارية لدى الغرب، فأوروبا لا تريد ولا تفهم فعلا لما تؤدلجه كوادرها ولم تشرحه كتبها وما يخرج عن النظريات الأوروبية مصيره الفشل والاضمحلال.
تمرد كعادته على هذه المركزية والنظرة الاستعلائية الغربية، ودبج المقالات المؤيدة وسافر بنفسه إلى إيران قصد المواكبة والتسجيل والمناقشة، والفهم والنقد، وإصدار الحكم بعيدا عن اللوبيات الثقافية والإعلامية الغربية، بل تحمس للخميني وكتب عنه ذات مرة (الخميني ليس سياسيا، ولن يكون هناك حزب للخميني، الخميني هو بؤرة إرادة كلية) هذا الذي تسميه الأدبيات الإيرانية المرشد الأعلى للثورة.
هكذا إذن رأى فوكو في الثورة الإيرانية شيئا خارج التأطير والتوجيه الغربيين، وسعى إلى فهم كيف تتحول الرغبة الدينية في الآخرة إلى التحقق في العالم الدنيوي أي بمعنى استلهام الفردوس الغيبي للتحقق في العالم الأرضي وظهرت كتابات لفوكو لا تخفي الإعجاب والحماسة على شاكلة “كيف يسيىس الروحاني ويروحن السياسي” وكلمات شاعرية عاطفية مثل (نشوة، دراماتيكية، مأساة إغريقية، افتتان) وهو ما لم ينكره فالثورة الإيرانية حسبه تتجاوز منطق الحداثة والتنوير الغربيين، وتقييمه لها بدءا كان إيجابيا لأنها ثورة على الأوتوقراطية والطغيان وحداثة الشاه المستوردة.

 رأى فوكو في الثورة الإيرانية شيئا خارج التأطير والتوجيه الغربيين، وسعى إلى فهم كيف تتحول الرغبة الدينية في الآخرة إلى التحقق في العالم الدنيوي أي بمعنى استلهام الفردوس الغيبي للتحقق في العالم الأرضي.

جر تعاطفه مع الثورة العداء عليه من قبل المثقفين الفرنسيين والغربيين عامة، إلى حد التهكم منه فوصفه مكسيم رودنسون بالنبي المتعصب، غير أن فوكو عاد بعدها إلى الصمت ولم يتحدث أو يكتب شيئا عن هذه الثورة.
لقد شعر بالخيبة، مع أنه كان مدركا لنسبية أحكامه فهو يعترف بأنه لا يعرف الإسلام، وأن الحركات الدينية لم تجلب الفردوس إلى العالم الأرضي، كما أنه لم يقدم نفسه حاملا لإنجيل البشارة إلى الغرب، عبر الثورة الإيرانية كوسيلة لإعادة تجديد الغرب والعودة إلى المقدسات، فهو من أصحاب الرؤية التاريخية والتعددية النسبوية، إنما الذي حرك وجدانه هو فعل الثورة في ذاته، كفعل عصي على التفسير، فلم يثور الإنسان الجائع ويقدم نفسه فداء لمبدأ مضحيا بالحياة ذاتها، وهو ذاته الإنسان الذي يقبل بالحياة تحت سلطة مستبد وقهره؟ إن الماركسية تشرح مثلا الدوافع والأسباب لهذه الانتفاضة، ولكن يظل كنه الفعل عصيا على التفسير فهو خارج عن التاريخ وإن كان في نطاق الزمن فهو لا تاريخي وزمني في آن واحد.
هذه الثورة في مفهوم فوكو قضت على حداثة مجلوبة من الخارج، الغرب الإمبريالي، ومكرسة بأنماط وهياكل وسلط طبقية تعسفية رجعية، حيث يجثم الشاه في أعلى الهرم وكل شيء يتم بتدبيره وتدبير مخابراته وتدبير الغرب نفسه ومن هذه الزاوية كل هبة وانتفاضة شعبية تطمح إلى قلب الأوضاع وتدمير هذا النظام هي هبة مباركة ومؤيدة وهذا واجب المثقف النقدي. غير أن حماسته اصطدمت بسوء تقديره فهو لم يدرك خطورة ولاية الفقيه والخميني ذاته، على الرغم ما أن الثورة الإيرانية قدمت نفسها كثورة شعبية لا مؤطر لها من كاريزما سياسية بتوصيف ماكس فيبر، ولا أحزاب سياسية، وتراكمات الإسلام الشيعي ذاته، تلك التراكمات التاريخية منذ ما بعد عصر النبوة، وما أنتجته من علاقات وتداخلات ومصالح فئوية ونخبوية وصراعات سياسية ومذهبية يعرفها كل من تعمق الأدبيات الشيعية. لقد انخرط فوكو في البحث عن العلاقة بين الثورة السياسية والآمال الدينية، وهي النقطة الجوهرية في تميز الانتفاضة عن الحداثة الغربية والتأطير الأوروبي للصيروة التاريخية، وفق النظرة الليبرالية أو الماركسية. لقد أعلن أنه ليس من مسؤوليته التفكير بدلا عن المسلمين في مشروعهم السياسي، وإن كان فوكو تعرف على علي شريعتي وحماسته للفعل الثوري، الذي يقلب الأوضاع رأسا على عقب ويطيح بالرجعية والإقطاع والعمالة، فالحكم الإسلامي في مواجهة تحديات الحداثة أمام خيارات ثلاثة: التوافق أو التناقض أو الابتكار، وهو ما يخص المسلمين أنفسهم. كما أنه لم يقدم نفسه للغرب كمبشر بالمقدسات ومجدد للحياة الغربية بمسحة غيبية.
وفي التقييم الأخير لموقف فوكو من هذه الثورة فقد شعر بخيبة أمل فعلى الرغم من تصريح الإيرانيين سياسيين ومثقفين بأنهم يقبلون بالتعايش مع الشيوعيين خارج الأطر السياسية، إلا أن حكم الملالي وما يتضمنه من مصالح وسلط تجد تراكماتها التاريخية في الثقافة الشيعية منذ ما بعد عصر النبوة، وهي مثلها مثل أي حركات دينية لا تبتعد عن الاحتكار والمصالح الفئؤية والصراعات التاريخية، إلا أنه ظل وفيا لقناعاته الراسخة تلك التي بلورها حول دور المثقف في دولة الحقوق، وملخصه أن ذلك الدور يتمركز في مواجهة السلطة وهي تقترب من هذه الحقوق للانتقاص أو الاعتداء عليها، وما دامت الضمانات ضعيفة وهشة ومؤقتة فواجب المثقف تنويري وثوري في آن واحد، فهناك دائما فرصة لحياة أفضل وليس كالثورة أو الانتفاضة فرصة لقلب الأوضاع وتغييرها، وهو ما وجده في الثورة الإيرانية في المبتدأ، ذلك أنها هبة تهدف إلى قلب نظام الشاه المتواطئ مع الغرب ضد طموحات الشعب الإيراني وحقوقه، وفعل في الزمن يتمرد على المركزية الغربية وتنظيراتها للثورة، وفق الأدبيات الليبرالية أو الماركسية، وقد كان لا يخفي إعجابه بكتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد.
فوكو الذي كتب نصوصا غنائية ومعرفية عن المجرم والجانح، جذبته الثورة الإيرانية فرحل إلى عقر دارها، واختلط بصناعها ومنظريها ومؤطريها، وكتب عنها متعاطفا ومؤيدا، سرعان ما انكفأ على ذاته ولزم الصمت وهو يرى أن التداخل بين السياسي والروحاني والمقدس والمدنس والمادي والغيبي، وعدم وجود حواجز صارمة واستحالة تحقق الفردوسي الأرضي استلهاما من الفردوس الغيبي.

* كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فضيلة:

    موفق يارب ،بوركت

  2. يقول طاهر ألعرب امازيغي:

    ميشال فوكو، الفيلسوف، المنظر، و الكاتب مغتصب الأطفال…حكم غيابيا في تونس (كان استاذا في جامعاتها) حيث اغمض الرئيس بورقيبة عينيه على شدوده الجتسي المرضي حسب جريدة لوموند الفرنسية!!!
    أخطأ في حق الشعب الايراني و أخطأ في حق الطفولة الإنسانية!!!

إشترك في قائمتنا البريدية