مصاهرة التاريخ والاسطورة

حجم الخط
0

ليست الاسطورة بمعناها الدقيق نقيضا للتاريخ، فهي بعكس الخرافة ابداع بشري يذهب بالخيال بعيدا وعاليا، وهي توأم الوعي البكر بالشرط البشري وصراع الانسان مع عدة جاذبيات ارضية وسماوية، فهو يعاقب على سرقة سرّ النار او على التمادي في المساءلة، ولأنه اعلن العصيان على التأقلم السلبي مع كل ما يحاصره فرفض فكرة الموت في جلجامش هو ما أفضى الى البحث عن عشبة الابدية، واصرار جوبتر على ان يقطع نهر الزمان الذي لا يقطع مرتين، وهو يتأبط حريته كصخرة ثقيلة، هو مزاوجة بين خيال واقعي وواقع متخيّل، وهذا ما دفع ارنست فيشر رغم مقتربه الماركسي الى ان يقول بأن الخيال احيانا هو واقع بالغ التركيز، لأنه غير منقطع عن الذاكرة، بل يعيد انتاجها باضافات الخبرة والمران والتخيّل، الذي هو في نهاية المطاف اطلاق للممكنات تماما كما تتكون عناقيد الثمار من براعم كانت حبلى بها، قد لا نعدم الصلة حتى بين الاسطورة والفيزياء رغم التضاد الظاهر بينهما، فمصطلح الوجود بالقوة في الفيزياء او ما يسمى نظرية الاحتمالات هو تعامل مع الممكن، لكن القابل للتحقق .
ومن اطرف النماذج التي زاوجت بين التاريخ والاسطورة ما يروى عن نشوء الامبراطورية الرومانية، فقد كان روميلوس مؤسس روما يحاول ابتكار رمز للامبراطورية، ثم فوجئ وهو مستغرق في تأملاته باثني عشر نسرا تهبط من السماء، ودلالة ذلك ان الامبراطورية ستدوم اثني عشر قرنا، ومن الناحية التاريخية تم نشوء روما عام 753 ق . م، اما آخر عروشها فقد انتهى عام 476 بعد الميلاد، وبذلك يكون تاريخها قد استمر 1229 عاما، وبالطبع لا يلوى عنق التاريخ حسب هذه الرواية كي يتطابق مع الاسطورة، لكن الاسطورة هي القابلة للتمدد والتأويل، وقدر تعلق الاسطورة بنشوء روما وغروبها فإن المؤرخين ومنهم جيبون قد يسخرون من ذلك، مثلما سخروا ممن قال ان سقوط روما كان بسبب عدم اكتشاف البنسلين .
نحن هنا ازاء نمط من السجال الذي لا نهاية له، لكنه سجال يجدد حيوية الاسطورة، بقدر ما يخرج التاريخ من تابوته الطويل، لهذا قال فاليري ساخرا وهو يعلق على اسطورة سيزيف، ان هذا البطل الاغريقي الذي حكم عليه بأن يصعد الجبل ويهبطه بلا انقطاع وهو متأبط صخرة لا بدّ انه تحول الى رياضي بعضلات يحسد عليها، لأن التكرار في كل المفاعيل الانسانية لا يكون مجانيا.
* * * * * * * *
في مسخ الكائنات للشاعر الروماني اوفيد ترد اسطورة اوروبا مشحونة بتوتر شعري، واوروبا هي اخت قدموس ملك مدينة صور اللبنانية، وهو الذي نقل الى اليونانيين اسرار الزراعة، خصوصا العنب، وكذلك المعادن والحروف، واوروبا او عروبة يقال ان قارة اوروبا سميت باسمها، وكان ثور قد اختطف الفتاة وحملها على ظهره الى الشاطئ الشمالي من البحر، وحسب الاسطورة فإن قدموس ينطلق للبحث عن اخته للانتقام ممن خطفها، وفي الطريق يلتقي بالالهة اثينا التي تقوده الى المواجهة من اجل تحرير اخته الاميرة، وقد وجدت هذه الاسطورة كالعادة من يؤولونها تاريخيا، خصوصا بعد اكتشاف قلعة في اليونان تحمل اسم قادميا.
لكن أليس ما فعله عبد الرحمن الداخل المسمى صقر قريش اقرب الى الاساطير حين قطع الفرات ليبني اندلسا، هنا نجد انفسنا ازاء رؤيتين للواقعة التاريخية، احداهما تراجيدية تؤسطر التاريخ وتشحنه بما يتخطى الزمان والمكان، ومنها قصيدة ‘تحولات الصقر’ لأدونيس، حين صوّر الارض وقد ضاقت كظل رمح امام الصقر، والرؤية الاخرى اقرب الى الكوميديا اللاذعة كما قدمها الماغوط مسرحيا عندما جعل بلدا عربيا يقايض الصقر بشاحنة قمح اسبانية عندما تم احتجازه على الحدود، ان فائض الاسطورة يتمدد ليطفو على التاريخ بمعناه الحدثي تماما، كما ان فائض التاريخ يصبح عبئا على الرواية بمعناها التقليدي بحيث يصبح قابلا للأسطرَة. وثمة صلة ما بين البطلين، بطل الاسطورة الخارق والبطل التاريخي، والحاجة الى ابتكار البطل تأتي من غيابه والفراغ الذي يشحذ الحنين اليه، لهذا فهو احيانا يستدان او يقترض من المقابر، واحيانا يكون متخيلا من المستقبل، رغم انه في الحقيقة تكوين تمتزج فيه ظلال الماضي واصداؤه مع المتخيل التعويضي نتيجة فقر الحاضر وما فيه من عجز.
ولو اخذنا شخصية عنترة في تراثنا العربي الشعبي نموذجا لوجدنا انها زاوجت بين الواقع والمحلوم به والمتخَيَّل، وما اضيف الى هذه الشخصية من مبالغات وخوارق هو بمثابة تعويض عن نقصان البطولة في الواقع، وان كان أهم ما لهذا النموذج التاريخي المؤسطر هو اقتران الحرية كشرط بالمقاومة والدفاع عن القبيلة. فعنترة قال لسيده شداد الذي انكره بسبب لونه، انا عبد لا يحسن الكر، بل يحسن حلب الماعز، واشترط على شداد ان يعترف بأبوته ويعده بالحرية كي يلبي استغاثة القبيلة وبالفعل قال له شداد: كرّ وانت حرّ!
منذ ذلك الوعد الجاهلي، والعربي يراوح بين عبودية تبطل فاعليته وحرية تفجرها، والمرات العديدة التي هزم بها كانت بسبب كونه غير حرّ ولا يحسن الكرّ، رغم اتقانه عدة مهن، منها خدمة الاسياد، وهذا يفسر لنا ما كان يكتب على اضرحة المحاربين الاغريق، ومنهم اكاديموس الذي تنسب صفة الاكاديمية اليه، كان الاغريق ينقشون على شواهد قبور محاربيهم: ان الاحرار وحدهم من يدافعون عن الاوطان!
* * * * * * *
هناك اسطورتان من الأقل شهرة في عالم الميثولوجيا تستحقان التأمل، احداهما عن طاغية كان يسجن الشعراء داخل ثور نحاسي تحت الشمس السليطة كي يتلذذ بأنينهم، وما يقولون من اشعار، بحيث يشبع ساديته، والاخرى عن احد الرعاة وقد صعد الى جبل مغناطيسي وهو لا يدري وكان حذاؤه مرصّعا بالمسامير، فتورط حيث هو واصبح اشبه بسلحفاة قلبت على ظهرها.
الاسطورة الاولى لها تأويل تاريخي عرف بما يسمى عبقرية الألم، فالشعر المقاوم في اعلى تجلياته كان من افرازات الوجه الاخر للطغيان، وكذلك ادب السجون، لكن الطاغية الذي تلذذ بالصراخ والانين سرعان ما وجد نفسه داخل ثوره النحاسي، فيما عاد الشعراء الى الفضاء الطليق.
اما الراعي الذي تورط بجبل المغناطيس ومكث مكانه كسلحفاة مقلوبة بانتظار الموت، فهو ضحية جهله اكثر مما هو ضحية الجبل الذي استدرجه، فالمسامير ليست مزروعة في قدميه بحيث لا يقوى على خلعها، وكان يمكنه ان يخلع الحذاء ليحرر نفسه من جاذبية الجبل الممغنط لكنه لم يفعل. أليس هذا ما يكابده الان اكاديميون ومثقفون وأناس عاديون على امتداد القارات، فلو تأملوا الحقائق من حولهم لوجدوا ان الزنازين التي مكثوا فيها من ورق مقوى وليست من فولاذ، وان بطالتهم وارتهانهم لجبل المغناطيس سواء كان نطاقا سياسيا او اي شرط اجتماعي لم يكن يتطلب منهم غير نزع الاحذية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية