موسيقى ممنوعة في إسرائيل: ريتشارد فاغنر وتهمة معاداة السامية

ثمة حاجز يقف بين المرء وموسيقى ريتشارد فاغنر، عندما يعلم أنها كانت الموسيقى المفضلة لدى أدولف هتلر. لكن الأمر لا يقتصر على الحاجز النفسي والأخلاقي فقط، فإعجاب أحد أكبر مرتكبي الجرائم المروعة في حق الإنسانية بتلك الموسيقى، يحيطها أيضاً بهالة من الغموض المخيف، ويخلق التساؤلات حول تأثيراتها وما تخاطبه في النفس البشرية. هل تصنع الموسيقى مجرماً؟ وهل كان فاغنر يدعو إلى القتل من خلال موسيقاه؟ ولماذا يعد هذا الموسيقار الألماني من المصادر التي ألهمت هتلر نازيته؟ يمكن القول إن موسيقى فاغنر كانت موسيقى العصر الهتلري لا منازع، تتصاعد أنغامها قبل الخطب والمؤتمرات، وتقام أوبراته ودراماته بحضور القائد النازي، كما أن هناك بعض الأقاويل غير المؤكدة، عن أن موسيقى فاغنر كانت تعزف في معسكرات الموت النازية، وهو أمر رهيب إن ثبت.
ولد هتلر بعد وفاة موسيقاره المفضل بست سنوات، فقد عاش ريتشارد فاغنر في الفترة من سنة 1813 إلى سنة 1883، ما يعني أنه لم يشهد نازية هتلر ورفاقه، ولم تلفحه رياح المد القومي التي اجتاحت ألمانيا اجتياحاً عنيفاً. لكن ألا نجد عند فاغنر ما يعد ملهماً للفكر النازي بحق؟ بلى، نجد الكثير من الأفكار المسممة والخطرة للغاية، والاضطهاد الصريح النابع من عنصرية بغيضة، ربما لم يكن يدعو إلى الإبادة الجماعية وإقامة المحارق، لكنه كان يرفض وجود اليهود بكل تأكيد، ولا شك في أنه كان معادياً للسامية.

اليهودية في الموسيقى

عند التعرض إلى مسألة معاداة ريتشارد فاغنر للسامية، يجب الأخذ في الاعتبار أنه لم يكن موسيقياً فقط، بل كان كاتباً وشاعراً ومؤلف دراما، ولا نقول فيلسوفاً وإنما صاحب فلسفة، كما أنه كان مسرحياً عظيماً كما يُقال ويُروى، ينفذ أعماله على المسرح بتمكن تام من جميع العناصر المرئية والمسموعة، لذلك تتفرق ملامح وإشارات عدائه للسامية بين كتاباته وموسيقاه، ولا شك في أن مقال «اليهودية في الموسيقى» هو الوثيقة الدامغة التي لا تدع مجالاً لتبرئته من تلك التهمة. المقال طويل إلى درجة تجعله أشبه ببحث قصير، ظاهره يتناول اليهود في ميدان الموسيقى والفن في ألمانيا بشكل عام، وباطنه ينطوي على كراهية شديدة لليهود، ونفور بالغ يؤكده ويكرره بين جملة وأخرى، واحتقار عميق لمواهبهم وقدراتهم الفنية. وكذلك ينطوي على أفكار حول ما يشكلونه من خطر على الفن والمجتمع، نظراً لـ»ماديتهم» التي تحول كل شيء إلى تجارة، بما في ذلك الفن نفسه، لأن المال عندهم يحتل أعلى هرم القيم الإنسانية.
يقال إن ألمانيا في زمن ريتشارد فاغنر كانت مكاناً جيداً لليهود، يعيشون فيه بسلام وينعمون بالحرية، يتقلدون المناصب ويلعبون أدواراً عديدة في مختلف المجالات، ومن يقرأ عن حياة فاغنر يرى أنه كان محاطاً باليهود، بل إن بعضهم كانوا أصحاب فضل عليه، إذ قاموا بمساندته وأثروا بشكل كبير في تكوينه الفني. إلى درجة أن فاغنر نفسه كان يُعتبر يهودياً في فترة من حياته، وهذا قد يذهب بالمرء إلى اعتبار موقفه إزاء اليهود، عقدة نفسية ومشكلة مع الذات قبل أي شيء آخر.
توفي والد فاغنر عندما كان رضيعاً لا يزال في شهره السادس، وبعد مرور عام على وفاة الأب، تزوجت الأم من صديق الأب لودفيغ غاير، الممثل المسرحي اليهودي، وأخذ يرعى الأم وأطفالها الثمانية بنبل وإخلاص، إلى أن توفي هو الآخر وفاغنر لا يزال صبياً. حمل فاغنر اسم غاير بعضاً من الوقت، وهو كما يقال اسم ذو دلالة يهودية ويرتبط باللغة اليديشية. لم يقتصر دور غاير في حياة فاغنر على الرعاية الأبوية المادية والمعنوية فقط، وامتد إلى الرعاية الفنية أيضاً، فهو من أمسك يد الطفل الصغير وأدخله إلى ذلك العالم الساحر المليء بالخيال، عالم المسرح. كان فاغنر يجلس ليشاهد زوج الأم يلعب الأدوار ويجسد الشخصيات الدرامية، وهو الأمر الذي سيرفضه في ما بعد، وسيسخر من وجود اليهودي على خشبة المسرح. كذلك كان غاير أول من اكتشف موهبة فاغنر الموسيقية ودعمها، وكان يصطحب الطفل الصغير في كل مكان، حتى في اجتماعاته مع صفوة الفنانين والكتاب والرسامين والشعراء، لينشأ فاغنر وسطهم ويحظى بعطفهم، ويبدو الأثر الهائل الذي تركه المسرح على فاغنر، فهو مسرحي لا يمكن فصل موسيقاه عن المسرح. كذلك كان الموسيقار اليهودي ميربير، من أول وأهم الفنانين الذين تأثر بهم فاغنر في بداياته، وخلال فترات عمله كان حوله الكثير من اليهود، الذين يدعمونه ويشجعونه، ومعظم المنتجين الذين كانوا ينفذون أعماله ويطوفون بها مسارح أوروبا، كانوا من اليهود، وهذا من تناقضات فاغنر الغريبة.
هناك الكثير من المآخذ الأخرى التي تتكون عند من يتأمل سيرة فاغنر، كتورطه في علاقات غرامية مع زوجات أصدقائه على سبيل المثال، واقتراضه الدائم للمال وعدم اكتراثه بسداد الديون، فقد قضى معظم فترات حياته غارقاً في الديون، وربما لم يعرف الرخاء إلا خلال إقامته في ميونيخ، تحت رعاية ملك بافاريا الشاب لودفيغ الثاني، الذي كان في التاسعة عشرة من عمره حينذاك، حيث أغدق عليه الهبات والأموال، وشيد له مسرحاً خاصاً به في مدينة بايرويت، يعرض عليه دراماه الموسيقية الطويلة الضخمة، التي لا تتسع لها المسارح كافة، وتتطلب شروطاً خاصة، لذلك لم تستطع مصر على سبيل المثال، سوى عرض جزء واحد فقط من رباعية الخاتم، هو أوبرا «فالكيريه» سنة 1930 في دار الأوبرا القديمة، ولم تتمكن من عرض بقية الأجزاء. تعد مرحلة ملك بافاريا من المراحل المهمة في حياة فاغنر، تمكن خلالها من إنهاء الرباعية بعد توقف 12 عاماً، ونعم فيها بالمجد والثراء بعد الفشل الذريع في باريس، التي كان دائماً سيئ الحظ معها حتى بعد موته، إذ منعت موسيقاه هناك أثناء الحرب العالمية الأولى، كما أن له بعض الآراء السلبية حول موسيقى باريس ومسارحها، والفنانين الفرنسيين، بل الجمهور الفرنسي أيضاً.
بعيداً عن التناقضات الكثيرة والجدل الذي يثيره فاغنر، لا شك في أنه من عظماء الموسيقيين وكتاب الدراما على السواء، ويعرف بأنه مزيج بين بيتهوفن وشكسبير، حيث يتميز عن غيره من عباقرة الموسيقى الكلاسيكية، بأنه كان يكتب أشعاره بنفسه ويصيغ أوبراته ويؤلف دراماه. تجمع موسيقى فاغنر بين قوة البناء وبلاغة التعبير، وينسب البعض إليه فضل ابتكار اللحن الدال، بينما ينسبه آخرون إلى شومان. أما دراماه فتحتوي على خيال لانهائي، ينفتح على الأساطير التاريخية والدينية، وأجواء السحر وما وراء الطبيعة، والأفكار الفلسفية والروحية. كان فاغنر ثائراً سياسياً وفنياً، تم نفيه إلى سويسرا لبعض الوقت بسبب مشاركته في ثورة 1849، وكانت تسيطر عليه رغبة قوية في إصلاح المجتمع والفن، وإعادة تشكيلهما، وفق ما يرى وحسبما يعتقد. وبالفعل قدم شكلاً جديداً للأوبرا أو للدراما الموسيقية، وبات ملهماً لغيره من عظماء هذا الفن، كالموسيقار الإيطالي جيوسيبي فيردي على سبيل المثال.

ترجمة الأفكار موسيقياً

تعلن أفكار فاغنر المعادية للسامية عن نفسها بوضوح في مقالاته، ولها وجود آخر في أعماله الفنية، حيث تتمثل في صور موسيقية ودرامية، وتتجسد في شخصيات قام برسمها ليترجم من خلالها تلك الأفكار، كشخصية كلينغسور الساحر اليهودي الشرير في أوبرا بارسيفال، والقزمين ألبريخ وميما في رباعية الخاتم، بما يرمزان إليه من سمات الشخصية اليهودية الخائفة المرتعدة، لكنها في الوقت نفسه تعد الخطط السرية وتجهزها من أجل الانتقام والسيطرة. أما الشخصية الأشهر فهي شخصية بيكمسر في أوبرا «أساطين الغناء في نورينبرغ» المغني اليهودي والضلع الثالث في مثلث الحب، والغريم الذي ينافس البطل فالتر على الفوز بايفا ابنة الصائغ الثري والزواج بها، حيث يشترط والدها أن يكون زوج ابنته بارعاً في الغناء، ويقيم مسابقة يشرف عليها هانز ساكس كبير المغنين الألمان. يصور فاغنر بيكمسر تصويراً سيئاً، ويجعله يسرق أغنية فالتر، ثم يقف على المسرح ليغني اللحن المسروق مشوهاً بطريقة تضحك الجمهور، وتجعله مثاراً للسخرية. هذا المشهد تحديداً يمكن ربطه مباشرة بما ذكره فاغنر في مقالته العنيفة «اليهودية في الموسيقى» عن أن أي يهودي يصعد إلى المسرح، يثير ضحك الشعب وسخريته، وأن اليهودي لا يمكن أخذ فنه بجدية، كذلك شخصية فالتر يمكن ربطها بشخصية فاغنر نفسه، فإن ذلك الفارس الذي أضاع أمواله، وذهب مفلساً إلى مدينة نورينبرغ، ليبحث عن مخرج من أزمته، ثم يقع فجأة في غرام إيفا ابنة الصائغ الثري، ويخوض من أجلها منافسة الغناء، يشبه فاغنر الذي اعتاد أن يرى في المرأة مصدراً للاستقرار المادي، بالإضافة إلى ما رسمه فاغنر من شخصيات يهودية في أعماله، لا تخلو موسيقاه أيضاً من بعض العناصر اليهودية، كأنغام Klezmer التي تبدو واضحة، في السيرينادا التي يغنيها بيكمسر على المسرح ممسكاً بعوده الصغير. ويقال إن بعض ما يغنيه زيغفريد في الرباعية، يحتوي كذلك على بعض الأنغام اليهودية. إلى جانب كل هذه الأمور، يعد أهم ما في موسيقى فاغنر أنها كانت تقوم بإحياء الحس القومي عند الألمان بقوة. إلى اليوم لا يزال فاغنر ممنوعاً في إسرائيل، وعادة ما تفشل محاولات التطبيع مع موسيقاه التي تجري من حين لآخر، ولم يشفع له أنه رغم كل شيء وفي أسوأ تناقضاته، كان مؤيداً لإقامة مملكة لليهود في القدس.

كاتبة مصرية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية