من أنغام فلسطين: غنى الحادي وقال بيوت

لفلسطين نغم وإيقاع، موسيقى تنبعث من الأرض وتسري في الهواء، ثم تعلو كهوية وطنية ثقافية تميز البلد وشعبه، وتعكس سمات روحه الفنية ومخيلته وطبيعة إيداعه. تشترك فلسطين مع سائر بلاد الشام في بعض فنون الموسيقى وألوانها، كالميجانا والأوف والعتابا، والزجل والدلعونا وغيرها، وكذلك بعض فنون الرقص كالدبكة بأنواعها المختلفة. بعض هذه الفنون فلسطيني الأصل، انتقل بحكم القرب والجوار إلى البلدان الأخرى، حيث يقال أحياناً إن هذا اللون الموسيقي أو ذاك، إنما هو فلسطيني النشأة ومن صميم الثقافة الفلسطينية، وتلك أقوال يؤكدها إحساس المتلقي، عندما يجد في النسخة الفلسطينية من فن ما، أو لون موسيقي معين الأصالة العميقة، كما لو أنه المادة الخام لهذا الفن، أو الشكل الأول له قبل أن تناله التعديلات، وتدخل عليه الإضافات. كانت فلسطين بالنسبة للمبدع القديم، أو الإبداع الجمعي الشعبي، موضوعاً فنياً يتم من خلاله التعبير عن حب الوطن، والارتباط بالأرض، حتى في أوقات السلم والحرية، ومع كل هجمة وأمام كل عدوان، وخلال جميع ما مرت به فلسطين من نكبات وأهوال ولا تزال، صار الوطن الموضوع الفني الأول الغالب على أي مواضيع وأغراض فنية أخرى، فلا يستطيع الموسيقار أو الرسام الفلسطيني، أن يمر بألحانه أو بريشته متجاوزاً القضية، نحو عاطفة الحب أو التأملات في الطبيعة على سبيل المثال، ولا ينتظر المتلقي العربي بشكل عام من الفنان الفلسطيني، إلا أن يسمع أولاً عن فلسطين، ويرى من الصور ما يعزز خياله عنها. لذا لم تعد فلسطين الموضوع الفني الأول فقط، بل صارت الموضوع الشامل الذي يجمع بين حناياه كل شيء، ويختلط فيه حب الوطن بمشاعر الحب عامة، ويتداخل الحزن مع الفرح بأمور أسمى من الحياة العابرة، ويقترن الألم بالمقاومة والصمود في وجه الجحيم.
صار الفن الفلسطيني بطبيعة الحال فعل مقاومة، وطريقة من طرق البقاء، والفن بشكل عام تكمن قوته في ألا يندثر، وألا يبتلعه بحر الزمن، فالفنان يذهب ويبقى فنه إذا وضع فيه أسرار خلوده، لذا لم يكن الفنان الفلسطيني مضطراً إلى أن يبدأ من الصفر، وأن يخلق فنه من لا شيء، أو أن يبحث عن هوية وملامح يرسم بها وجه إبداعه، ذلك أنه عندما يتطلع خلفه وينظر إلى الوراء، يجد تراثه كاملاً وفنون أجداده، وإبداعاتهم التلقائية التي كانوا يمارسونها كجزء من حياتهم اليومية، سواء في المدينة أو القرية أو البادية. وجد الفنان الفلسطيني هذا التراث بتنوع لهجاته وإيقاعاته، فاطمأن إليه وتوارثه بالفطرة، إذ يسري في الدم والروح دون جهد أو مشقة، فأخذ يبدع فنونه الحديثة ويحافظ على تراثه في الوقت نفسه، ويعمل على تجديده وإعادة إحيائه بشكل دائم، كوضع الأغنيات الجديدة على الألحان التراثية، والإيقاعات الفولكلورية المعروفة.
وفي هذا المجال برع الموسيقار الفلسطيني الراحل حسين نازك 1942- 2023، مؤسس فرقة العاشقين، التي قدم من خلالها مجموعة هائلة من الألحان والأغاني الفولكلورية الفلسطينية، بعد أن أعاد توزيعها موسيقياً بشكل متطور وغني بالآلات الموسيقية المتعددة، وأضاف إلى الأساس التراثي إبداعاته الخاصة، التي تنتقل باللحن من صورته الأولية إلى جماليات فنية أخرى. كما لحن الكثير من القصائد لشعراء فلسطين كمحمود درويش وسميح القاسم، وتوفيق زياد وراشد حسين، وأحمد دحبور وصلاح الدين الحسيني وغيرهم. ويشتهر أيضاً حسين نازك لدى الكثيرين بأنه صاحب لحن «افتح يا سمسم» الذي ساهم في تكوين أجيال متعاقبة من الأطفال في بعض البلاد العربية.

جاذبية اللحن والغناء

مما قدمه الموسيقار حسين نازك في حب فلسطين ومن تراثها الجميل، أغنية بعنوان «غنى الحادي» بلحنها ذي الطابع البدوي إلى حد ما، وإيقاعاتها الجذابة بسرعتها وحيويتها، وغناء الكورال القوي بمجموعتيه من الأصوات الرجالية والنسائية. الأغنية من كلمات الشاعر الفلسطيني صلاح الدين الحسيني (أبو الصادق) الذي ولد في غزة سنة 1935، وتوفي في القاهرة سنة 2011، وصنع بأشعاره على مدى سنوات، أعمالاً فنية تخلد روح المقاومة وتروي تاريخها. كان أبو الصادق شريكاً فنياً للموسيقار حسين نازك في فرقة العاشقين، وألف الكثير من الأغنيات، منها أغنية «غنى الحادي» التي جاءت ضمن ألبوم عز الدين القسام، وكانت المقدمة الغنائية للمسلسل التلفزيوني الذي يحمل عنوان «عز الدين القسام» أيضاً، ضم المسلسل الذي أخرجه الفنان السوري هيثم حقي، عدداً من أغاني فرقة العاشقين، لحنها وأعدها موسيقياً حسين نازك، وكتب كلماتها أبو الصادق. تبدأ الأغنية بالصوت النسائي الذي يردد جملة «يا هلا بك يا هلا» مرتين متتاليتين، وعلى الرغم من الوجود الكبير والمتكرر لمجموعة الصوت النسائي في الأغنية، حيث يشغل حيزاً لا بأس به من مدتها الزمنية، إلا أن المجموعة النسائية لا تردد سوى تلك الجملة الوحيدة، ولا تتغني بأي من كلمات الأغنية الأخرى، وتشكل تلك الجملة فاصلاً بين كل مقطع تؤديه مجموعة الصوت الرجالي. يقول مطلع الأغنية في نسخة فرقة العاشقين: «غنى الحادي وقال بيوت.. بيوتٍ غناها الحادي.. أيامٍ تجري وتفوت.. وتحكي حكايات بلادي» نجد هذا المطلع مختلفاً في بعض النسخ الأخرى فيقول: «غنى الحادي وقال بيوت.. بيوتٍ غناها الحادي.. سدوا الدرب منين أفوت.. أفوت وأقدر بعنادي». وليس المطلع فقط هو الذي يختلف من نسخة إلى أخرى، إذ يلاحظ بعض المقاطع الإضافية بكلمات جديدة، كما في نسخة الفنان الفلسطيني أبو عرب على سبيل المثال. أما القالب اللحني الذي وضعت عليه كلمات الأغنية، فيبدو ذا طابع بدوي كما ذكرنا، يسير على وتيرة ثابتة منتظمة على دقات الإيقاع، وعزف الآلات الموسيقية، وفي مقدمتها المزمار، الذي يبرز صوته ويتصدر، هذا الانتظام يخلق جاذبية كبيرة للإيقاع واللحن، ويشد السامع ويدفعه إلى تكرار السماع أكثر من مرة، ويعد هذا اللحن من الألحان التي تعلق بالذهن، وتظل تتردد صامتة حتى بعد الانتهاء من السماع. يكون الغناء النسائي من خلال جملته الوحيدة المتكررة، أشبه بالمحرك الدافع لاستمرار الأغنية، الذي يعمل على نقلها من مقطع إلى آخر، ويلاحظ في الغناء النسائي ثبات الأداء على المنوال نفسه، فلا اختلاف في الطبقات، أو في القوة والضعف، ولا تلوين في التنغيم، على العكس من غناء الكورال الرجالي، الذي يشهد بعض التنغيم، وهبوط الصوت وصعوده، وإن كان بدرجة طفيفة، تتعمد الثبات والتكرار أيضاً، من أجل تحقيق انتظام الأغنية ككل في النهاية.
تعتمد كلمات الأغنية في صياغتها على العبارات المكثفة، المضغوطة في كلمات قليلة، لكنها تمتلئ بالكثير من المشاعر والمعاني، التي تلخص حب الفلسطيني لوطنه: «تحكي حكاية أرض وشعب.. وغنية ع تم ولادي.. يا وطني يا وطن الحب.. وحبك بالقلب عبادة» وتؤكد عزمه على الصمود حتى يتحرر الوطن كاملاً، كما تتغنى هذه القطعة الفنية البديعة بالثورة الفلسطينية: «ثورة عز وما تنذل.. بين الرايح والغادي.. وين تسأل عنا تندل.. وتلقاني وتلقى ولادي» وتتغنى كذلك بشهداء الثورة: «وشهيد الثورة ينزف بيوم ينول الشهادة» وأعمال الجهاد والمقاومة التي يحمل شرفها الجيل تلو الآخر: «يسقط صف يطلع صف.. يعشق أرضه بزيادة» وتتوعد المحتل الصهيوني بكل ما يفزعه: «فوق التل تحت التل.. بين الوادي والوادي.. يا ويلو منا المحتل.. الثورة فتحت لبنادق». والجميل في كلمات الأغنية أيضاً حب الحياة والجمال، الذي لا ينفي القوة ومواجهة الأهوال: «طلقة حب وطلقة نار.. ونسم يا هوا بلادي».

كاتبة مصرية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية