مدينة أريحا السورية عروس المصايف والمدافن المحفورة في الصخور

حسام محمد
حجم الخط
0

تعد محافظة إدلب في الشمال السوري، كإحدى أغنى المواقع الأثرية على امتداد الخريطة الجغرافية السورية، فرغم مساحتها التي لا تزيد عن ستة آلاف كيلو متر مربع، إلا أنها تمتلك ما يقارب الثلث من مجمل الآثار السورية، وأينما اتجهت في أركان واتجاهات المحافظة، فإن كل الطرق ستؤدي بك في نهايتها إلى مدينة أثرية أو معلم تاريخي، وحضارات لأمم سابقة تمتد إلى آلاف السنين قبل الميلاد، عاش قاطنوها على مختلف مشاربهم حياة السلم والحرب، وزاولوا التجارة وقاموا بالزراعة، فبقت أعمالهم لقرون طويلة عقب رحيلهم لتروي بعضا من قصصهم وتخلد ذكراهم.
قطار التوثيق، ذهب بنا في هذا اليوم إلى مدينة أريحا الواقعة جنوبي مدينة إدلب في الشمال الغربي من سوريا، هناك على الطريق الرابط بين محافظتي حلب واللاذقية، وعلى الرغم مما حل في المدينة في العقد الأخير، إلا أن آثارها ما زالت ككتاب تتقلب صفحاته عبر العصور، لتعود بنا إلى حقب تاريخية قديمة نعيش معها عبق التاريخ، ونتعرف على الحضارات التي مرت على المدينة وبقيت آثارها شاهدة عليها إلى اليوم.
في الوقت الراهن، يتبع لمدينة أريحا السورية 55 بلدة وقرية، وأكثر من 44 مزرعة وناحيتان هما احسم ومحمبل، ويبلغ عدد سكانها نحو 55 ألف نسمة، وتشرف على سهول إدلب الشمالية عند اِلْتقاء جبل الأربعين بالسهل المجاور، يحدها من الغرب مدينة جسر الشغور، ومن الجنوب مدينة المعرة، ومن الشمال مدينة إدلب، ومن الشرق مدينة سراقب.
أحد سكان المدينة والمهتمين بآثارها وتاريخها الحضاري صالح تريسي، قال لـ «القدس العربي»: مدينة أريحا الحالية تنقسم إلى قسمين، أريحا القديمة، وأريحا الحديثة، وفيها من الآثار ما يجعلها تفتخر بأصولها الموغلة في القدم، وفيها مدافن محفورة بالصخور، والقبة الرومانية الكبيرة، وأسواق مقبية، وخان القيصرية، والعديد من الآثار التي تعود لفترات زمنية مختلفة.

الأريج الطيب

تسمية أريحا آرامية، وأصلها «ريحا» كما يلفظها أكثر سكان أريحا وجبل الزاوية ومعناها الأريج لامتيازها برائحة زهور المحلب، وحسب المؤرخ فايز قوصرة فإن تسمية ريحا مأخوذة من أريحا في فلسطين، وفي اللغات القديمة يطابق معناها بالعربية، وهي سامية عروبية الأصل، بمعنى الرائحة الطيبة أو الأريج الطيب.
أما في أصلها فتعني القمر وبلدة القمر، لأن الكثير من المدن القديمة اشتقت أسماؤها من أسماء الآلهة، وأما رويحة فهي تصغير لكلمة ريحا، ولها المعنى ذاته، وتكتب كذلك رويحا بألف ممدودة.
وفي لبنان في بقاع بعلبك قرية ريحْا وتعني ريح، كما توجد خربة روحا في لبنان وتعني الروح والريح والهواء والنسيم، وروحا تعني كذلك الفسيح الواسع.
أما ياقوت الحموي فذكرها «ريحاء» يعني بها ريحا محافظة إدلب، وميزها عن أريحا فلسطين بدون ألف، بينما البغدادي ذكرها «ريحا» بغير ألف «بليدة بنواحي حلب أنزه بلاد الله وأطيبها، وهناك بلدة خربة أثرية تدعى رويحا إلى الشرق الجنوبي من ريحا بـ 15 كم، أشار الباحث الألماني ليتمان إلى أن الاسم القديم لرويحة غير معروف حتى الآن، وإن كان الاسم قد تحول فيما بعد إلى كلمة ريحا ليطلق على البلدة الحالية.
وحسب أحمد سعيدو، وهو من المهتمين بالآثار التاريخية للمدينة، فإن تاريخها يعود لفترة 3 آلاف عام قبل الميلاد، فقد وجدت العديد من اللقى الأثرية في أريحا والمناطق المجاورة لها، والتي تدل على عمق المدينة في التاريخ، ومن أهم اللقى، جرة مليئة بالقطع الذهبية، قسم منها إسلامي، وقسم منها إيطالي يعود لمدينة البندقية.

الأزهر الصغير

وحسب المؤرخ فايز قوصرة، فإن الجامع الكبير في مدينة أريحا يعد من أهم المعالم التاريخية فيها، وأصل الجامع هو كنيسة ديرية من الطراز البازيليكي المشابهة لكنيسة قلب لوزة في جبل السماق شمالي غرب إدلب، وتحول إلى مسجد بعد دخول الظاهر بيبرس مدينة أريحا وتحريرها في عام 667 هـ، 1677 م، حسب نقش موجود في مدخل المسجد الشمالي.
ومن بقايا الكنيسة وجود النجفة في المدخل الشمالي، وأبراج الناقوس على شكل مربع، وتشبه الأبراج في مساجد معرة مصرين وسرمين وكفرلاتا، وجميعها في الأصل كانت كنائس.
وأضاف أن المسجد جُدد أكثر من مرة، وخاصة في العصر المملوكي، وتوجد نقوش بأسماء سلاطين المماليك في مداخل المسجد، كما جدد في أواخر العهد العثماني، كما تم تجدده منذ قرابة 20 سنة من قبل لجنة مشكلة من أبناء مدينة أريحا.
مشيرا إلى وجود تشابه عمراني في الفترة المملوكية بين منطقة أريحا ومصر، فإلى جانب المساجد هناك أبنية مجاورة على شكل قباب مقوسة الشكل، وتخرّج من مسجد أريحا الكبير العديد من الأدباء والشعراء وعلوم الفقه، واشتهرت بكثرة خريجي علم الحديث على مدار 300 عام الماضية.
من جهته قال صالح تريسي: إن أريحا سابقاً أطلق عليها اسم «الأزهر الصغير» لكثرة المساجد فيها، وكان يقام في الجامع الكبير مدرسة شرعية تعلم العلم الشرعي من خلال غرف تم بناؤها في الجهة الشمالية من الجامع الكبير، وفيها 35 مسجدا بين كبير وصغير.
مشيراً إلى أن الجامع الكبير كان في أصله كنيسة، بعد أن فتح عمرو بن العاص مدينة أريحا وحررها من الرومان، وكانت المدينة إذا فتحت حرباً تصبح مسجدا، أما إذا فتحها المسلمون صلحاً فتبقى كنيسة على حالها، وأكد أن الجامع جُدد بناؤه في عهد المماليك بعد أن تهدم جزء كبير بفعل زلزال ضرب المنطقة.
ويقع الجامع الكبير في وسط البلدة القديمة لمدينة أريحا التي تقع على الطريق من حلب إلى اللاذقية، وتحيط به أسواق الحدّادين والخبّازين وخان المنزل وخان السوق.
كما أن من أهم المناطق الأثرية في أريحا، هو التل الأثري الذي لم ينقب بعد بشكل رسمي، إضافة لوجود العديد من الكهوف الأثرية التي تحوي مقابر تعود للعهد الروماني.
كما يوجد العديد من الأحياء والأبنية القديمة التي تدل على حقب تاريخية متنوعة، إضافة لوجود ثلاثة حمامات قديمة (الصغيرة، الوسطاني، الفوقاني) كما يوجد عدد من الكهوف والمغاور في المدينة القديمة، وبعضها يدل على وجود محال تجارية قديمة، وفق ما قال المهتم بتاريخ المدينة أحمد سعدو لـ «القدس العربي».
كما تعد مدينة أريحا في إدلب من المدن التاريخية الهامة في شمال سوريا، إذ كانت بيوتها في التاريخ القديم محفورة تحت الأرض في العصر الروماني، ويحيط بها سور ضخم يحوي 16 بابا، فيها العديد من الآثار التاريخية التي تعود للعهد البيزنطي والروماني من المباني والمدافن والخزانات والقنوات المائية الرومانية وآثار تعود لفترات زمنية مختلفة.

الفتح الإسلامي وبعده

أريحا، حظيت خلال تقلب الأمم السابقة وتداول السيطرة عليها باهتمام كبير قبل الفتح الإسلامي وبعده، ولعل ما تم توثيقه، يعد من أحد الرموز الدالة على أصالة وعراقة المدينة، ومنها، «كهف الأربعين» الذي وفق العديد من المصادر التاريخية يعود إلى القرن الرابع الميلادي، وهذا الكهف هو عبارة عن منارة لجأ إليها النصارى المطاردين من السلطات وذلك في عهد إمبراطورية يوليانس حيث كانوا يتعبدون فيها وتحولت المنارة في يومنا هذا إلى مسجد بمئذنة صغيرة دعي مسجد الأربعين، تخليداً لذكرى القديسين الأربعين الذين لجأوا إليه ما بين الفترة الزمنية الممتدة ما بين 330 و637 ميلادي.
وفي القرن الخامس الهجري، تم فتح الإسلامي لمدينة أريحا في عام 637 م، حيث اهتم الملك غازي ابن صلاح الدين وزوجته بأريحا كثيراً، ومن أبرز المواقع خلال فترة حكمهم هي الحمام الوسطاني ـ موقع جب القاضي وهو من السقايات العامة.
أما في العهد المملوكي، فقد خلّد المماليك في أريحا عددا كبيرا من الشواهد أهمها الجامع الكبير في القرن السادس الهجري، توسيع الجامع تم سنة 694 ـ 969 هـ في عصر زين الدين كتبغا.
وجامع البيانية: وكان جامعا صغيرا ثم عمل العثمانيون 922 ـ 1516 هـ على جعله مسجدا جامعا تقام فيه الصلوات وصلاة الجمعة، حيث تشير الوثائق العثمانية إلى أن السلطان كان يهتم به كثيراً ويرسل الأمر السلطاني تلو الآخر للاهتمام بأهاليه ومراعاة طلباتهم وعدم ارهاقهم بالضرائب لما لهم من مكانة خاصة لدى الدولة العثمانية، ولعل السبب يكمن في وجود أصحاب النسب الشريف وكثرتهم فيها والسادة الكرام ويجب احترامهم بموجب اللوائح والقوانين الموضوعة لذلك.

مهن
تاريخية

إن أريحا ما زالت تحتفظ بأسواق المهن اليدوية كسوق الحدادين، وسوق النجارين، وسوق التجار، وسوق الصباغين وغيرها، وفق ما قاله المهتم بتاريخ المدينة وآثارها صالح تريسي لـ«القدس العربي».
كما أنها ما زالت تحافظ على مهنها القديمة كصناعة المناجل والفؤوس وغيرها من الأدوات الزراعية اليدوية مضيفاً أنها تشتهر بزراعة الكرز، والمحلب والتين بالإضافة إلى الزيتون الذي تعد إدلب الخضراء من المحافظات المنتجة لزيت الزيتون.
كما أن موقعها المتوسط بين أنطاكية وآفاميا في العصر البيزنطي، جعلها محطة تجارية مهمة، فيها العديد من المنتجعات السياحية، أهمها منتجع جبل الأربعين، لمناخها المعتدل وطبيعتها الخلابة بالإضافة لغناها بالأوابد التاريخية القديمة، جعلها قبلة الزائرين والسياح.
وتنشط في أريحا صناعة مواد البناء كالبلوك أو اللبن الإسمنتي والقرميد، والمنتجات الإسمنتية واستخراج حجر البناء والجص من مقالعها الكثيرة.
واستطرد المهتم بتاريخ المدينة صالح تريسي بالقول: شعب أريحا يتميز بأنه طيب ومضياف، واستقبل الكثير من السوريين المهجرين من مختلف المناطق بعد ثورة 2011. وتتميز المدينة، بالدرجة الأولى بزراعة المحلب، وهي أشجار تستخدم في صناعة الأدوية ولها رائجة جميلة، إضافة للكرز، والتين، والكرمة، والزيتون.
كما تشتهر أريحا بأكلة الكبب واللحم بعجين، إضافة لتنوع صناعة الحلويات فيها، وخاصة الشعيبيات بكافة أشكالها، وتتميز بعادات متوارثة في الأحياء القديمة، مثل تبادل الهدايا والمأكولات والحلويات ما بين الجيران، خاصة في شهر رمضان.
وأضاف أن أريحا كانت تابعة لقضاء حلب، وفي فترة من الفترات تبعت لأنطاكيا وجسر الشغور، كما مرت بمرحلة كانت فيها منطقة مستقلة تتبع للباب العالي في اسطنبول مباشرة.

جبل الأربعين

جبل الزاوية، ويشرف بحافة صدعية مستقيمة شبه قائمة على سهل الغاب وتكثر فيه الفوهات البركانية. يبدأ بجبل الأربعين في الشمال وينتهي بجبل شحشبو في الجنوب. ارتفاعه المتوسط وفق الموسوعة العربية 750م وأعلى قمة فيه قمة جبل النبي أيوب البركاني 940م وينحدر بلطف نحو الشرق وتتناوب فيه القمم والحفر الكارستية والأودية القليلة العمق.
نالت مدينة أريحا أهمية استراتيجية من الناحية الجغرافية، خلال تموضعها وإشرافها على الطريق الدولي m4 الواصل بين حلب واللاذقية، وقربها من جبل الأربعين الذي يشرف على مناطق شاسعة من أرياف إدلب، والذي يتميز بهوائه النقي وانتشار أماكن التنزه فيه، وحسب المهتم بتاريخ المدينة أحمد سعدو، فإن وجود جبل أريحا (جبل الأربعين) أعطاها بُعداً سياحياً، حيث كان ينصح به الأطباء في حلب للمرضى، خاصة ممن يعانون من أمراض نفسية، نتيجة وجود الهواء النقي والهدوء والطبيعة الخلابة.
وتشكل اليوم أريحا نقطة خلاف بين تركيا وروسيا، حيث تقع المنطقة ضمن اتقاق أستانة، بعد أن وقفت قوات النظام من عملياتها العسكرية فيها أوائل 2020 الأمر الذي جعل المنطقة نقطة خلاف، حيث تنتشر على جانبي الطريق الدولي ومدينة أريحا قوات تركية ضامنة للاتفاق.
إضافة لمنطقة جبل الزاوية الواقع جنوب مدينة أريحا، والذي يعتبر صمام الأمان لمنطقة شمال غربي سوريا في وجه قوات النظام والميليشيات الإيرانية المساندة له.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية