الشاعر الألماني فريدريش روكرت والأدب العربي

يعرف المثقفون والأدباء والقراء العرب غوته كشاعر ألماني عاشق للآداب الشرقية، خاصة في مؤلفه المشهور «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» ولعل شهرة غوته (المحب للشهرة والأضواء) في الشرق قد كسفت شمس مواطنه الشاعر الألماني والمترجم فريدريش روكرت (1788/1866) الذي كان لا يحب الشهرة والأضواء فقد كان كما وصفته المستعربة الألمانية آنا ماري شيمل قنطرة بين الشرق والغرب والوسيط الذي لا يكل ولا يمل، وقد كتبت عنه بمناسبة نيلها جائزته عام 1965(قد حاولت منذ فترة صباي مرة بعد مرة أخرى أن أعرف ليس في الغرب وإنما في العالم الإسلامي أيضا بهذا الوسيط الذي لا يكل بين الشرق والغرب).
بدأ اهتمام الألمان بالشرق عقب الحملات الصليبية، وكان في الأساس يتوجه إلى بيت المقدس ورحلة الحج إلى موطن ميلاد السيد المسيح لزيارة الدروب التي مشى فيها والأماكن التي وعظ فيها، والتي شهدت كذلك عذاباته وآلامه وللاعتقاد كذلك أن رحلة الحج هذه مطهرة للذنوب مسببة لغفران الخطايا، وهكذا تهافت كثير من الحجاج الألمان على زيارة فلسطين، حيث بدأت تتشكل المعارف الأولى عن بلدان الشرق كشعوب وجغرافيا وأديان وعادات وتقاليد، لكن بنظرة تعال وازدراء لديانتهم بتأثير الحروب الصليبية والانحياز للمسيحية، لكن بعد الحركة الإصلاحية التي دشنها مارتن لوثر بدأ الألمان يتخلون شيئا فشيئا عن الطابع الديني في ملاحظاتهم ودراساتهم لصالح الحقيقة والموضوعية ولو بشكل نسبي لا يسلم من التحامل.
يؤكد ذلك ما أعلنه إدوارد سعيد في المؤتمر العالمي لدراسات الشرق الأوسط عام 2002 من أن الاستشراق الألماني أكثر موضوعية وجدية وعمقا بمنهجيه اللذين استحدثهما، المنهج الفيلولوجي والمنهج التاريخي في دراسة تراث الشرق، وهو الموقف نفسه الذي يدعمه صلاح الدين المنجد، بالتأكيد على موضوعية الاستشراق الألماني وجديته وعمق فهم المستشرقين الألمان للتراث العربي الإسلامي والسبب يعود إلى أن ألمانيا لم تحتل بلدا من بلدان المشرق بعكس الفرنسيين والإنكليز الذين كونوا جيوشا من المستشرقين والمخبرين والجواسيس، وكان كثير منهم في خدمة الاستعمار والكولونيالية بتوفير المادة المعرفية اللازمة لإحكام القبضة على تلك الشعوب بمعية الآلة الحربية.
في هذا الجو في القرن التاسع عشر عاش روكرت عاشق الشرق وآدابه، حيث صرف حياته في دراسة الآداب الشرقية من عربية وفارسية وهندية وصينية، ويقال إنه كان يعرف أكثر من أربعين لغة. درس روكرت الحقوق والآداب ودخل سلك التعليم الجامعي عام 1811كما عمل محررا في جريدة المثقفين الصباحية في شتوتغارت ورحل إلى إيطاليا عام 1817 وعاش فيها عاما، لكنه أثناء رحلة إلى فيينا التقى بالمستشرق الشهير فون هامر برجشتال الذي علمه اللغة العربية والفارسية والتركية وأطلعه على آداب هذه اللغات، وحين عاد إلى ألمانيا اشتغل محررا في مجلة «كتاب جيب المرأة» 1822/1825 ليعود إلى التدريس الجامعي للغات والآداب الشرقية، وليشغل كذلك منصب أستاذ في جامعة برلين وإليه يعزى الفضل في فصل دراسات الشرق، لغة وأدبا وحضارة عن كلية اللاهوت. اعتزل بعدها العمل الرسمي متفرغا في مزرعته إلى الدراسة والترجمة فأخرج كثيرا من الترجمات للتراث العربي الإسلامي واضعا بين يدي بني قومه مفتاحا للتعرف على الآخر من خلال الفكر والثقافة، بلا خلفيات استعمارية أو تبشيرية، وعلى الرغم من تحمسه لآداب الشرق ظل غريبا عن الاستشراق الرومانسي الذي تبناه كثير من الرسامين، خاصة الذين فتنهم الشرق بشمسه ورماله وخيامه وبيوته العربية، حاراته وحريمه وعادات الشرقيين، فلم يكن ينظر إلى الشرق من هذه الزاوية، لقد كان واعيا أنه ولد وترعرع في ألمانيا البروتستانتية، ولذا ظل يحتفظ بمسافة في مقاربته للثقافة العربية الإسلامية، وفيما يختاره للترجمة إلى اللغة الألمانية.
من ترجماته المهمة من الأدب العربي مقامات الحريري، التي ترجمها في مجلدين بعنوان «أطوار أبي زيد» كما ترجم جزءا من المها بهاراتا وجزءا من شاهنامه الفردوسي ومنتخبات من قصائد حافظ بعنوان «ورود مشرقية» ونقل شيئا من تراث الصين عبر لغة وسيطة هي اللاتينية. اجتمعت في روكرت سمات جعلت من ترجماته إبداعا ثانيا جمعت بين الوفاء لروح النص والجماليات الشعرية، فقد كان هو شاعرا نشر أشعاره باسم مستعار فرايموند راينمر «قصائد ألمانية» وديوانا في الحب الإيرورسي.

تتميز ترجماته من العربية بنقل المضامين بدقة مع الإبداع اللافت فقد كان ينجز ترجماته في صياغة شعرية جميلة ومتينة تكاد تضاهي الأصل قال فوك (فإن ترجمة روكرت لكتاب الحماسة ، جمع أبي تمام، وكذلك ترجماته لمقامات الحريري فقد صنع منهما تحفتين أدبيتين باللغة الألمانية).

لقد كان شاعرا غزير الإنتاج نظم القصيدة والأنشودة والأغنية والسونيت والملحمة والمسرحية الشرقية، وكان مقلدا للكلاسيكيين والرومانسيين في المضامين أكثر منه مبدعا، ويعود إليه الفضل في إدخال قصيدة الغزل في الشعر الألماني، كما أن تجديده تركز على صعيد الأوزان فقد كان مجددا خاصة وهو يعرف خصوصية الإيقاع في الشعر العربي والتجديد الذي أحدثته الموشحات الأندلسية. كان روكرت يهوى التثاقف والحوار الثقافي بين الشعوب، وكتب مرة «إن شعر العالم هو تسالم العالم» وعن تعلم اللغات كتب (مع كل لغة تتعلمها فإنك تحرر عبر ذلك روحا مسجونة في داخلك، روحا ستعمل وفق فكرها الخاص لتفتح أمامك شعورا بالعالم لم تكن تعرفه).
تتميز ترجماته من العربية بنقل المضامين بدقة مع الإبداع اللافت فقد كان ينجز ترجماته في صياغة شعرية جميلة ومتينة تكاد تضاهي الأصل قال فوك (فإن ترجمة روكرت لكتاب الحماسة ، جمع أبي تمام، وكذلك ترجماته لمقامات الحريري فقد صنع منهما تحفتين أدبيتين باللغة الألمانية). وهكذا في ترجمته لمقامات الحريري جاءت الترجمة على قالب الأصل من حيث السجع والتلاعب اللفظي والمحسنات البديعية بمختلف أنواعها والألغاز اللغوية، وهو عمل جبار لا يطيقه إلا كل من أوتي قوة في التصرف في اللغة الألمانية ومعرفة عميقة باللغة العربية وأسرارها والشيء نفسه فعله في ترجمته للمنتخبات من «مجمع الأمثال» للميداني الذي نشره تحت عنوان «ما يشرح القلب ويبهج العين من الشرق» ولم يكن القرآن الكريم بعيدا عن اهتمامات روكرت، فقد نص على أن الشعرية المثيرة للوحي الإسلامي لا تكمن في الصورة والحركة، لكن خصوصا في التقفية التي تملك تأثيرا كبيرا على الأذن العربية، وتتسم الترجمة للقرآن الكريم بسمتين، سمة الترجمة العلمية الحرفية كما فعل رودي بارت وهذه الترجمة لا تؤدي الغرض المطلوب، والترجمة الشعرية مثلما فعل روكرت في اختياره سورا من القرآن الكريم وترجمتها إلى اللغة الألمانية، وعلى الرغم من وجود حوالي ثمان وثلاثين ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة الألمانية، فقد ظهرت أول ترجمة عام 1616 لسالومون شفايجر، إلى آخر ترجمة لهارتموت بوبسين عام 2010 وقد استغرقت عشر سنوات، إلا أن ترجمة روكرت الشعرية مع محافظته على التقفية وروح السورة ومضمون الآيات تجعل من تلك الترجمة عملا قريبا من الإعجاز، ولا يتأتى هذا إلا لمن امتلك الذوق ورهافة الحس والتمكن من اللغة المترجم عنها واللغة المترجم إليها، مع التبحر في ثقافة اللغتين .
لقد أثبت روكرت منذ القرن التاسع عشر، وهو القرن الذي شهد ميلاد القوميات وتنامي الثورة الصناعية وبدء عصر الإمبرياليات والاستعمار، وهو كذلك العهد الذي بدأ فيه الاستشراق الموجه والمسيس عمله، أن حوار الحضارات يمر حتما بالاطلاع على ثقافات ولغات الشعوب الأخرى، وإن في كل لغة وفي كل أدب جماليات ومضامين ورؤى وآفاقا حضارية وفكرية تغني الروح وتغذي الفكر حتى يتحرر الإنسان من مشاعر الكراهية والازدراء، والأحكام المسبقة والتعصب، وقديما قيل (من جهل شيئا عاداه). وبأعمال روكرت يسجل هذا الأخير نقطة إضافية لصالح الاستشراق الألماني الذي عرف بالجدية والرصانة وعمق الفهم والتحرر من أهداف التبشير أو الاستعمار وبمنهجيه الفيلولوجي والتاريخي، حقق من الكتب العربية التراثية المهمة وصنف في تاريخ الأدب والمذاهب الفكرية والتاريخ السياسي والفكري للعالمين العربي والإسلامي.
وشهادة إدوارد سعيد نفسه الذي أنحى باللائمة على المستشرقين، خاصة الفرنسيين والإنكليز الذين كانوا طلائع الاستعمار والإمبريالية استثنى الاستشراق الألماني من هذه التهمة، دون أن يعني هذا عدم وجو د ثغرات، أو سوء فهم أو حكم مسبق مغرض عند هذا المستشرق أو ذاك، لكنه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها. دور مهم لعبه روكرت في التقارب بين ألمانيا والمشرق عبر نبض الكلمة ووهج الحرف، وإشعاع الفكر وحوار حضاري مارسه بمفرده وبجهوده الخاصة عبر الدرس والتنقيب والترجمة، بعيدا عن الأهواء والتعصب وتعشق الشهرة والمديح، ولا شك أن الشهرة التي كسبها غوته قد ظلمت روكرت، وكان أحق بأكبر قدر مما ناله من التقدير والاحتفاء والدرس، وإنشاء جائزة باسمه هي اعترف بجهود هذا الوسيط الذي لا يكل ولا يمل بين الشرق والغرب.

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية