مدينة ولاته الموريتانية تاريخ عربي وإسلامي حي وفسيفساء لثقافات مختلفة

عبد الله مولود
حجم الخط
0

نواكشوط ـ «القدس العربي»: شاهدة على حضارة عريقة امتدت على أكثر من ثلاثة عشر قرنا خلت، وخزان حضاري لثقافات تشكلت هويتها عبر مئات السنين، وحضن لحضارات عدة جامعة ما بين عصور مختلفة، واختيرت مؤخرا، لاستضافة الدورة الثانية عشرة لمهرجان مدائن التراث التاريخية الموريتانية.
تلكم هي مدينة ولاته الموريتانية جوهرة الحضارة العربية الإسلامية ومنارة شنقيط التي تتسنم منذ قرون بشموخ وعراقة وإباء، هضاب الحوض الشرقي الموريتاني في علياء لا مثيل لها حيث أنوار شمس معارفها التي لا تغيب، مشعة عبر الصحراء الكبرى.
انتقلت ولاته الحاضرة الأصيلة عبر تاريخها الطويل بين مسميات عدة، فمن بيرو حيث كانت تسمى في عهدها الغاني البعيد، إلى تسمية إيلاوتن في العهد التكروري لتحتفظ باسمها الحالي ولاته في العهد الشنقيطي بعد ما انتشرت الثقافة العربية الإسلامية فيها، وأصبحت مركز التفاعل الحضاري ومختزنه الأصيل في المنطقة.

تأسيس عريق

يعود تاريخ تأسيس تاريخ مدينة ولاته، حسب وزارة الثقافة الموريتانية، إلى القرن الميلادي الأول حيث كانت تعرف بـ “بيرو” وكانت تسمى خلال حقبة الملثمين بـ “إيوالاتن”.
وعرفت ولاته ازدهارا كبيرا مع مجيء الإسلام حيث كانت محطة للتجار والقوافل القادمة من جنوب أفريقيا متجهة لشمالها.

أحد الصحابة

يقول الدكتور أعل ولد اصنيبه الأستاذ الجامعي متحدثا عن تاريخ ولاته “بعد سقوط إمبراطورية غانه، تطورت ولاته وأصبحت مركزا لتجارة القوافل لوجودها على الطريق العابر للصحراء الذي كانت تمر به التجارة بين شمال أفريقيا وبلاد السودان؛ وكغيرها من المدن الساحلية الصحراوية مثل تشيت وشنقيط ووادان وتينبكتو، كانت ولاته مركز إشعاع كبير للثقافة العربية الإسلامية، وحسب الرواية المحلية، يوجد بها ضريح أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
لقد كان موقع ولاته ذا أهمية استراتيجية كذلك لأنها تقع على طريق الحجاج الذين كانوا يمرون بها للاستراحة والتزود قبل المضي في رحلتهم الطويلة إلى الحرمين الشريفين، وربما يكون كانكان موسى، سلطان مالي الشهير وأثرى شخص عرفه التاريخ وسيد مناجم الذهب، قد توقف بولاته أثناء رحلته إلى مكة”.

الولي بو دمعه

تعد قصة مجيء ولي الله الصالح سيدي أحمد البكاي بودمعة إلى مدينة ولاته مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، من أهم القصص التاريخية التي يحكيها أهل ولاته.
وتقول الحكاية أن سيدي أحمد سمي البكاي بو دمعة لأنه ظل لشدة تقواه وعبادته، مدة أربعين سنة يبكي لأن صلاة نافلة قد فاتته، وعندما جاء من الشمال نازحا مع مريديه، نزلت قافلته خارج سور ولاته مساء، وكان السور يغلق عند مغيب الشمس؛ وكل من كان موجودا خارجه تأكله السباع، وبدافع النصيحة أسرع الأهالي لتنبيه الولي ومريديه لخطر المبيت خارج السور، لكنه رفض مبارحة مكانه، وجاءت السباع، وظلت تبصص عند قدميه بأذنابها مسلمة عليه؛ ولدهشة أهالي ولاته في الصباح عندما وجدوه حياً، طلبوا منه الإقامة معهم، وعندها انتفت السباع نهائيا من المنطقة.
ومزار البكاي موجود في ولاته وهو أحد المعالم الإسلامية فيها التي تشمل مزارات أخرى كثيرة.

حماية التراث

في سنة 1996 سجلت اليونسكو ولاته على قائمة التراث العالمي، وحسب الاتفاقية الدولية لحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي يجب الحفاظ على هذا الكنز المادي والمعنوي لصالح الأجيال القادمة وحمايته في وجه عاديات الزمن وتقلبات الحياة.
وانخرطت الدولة الموريتانية، وعيا منها بضرورة حماية مدنها القديمة وتراثها الثقافي عموما، في مسار إيجابي وبذلت جهودا محمودة منها المهرجان السنوي الذي تنظمه وزارة الثقافة بانتظام، تحت الرعاية المباشرة لرئيس الجمهورية، لإحياء أمجاد المدن التاريخية القديمة وهي شنقيط ووادان وتشيت وولاته.

زيارة ابن بطوطة لها

وقد زار الرحالة الشهير ابن بطوطة حاضرة ولاته وتحدث عن الازدهار الكبير الذي كانت تعرفه المدينة بحكم موقعها الاستراتيجي كنقطة وصل بين الأقاليم الأفريقية في الجنوب وبين الدولة الإسلامية في الشمال؛ وقد وصف ابن بطوطة رخاء معيشة أهل ولاته بقوله “ويجلب إليهم تمر درعة، وسجلماسة، وتأتيهم القوافل من بلاد السودان فيحملون الملح ويباع الحمل منه بولاتن (أي ولاته) بثمانية مثاقيل إلى عشرة ويباع في مدينة مالي بعشرين مثقالا وربما يصل إلى أربعين مثقالا وبالملح يتصارفون كما يُتصارف بالذهب والفضة يقطعونه قطعا ويتبايعون به”.

مثابة للعلماء

وتميزت ولاته في القرن السادس عشر الميلادي بكونها مركزا من أهم مراكز الإشعاع الثقافي العربي الإسلامي، وهاجر إليها عدد كبير من علماء مدينة تومبكتو التي عرفت قلاقل وفي نفس الظروف، كما هاجر إليها علماء ومفكرون من فاس وتلمسان ومراكش، واستقر بها بعض أهالي توات بجنوب الجزائر، وبعض العائدين من الأندلس التي سقطت نهائيا بيد الأسبان عام 1492.

العمارة الولاتية

تتميز البيوت الولاتية بفن عمارة خاص بها مستوحى من العمارة العربية الإسلامية خاصة منها العمارات الأندلسية والمغربية، ويبدو ذلك في طراز مواد البناء، وأيضا في أنواع الزخرفة مع جنوح إلى البساطة بعض الشيء، وميل إلى استخدام الخامات المحلية من فخار وجص وحجارة ملونة عالية الجودة تضمن قوة البناء وانسجامه مع المشهد البيئي العام.
وتتحدث الروايات التاريخية أن القائد الإسلامي عقبة بن نافع مر بولاته في إحدى فتوحاته، وأنه هو من شيد مسجدها العتيق، لكن العمارة الإسلامية التي شهدتها المدينة ظهرت بعد ذلك بفترة لاحقة.
وقد حاول باحثون غربيون وموريتانيون تفسير معاني لوحات الفسيفساء التي تزين جدران ومداخل البيوت الولاتية، وقد اتفقوا على عودة بعضها لفترة ما قبل الإسلام بما يحمله من أساطير وثنية في حين أن بعضها الآخر إسلامي مغربي أندلسي الملامح لحد يجعل البعض يعتقد أنه جلب من فاس أو تلمسان وهو أمر يكاد يكون متعذر الإثبات أو النفي على حد سواء.
ويتمتع البيت الولاتي بنوع من التهوية الطبيعية وذلك بتقليله من الأبواب، فلكل منزل بابان لا أكثر أحدهما مخصص للرجال والضيوف، والآخر للنساء والحريم عامة، كما أن في كل بيت مجلسا يسمى محليا بـ “الدرب” وهي إشارة إلى موقعه كأقرب مكان من باب الشارع حتى لا تقع عين الزائر على الحريم، وللحريم أيضا مجلس يكون بابه داخليا أي متفرعا من إحدى الغرف فقط ويسمى “السقفة” ولا يخلو بيت من طابق علوي يسمى القرب، ويكون السلم الصاعد إليه متسعا لحد يسمح بفناء تحته توضع فيها قدور الماء لتبقى باردة بالتظليل.

كنوز المخطوطات

تحوي مكتبات مدينة ولاته آلاف المخطوطات الثمينة التي لا تقدر بثمن؛ وتعود ملكية مكتبات ولاته إلى عائلات وأشخاص.
وقد حوفظ على بعض هذه المخطوطات وتم تصنيف بعض مكتبات المدينة بدعم من المعهد الموريتاني للبحث العلمي واليونيسكو، غير أن البعض الآخر ما زال عرضة للإهمال ويعيش حالة مزرية بسبب قسوة المناخ والبيئة الصحراوية وبدائية الأرشفة.
ومن أشهر مكتبات ولاته التاريخية مكتبة مخطوطات الطالب بوبكر المحجوبي، وتضم مئات المخطوطات ورغم الاعتداء عليها من طرف المستعمر، وفعل الظروف الطبيعية ما زالت هذه المكتبة من أغنى المكتبات بالمخطوطات وقد تم تنظيم وتصنيف ما يناهز 1100 مخطوط من مخطوطاتها، وما يزال عدد كبير من هذه المخطوطات بحاجة للعناية.
وعن ولاته يقول الباحث الموريتاني محمد ولد مولود ولد داداه الشنافي: “المدن القديمة أقربها للحضارة مدينة ولاته بسبب تفنن أهلها في الطعام والشراب ثم تأتي المدن الأخرى لمن لا يعرفها؛ فهي مدينة مستلقية على حضن جبل منذ مئات الأعوام؛ وكانت موطن علماء موريتانيين تركوا بصماتهم في الثقافة العربية والإسلامية في البلدان العربية، ومر بها آخرون، كالرحالة ابن بطوطة الذي زارها في القرن الرابع عشر وشبّه جودة تمورها بواحات البصرة في العراق، وتحدث عنها ابن خلدون”.

حالة ولاته أمس واليوم

أظهرت الحكومة الموريتانية اهتماما كبيرا بتنمية وتطوير مدينة ولاته، حيث صادقت على مرسوم لمخطط تقطيع توسعة المدينة.
ويأخذ المخطط في الحسبان المقاييس الضرورية لخلق إطار حياة ملائم يضمن الأمن والسكينة للمواطنين، ويغطي مساحة إجمالية تقدر بـ 85 هكتارا. وخصصت من هذه المساحة للسكن 37 هكتارا، و826 قطعة أرضية بمساحة 400م2 في منطقة التوسعة، ومساحة تقدر بـ 16 هكتارا، لتجهيزات عمومية، ومباني إدارية، في حين خصصت مساحة 32 هكتارا لشبكة طرقية.
غير أن المؤرخ والباحث الموريتاني سيدي أعمر ولد شيخنا، يؤكد أنّ مدينة ولاته التاريخية تعاني من نقص كبير في الخدمات التنموية، فبالرغم من التحسن النسبي في السنوات الأخيرة على مستوى بعض خدمات الكهرباء والاتصالات، وإعادة إحياء الثقافة من خلال مهرجان المدن القديمة.
وأضاف “تعاني ولاته أيضاً من غياب طريق معبّد يربطها بعاصمة الولاية (مدينة النعمة شرقي موريتانيا) كما تحتاج إلى بناء طرقات داخلية معبدة بالإسفلت، وهو أمر سهل، نظراً لصغر حجم المدينة، كما أنّ هناك، حسب قوله، حاجة لترميم الجامع الكبير فيها، ودعم المكتبات الولاتية، ورقمنة التراث الولاتي المخطوط.

رأي آخر

يقول الباحث الموريتاني الأستاذ حسني ولد افقيه الخبير في تاريخ ولاته “تصنيف مدينة ولاته الذي تزامن مع تفاقم تأثيرات موجة جفاف السبعينيات القاتلة، شكل بداية العد التنازلي لحياة مدينة ولاته خاصة، حيث حولها مسعفوها المفترضون، خطئا أو عمدا، إلى طاولة التشريح، بدل غرفة الإنعاش والإحياء”.
وقال “واقع المدينة اليوم أصدق شاهد على ما نقول، كل ذلك يمثل عقوقا وخيانة لولاته، جوهرة الإبداع المكنونة، ولروح الأستاذ مختار امبو رحمه الله تعالى (مدير عام اليونسكو الأسبق) الذي فتح لهذه المدينة وشقيقاتها أبوابا واسعة لانبعاث جديد تستعيد فيه أجسامُها البالية وظائفها التربوية والثقافية والاجتماعية والتجارية”.

طرق العناية بالمدينة

يضيف الباحث ولد افقيه “إن تصحيح المسار يقتضي بطبيعة الحال، الجمع بين التورثة والتنمية الشاملة المتوازنة المستدامة في مسار واحد متكامل؛ وفي سبيل بلوغ هذا الهدف المرتسم أمامنا غاية سامية، يتحتم علينا أن نوسع، قدر الإمكان، دائرة الاشتغال بالتراث لتسع أبعادَه المظللة بحُجب الانتقائية الإيديولوجية الواعية أو اللاواعية”.
ويقول “علينا أن ننصف أصحاب الإبداع والصنائع، وأن نوفيهم حقهم من الذكر والتقدير والاعتبار لقاء مساهماتهم الجليلة في تشييد العمران الولاتي وفي بناء أوجه ناصعة من تراث هذه المدينة من خلال ما يسميه ابن خلدون التأنق في الصنائع واستنباط صنائع جديدة مثل فنون البناء والطبخ والزخرفة وغيرها”.
وأختتم باسترجاع “نفثة كنت كتبتها بين يدي نسخة سابقة من مهرجان ولاته…. حيث خاطبت مدينة ولاته بقولي: لا نريد أن تختبري مدى التزامنا بالمعاني السامية التي نَحَتِّ من الحجارة الصَّلْدِ وأنبتِّ في الأرض اليباب وسقيت برحيق العقول الخالص وبثثت بسخاء في كل الأرجاء… فنحن بكل بساطة وصراحة ضيعنا كل شيء… ومن أجل لا شيء… ما نحن يا ولاته إلا بقية مما تَرَكْتِ تحملها ذاكرتنا المسكينة صورًا باهتة نستحضرها لحظات النشوة والامتلاء بالذات…وننساها عند الامتحان الفعلي، حين لا ينجي الولاتي إلا صدق دعواه وخالص وفائه لقيمه قولا وفعلا”.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية