غولدتسيهر في مرآة حميد دباشي

إبراهيم مشارة
حجم الخط
0

في كتابه «ما بعد الاستشراق المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب» الصادر عن منشورات المتوسط في 348 صفحة، خص الباحث الإيراني الأمريكي حميد دباشي الأستاذ بجامعة كولومبيا فصلا مهما وطويلا في أكثر من 150 صفحة للمستشرق المجري الشهير إغناتس غولدتسيهر (1850/1921) والذي يعد من أخصب المستشرقين عقولا وأغزرهم إنتاجا، وقد قال إدوارد سعيد بشأنه «أي عمل يروم تقديم فهم للاستشراق الأكاديمي بينما يولي قليل اهتمام لباحثين أمثال شتاينثل، موللر، بيكر، غولدتسيهر، بروكلمان ونولدكه على سبيل المثال لا الحصر هو عمل يستحق الملامة».
إدوارد سعيد الذي اشتغل في كتابه الذائع «الاستشراق» 1978 على تمثل الرابط العضوي بين أولوية المعالجة الإبستمية للمعرفة التي ينتجها المستشرق وبين السلطة الكولونيالية التي تولدها، مستفيدا من بحوث فوكو في المعرفة والسلطة وغرامشي في القوة والإيديولوجيا، أبدى فيما بعد بعض الأسف على عدم الاهتمام أكثر بالاستشراق الألماني في أواسط القرن التاسع عشر خصوصا وأن الألمان لم تكن لهم اهتمامات قومية على حساب الشعوب الأخرى كالفرنسيين والإنكليز، وإنما انغمسوا في دراسة الشرق تحت يافطة البطولة الفكرية وضمن إطار الثقافة الغربية، عاد وأبدى تراجعا فيما يخص غولدتسيهر بعد أن قال «المستشرقون من رينان إلى غولدتسيهر، ماكدونالد، فون غرونيبام وبرنارد لويس نظروا إلى الإسلام مثلا كتوليف ثقافي…يتوجب الفهم الأفضل للإسلام اختصاره إلى خيم وقبائل».
المستشرق المجري الذي شن عليه مثقفون ورجال دين في الشرق حربا ضروس، واتهم بالافتراء والطعن في السنة النبوية في كتبه الهامة «دراسات إسلامية» و«العقيدة والشريعة في الإسلام» وقد قال الشيخ محمد الغزالي بشأن هذا الكتاب «والحق أن الكتاب من شر ما ألف عن الإسلام وأسوا ما وجه إليه من طعنات».
درس غولدتسيهر في جامعات بودابست وبرلين ولايدن وأقام في مصر قرابة عام بعد رحلة شملت مصر وفلسطين وسوريا (1872/1874) وانتسب إلى الجامع الأزهر بعد إذن من وزير التعليم رياض باشا إلى شيخ الأزهر محمد المهدي العباسي بالسماح له بحضور حلقات الدرس -لأنه ليس بمسلم- وقد صار الطالب المجد المحبوب من قبل الجميع من وزير التعليم ومن شيخ الأزهر ومن طلبة الأزهر، كما عرف عنه الجد والمثابرة ودماثة الخلق والتواضع، وكتب بعد ذلك في مذكراته أن السنة التي قضاها بمصر أخصب فترة في عمره، ولم يكتف بتحصيل العلم بل انشغل مع المصريين في الهم الوطني فشارك في المظاهرات المعادية للامتيازات الأجنبية في مصر كما دبج مقالات تدعو إلى إعادة بناء الثقافة الوطنية في مواجهة الكولونيالية الأوروبية، ومما أثر عنه رفضه لكل دعوة من الجالية الأوروبية المقيمة في مصر لا يدعى إليها أصدقاؤه المصريون.

مناهض للغطرسة الأوروبية

كما عرف غولدتسيهر كناشط أكاديمي مناهض للغطرسة الأوروبية مستعيرا من فيبر مقولته في «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» (شهوانيون بلا قلب، يتخيل هذا العدم أنه ارتقى في درجة الحضارة مرتقى لم يصله أحد من قبل).
ويحكي في مذكراته كيف أدى صلاة الجمعة مع عبد الله الشامي قرب ضريح الإمام الشافعي «وسط تلك الآلاف من أهل التقوى احتكت جبهتي بأرض المسجد. لم أكن في حياتي أكثر خشوعا واتضاعا وأكثر صدقا في خشوعي مما كنت عليه في يوم الجمعة المهيب ذاك». ووصف في مذكراته تلك السنة التي قضاها في مصر بأنها سنة مليئة بالمجد وبالفخر والنور وكتب أيضا «في تلك الأسابيع وبملء قناعتي أصبحت روحي جزءا من روح الإسلام، إلى الحد الذي أيقنت فيه وفي صميم ذاتي أني أنا نفسي كنت مسلما، وبعد ترو اكتشفت أن هذا الدين فقط حتى في صيغته العقائدية والرسمية هو القادر على إرضاء العقول الفلسفية. كان حلمي هو الارتقاء باليهودية إلى ذات المستوى العقلاني وكان الإسلام كما علمتني تجاربي الدين الوحيد الذي حظرت فيه المكونات الوثنية والأسطورية في أساس عقيدته القويمة، وليس عبر اجتهاد عقلاني».
وأثناء عودته إلى المجر جوبه بالرفض وتوالت المحن عليه فمن وفاة والده إلى انتحار ابنه الأكبر ماكس وقد وصف ذلك بقوله «إنه اليوم الأكثر قتامة في حياتي.. وقد دمرتني».
لقد تعرض للهجوم من قبل بعض المستشرقين والصهاينة كالمستشرق أرمينيوس فامبري الذي اشتغل جاسوسا لبريطانيا وقد تخلى عن اليهودية وأسلم ثم اعتنق المسيحية، وتقرب من ساسة أوروبا عارضا خدماته، وهو الذي قدم هرتزل إلى السلطان العثماني لما جاء يريد شراء فلسطين كوطن قومي لليهود بينما رفض غولدتسيهر مطلب الحركة الصهيونية ولم يتعاون مع هرتزل وبسبب ذلك تعرض للمضايقات فمنع من التدريس الأكاديمي مكتفيا بعمل إداري بسيط متعرضا للاضطهاد من قبل رؤسائه، إلى درجة تفكيره في الانتحار.
حسب حميد دباشي فمن المثقفين الغربيين الذين أرادوا تشويه صورة غولدتسيهر بسبب عدم ولائه للصهيونية ومناهضته للاستعمار والروح الكولونيالية رفائيل باتاي الصهيوني، وقد اتهم غولدتسيهر بأنه كان شخصا مفتونا بالإسلام لأنه قال «هذا الدين العالمي المهيب هو صورة متطورة لعقيدة مكية متهودة» ولكنه لم يتحول قط إلى الإسلام مع بغضه الشديد للمسيحية، وكتب في مذكراته «المسيحية أبغض الأديان إلى قلبي». لقد وصف باتاي غولدتسيهر بأنه كان يعاني من عقدة العداء للسامية ومعاداة اليهودية وكتب عن صلاة الجمعة التي أداها غولدتسيهر «أن يفعل ما فعل، لقد استبدل ولو للحظة عابرة يهوديته وإرثه الديني بمعتقد إسلامي وعبادة إسلامية. أن يدخل المرء ملء قناعته مكانا مخصصا للعبادة في دين آخر، ناهيك عن مشاركته في الطقس الديني، هذا ما أعتبره أناثيما، حرام، مقزز».
ونظرا لميله إلى التسامح الديني ورفضه للصهيونية ومعاداته للاستعمار والامتيازات الأجنبية في بلاد الشرق اعتبره اليهود المتطرفون مهرطقا، وزاد باتاي في محاولة تشويه صورته بأنه كان يعشق زوجة ابنه كارولي، مع أنه كان يعطف عليها وقد ماتت في ريعان شبابها، كل هذا من أجل تشويه صورته لميوله غير الصهيونية وانصرافه إلى البحث والتأليف بعيدا عن مخططات الاستعمار والاستشراق الموجه.

دراسة الإسلام

لقد وهب غولدتسيهر نفسه لدراسة الإسلام وكان يعتبر نفسه عضوا في جمعية الفقهاء المحمديين، مع ميل واضح لمذهب أهل السنة ونقد شديد إلى درجة المقت للمذهب الشيعي ويعتبر نفسه استمرارا لموسى بن ميمون، وحينما صدر وعد بلفور بمنح فلسطين وطنا قوميا لليهود رفض غولدتسيهر فتح فنوات اتصال لليهود الصهاينة مع العرب وكتب «أنا يهودي هنغاري عابر للدانوب، اليهودية دين وليست مفهوما إثنوغرافيا، حين غادرت القدس إلى هنغاريا، قلت عائد إلى وطني». وكتب أيضا «تشهد نسختي التي أحمل من القرآن على ميلي الروحي نحو الإسلام».
لم يكن غولدتسيهر من طراز المستشرقين النظريين الذين لديهم معرفة نظرية فقط ولكنهم للأسف معزولون عن الرأي العام أو المستشرقين المتحاملين الجهلاء كما يصفهم حميد دباشي أمثال برنارد لويس والذين كان لهم تأثير واضح على الرأي العام.
لقد درس الإسلام وعاش مع المسلمين وانتسب إلى الأزهر وجادل الفقهاء المسلمين وشهدوا له بالسيرة الحسنة وكان هو نفسه يعتقد بوجود تأثيرات يهودية في الإسلام.
كتب في الحديث وفي النحو وفي مذاهب التفسير وفي الأدب وفي الوهابية والبابية والمذاهب الإسلامية ويعزى إليه الفضل مع غيره في بيان أثر الأهواء السياسية في وضع الحديث وكيف تسربت الأفكار الدينية إلى حلبة الصراع السياسي وفي مذاهب التفسير عند المفسرين وتأثر فهمهم بأفكارهم وميولهم العقائدية والسياسية، وبقي باحثا يهوديا لا تشوب إيمانه شائبة. بالرغم من حملات التشهير في بلده المجر وحملة الحركة الصهيونية عليه، وحملة جملة من المستشرقين المأجورين عليه كذلك لأنه رفض الجاسوسية والعمالة وفضل الإخلاص للبحث العلمي، وليس يعني هذا أن غولدتسيهر لم يتعرض للنقد من قبل علماء وفقهاء الشرق خاصة فيما يتعلق بدراساته عن الحديث النبوي والسيرة النبوية، ويبدو أن الشيخ مصطفى السباعي ألف كتابه «السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي» ردا عليه.
مثلما يؤكد حميد دباشي أن غولدتسيهر رفض الرفاه والغنى بوضع نفسه في خدمة ساسة الاستعمار، كما رفض مخططات وأهداف الحركة الصهيونية ورفض التعامل معها مؤثرا عمله الإداري البسيط وانصرافه إلى التأليف الغزير في مجلات المعرفة الإسلامية، فهو أخصب المستشرقين إنتاجا وأغزرهم تأليفا وأعمقهم معرفة بالإسلام، شريعة وثقافة، لغة وأدبا وحضارة.
شتان بين غولدتسيهر وبرنارد لويس حين يعقد حميد دباشي مقارنة بينهما، فالأول من جيل المستشرقين العظام الذين امتلكوا الأدوات المنهجية والمعرفة الغزيرة والصبر الدؤوب على البحث وبين بعض المستشرقين الذين كانوا جواسيس في صورة باحثين أمثال أرمينيوس فامبري الذي نظم لقاء لهرتزل مع السلطان عبد الحميد، فجيل المستشرقين الجدد الذين يمثله برنارد لويس الذي لا يتورع حميد دباشي عن وصفه بالجاهل، وهو يرى أن إدوارد سعيد أطلق رصاصة الرحمة على الاستشراق حين تحول إلى دراسات مناطق في نطاق العلوم السياسية، وكان إدوارد سعيد قد أثنى عليه مع القلة القليلة التي لا يجوز لباحث أن يتجاهل إنتاجها المعرفي. لقد وضح سعيد العلاقة بين المعرفة والسلطة وكشف زيف دعوى المستشرقين ادعاء تمثيل الشرق بعد تشييئه وإعادة إنتاج معرفة تدعمها أفكار مسبقة ومشاعر كراهية معلنة أو خفية وتكريس ثقافة المتن والحاشية، فالمعرفة أوروبية وليس من حق التابع أن يتكلم (إشارة إلى مقالة غاياتري سبيفاك المفكرة الهندية الأمريكية الشهيرة ومقالها الهام: هل بمقدور التابع أن يتكلم؟) وهكذا تعاونت هذه المعرفة وكانت أداة في يد الاستعمار والكولونيالية ولا تستثنى من ذلك إلا قلة قليلة وكان من هؤلاء القلة المستشرق إغناتس غولدتسيهر.
قبل كتاب سعيد عن الاستشراق قدم الباحث الإيراني محمد القزويني (1877/1949) والذي عاش ثلاثين عاما في أوروبا والتقى بفطاحل الاستشراق، لم يتورع عن وصف المستشرقين بالمشعوذين خاصة ماسينيون وقد كتب «ما أريد الإشارة إليه هنا يا زملائي وأبناء وطني الأعزاء أن لا تنخدعوا بتلك العناوين الموحية بالثقة مثل بروفيسور في اللغات الشرقية، أو عضو في ذلك التجمع الأكاديمي أو ذاك، لا يجب أن تقبلوا أي هراء قادم من أوروبا على عواهنه».
كما كتب مواطنه كاظم زاده إيرانشهر (1884/1962) عن الارتباط الوثيق بين الاستشراق والكولونيالية.
لا يعني هذا أن غولدتسيهر لم يكن متحاملا أحيانا أو خانه الفهم في مسائل عديدة في الشريعة والعقيدة الإسلامية وإن الكتب التي ألفت في الرد عليه وتفنيد دعواه لا يحصيها عد، ولكن الذي ينبغي التأكيد عليه أن غولدتسيهر امتلك المعرفة والأداة والمنهج والإخلاص والصبر واتجه إلى البحث رافضا وضع المعرفة في خدمة الاستعمار والكولونيالية والصهيونية، وكان من ثلة قليلة من طينة المستشرقين العظام كما وسمه كارل بروكلمان.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية