من الباليه المصري: أساطير الفراعنة ومواويل الغرام وموالد الأولياء

لفن الباليه وجوده القديم في مصر، وهو وجود لا بأس به، وإن كان في هامشه المحدود بطبيعة الحال، إذ يظل هذا الفن الأوروبي، فناً وافداً مرتبطاً بحضارة وثقافة أخرى. عرفت مسارح القاهرة فن الباليه، منذ أواخر عشرينيات القرن الماضي، حين كانت فرق الباليه الأوروبية، تأتي إلى مصر وتقدم عروضها المتنوعة، واكتشف بعض المصريين، متعة مشاهدة هذا الفن، ومتابعة الروائع الكلاسيكية الخالدة، مثل باليه جيزيل، وباليه بحيرة البجع، وباليه كسارة البندق، والكثير من الأعمال الأخرى. وقديماً مع وجود الجاليات الأجنبية في مصر، ظهرت بعض مدارس الباليه في حقبة الثلاثينيات، أما الفن الراقص الذي كان سائداً في مصر في تلك الفترة، والأكثر انتشاراً لدى شرائح واسعة من الجمهور، فهو فن الرقص الشرقي أو الرقص البلدي، الذي كان يقدم في الكازينوهات، إلى جانب العروض الاستعراضية، التي تؤديها مجموعة من الراقصات، وانتقل كل من الرقص البلدي والاستعراضات، إلى المسرح في بعض الأعمال التي تتطلب وجود الرقص، أو كإضافة جاذبة للجمهور، ومن المسرح تم الانتقال إلى السينما أيضاً، وكان الرقص البلدي الرائع، والاستعراضات الجميلة، سمة تميز أفلامنا المصرية الخالدة في زمنها الذهبي.
أما الباليه فكان فناً جديداً على المصريين، عدا من كانوا يسافرون إلى أوروبا قديماً، ويشاهدونه في بلاده وعلى مسارحه الأصلية، في القرن التاسع عشر. وللرقص بشكل عام جذوره العميقة في مصر، التي تمتد إلى العصور الفرعونية المختلفة، وتخلدها النقوش والرسومات العظيمة على جدران المعابد والمقابر، لمصريات يرقص تعبداً للإله، ويعزفن على بعض الآلات الموسيقية. وكان الرقص الفرعوني ملهماً لفن الباليه، إذ استوحى بعض المصممين العالميين، أعمالاً من الحضارة الفرعونية، حاكوا فيها الأوضاع والحركات المرسومة على الآثار الفرعونية، التي تعطي تصوراً عن طبيعة الرقص عند الأجداد من المصريين القدماء، ومن هذه الأعمال على سبيل المثال باليه «ابنة فرعون» La Fille du Pharaon، وهو من الباليهات الكلاسيكية لفرقة البولشوي الروسية، عرض للمرة الأولى سنة 1862، ويعد من العروض الضخمة ذات التكلفة العالية، التي تتطلب عدداً هائلاً من الراقصين.
على الرغم من توفر المعهد الأكاديمي في مصر، والفرقة الرسمية للباليه، والمبدعين في مجالات التصميم والرقص، لا تزال عملية إبداع الباليه المصري الخالص، قليلة ومحدودة وبطيئة للغاية، فعندما يظهر عمل ما، يكون علينا أن ننتظر سنوات طويلة أخرى، ليظهر عمل آخر. وقد يرى البعض أن ما تم إنتاجه من أعمال، لم يصل إلى الدرجة المطلوبة من الكمال، والتأثير وقوة الجذب للجمهور، ربما عدا بعض الأعمال القليلة، التي حاولت الاقتراب من الجمهور على حساب الباليه نفسه، وما له من قواعد وأصول، والميل نحو الاستعراض كما يرى البعض أيضاً. ونستطيع أن نجد في الباليه المصري، ثلاثة نماذج مختلفة، لباليهات تتناول مواضيع مصرية بحتة، ترتبط بعمق الثقافة المصرية في الماضي والحاضر، حاول مصمموها التوفيق، بين حركات الباليه وخطواته الأساسية، وبين حركة الجسد المصري وطريقته في التعبير. كما نجد أن من هذه الباليهات، ما تم تصميمه على عمل فني آخر، أي أنه تم تحويل عمل فني من قالب معين، إلى قالب فن الباليه، ومنها ما تم تصميمه منذ البداية كباليه، وتم تأليف الموسيقى خصيصاً لهذا الغرض، وللتعبير عن موضوع الباليه. هذه الباليهات الثلاثة، هي «باليه أوزيريس» الذي يتناول الأسطورة الفرعونية المعروفة، وباليه «حسن ونعيمة» الذي يتناول قصة الغرام المأساوية، التي وقعت أحداثها بالفعل في مصر، وباليه «الليلة الكبيرة» الذي هو معالجة راقصة لأوبريت العرائس الشهير.

باليه أوزيريس

صمم هذا الباليه عبد المنعم كامل، وألف موسيقاه جمال عبد الرحيم، صاحب التجربة الكبيرة في تأليف موسيقى مصرية، وفق علوم الموسيقى الكلاسيكية. وهو من أهم الباليهات المصرية الخالصة، إذ يتناول حكاية الإله أوزيريس، بما لها من مكانة كبرى في الثقافة المصرية، بالطبع يعتمد الباليه على الأزياء والديكورات الفرعونية، ويستلهم الرقص الكثير من الحركات والأوضاع الفرعونية المعروفة، حيث يتشابه الرقص مع الطقوس التعبدية، ومن هذه الحركات، ضم الكفين ورفعهما لأعلى نقطة فوق الرأس، والأوضاع الأفقية مع فتح الكفين بمحاذاة الرأس، والوضع المتقاطع للذراعين فوق الصدر، وضم الكفين أمام الصدر أيضاً. ويروي الباليه من خلال الرقص، قصة الإله أوزيريس، الذي تعرض للخيانة من قبل شقيقه «ست» الذي قتله وقطع جثته إلى قطع صغيرة، ونثرها في أرجاء مصر من شمالها إلى جنوبها، لكن إيزيس زوجة أوزيريس، وإلهة الحب، تجمع أشلاءه وتعيده إلى الحياة، وتنجب منه الإله «حورس» رمز القوة والشجاعة. يعبر الباليه عن الصراع بين الخير والشر، والقيامة بعد الموت، والقوة الساحرة للحب، التي تستطيع أن تتغلب على الشر والخيانة، وتستطيع حتى أن تتغلب على الموت.

باليه حسن ونعيمة

كذلك من تصميم الدكتور عبد المنعم كامل، وقام جمال عبد الرحيم بتأليف موسيقاه. قد يكون هذا الباليه هو الأكثر حفاظاً على قواعد الرقص الصارمة، رغم موضوعه الذي يتناول قصة من قصص الغرام، تدور أحداثها في إحدى قرى دلتا النيل، وهي قصة الحب بين «حسن» المطرب الذي يغني في الأفراح وحفلات الزفاف، و»نعيمة» الفتاة الريفية البسيطة، التي واجهت هي وحبيبها، المجتمع الريفي الرافض للحب، المحتقر للفن والفنانين، فعوقبت نعيمة على جريمة الحب التي ارتكبتها، وعوقب حسن على رغبته في الزواج من نعيمة، ورفض لأنه من أهل الغناء، لذا يجب أن يكون منبوذاً، ممنوعاً من دخول البيوت وطلب الزواج والمصاهرة. الباليه مأساوي كالقصة، يحاول محاكاة أجواء الريف، من خلال بعض الملابس والأكسسوارات والديكورات، لكنه صارم من الناحية الكلاسيكية، والحركات التعبيرية، ربما ما عدا رقصة العصي والجلاليب. كما أدخل جمال عبد الرحيم، بعض الثيمات الموسيقية الريفية المعروفة، لكنه قدمها بطابع سيمفوني. ومن أجمل الرقصات في هذا الباليه، رقصة حسن المنفردة، التي تعبر عن حزنه، وهيامه بحب نعيمة البعيدة عنه، وكذلك رقصة الفلاحات المتشحات بالسواد، اللاتي يجذبن نعيمة ويشدونها بعيداً عن حسن، والفلاحين الذين يبعدون حسن عن نعيمة أيضاً، بالقوة والعصي. كما تعد رقصة نعيمة الفردية، حين تكون وحيدة على المسرح الفارغ المظلم، إلا من بقعة الضوء المسلطة عليها، من أجمل الرقصات التعبيرية.

باليه الليلة الكبيرة

الليلة الكبيرة في الأصل، هو أوبريت العرائس المتحركة الشهير، الذي لحنه سيد مكاوي، وألف كلماته صلاح جاهين، وصمم عرائسه صلاح السقا. ثم قام عبد المنعم كامل بتحويل هذا الأوبريت إلى باليه، واحتفظ بالكلمات ولم يحوله إلى موسيقى بحتة، فهو باليه على وقع الموسيقى والغناء، أما الإعداد الموسيقي الجديد للعمل فنفذه جمال سلامة. الباليه مبهج ولطيف، وحقق نجاحاً كبيراً، ولاقى قبولاً من الجميع تقريباً، فالكل يحب الأوبريت الأصلي ويعرفه جيداً، ويحفظ مشاهده عن ظهر قلب، فلا معاناة في تلقي الباليه، ولا مجال للغموض أو الإبهام، ومحاولات البحث عن تفسير لهذه الرقصة أو تلك، اعتمد المصمم على حركات العرائس، فكان الراقص يتحرك أحياناً كأنه مشدود بخيط من الأعلى. ويشارك في العمل الكثير من الراقصين، حيث الزحام الشديد والشخصيات الكثيرة المتنوعة، فالأوبريت يصف الليلة الكبيرة في مولد من موالد أحد أولياء الله الصالحين، ومع رقصات الباليه والغناء الحي المصاحب لها، يستعيد المشاهد بابتسامة كبيرة، الشخصية تلو الأخرى، مثل العمدة التائه الذي يدله الأراجوز على الطريق، وشجيع السيما، ومطرب المقهى الشعبي، والراقصة الفاتنة، وبائع الحمص، وصاحب البدلة الجديدة.

كاتبة مصرية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية