شمال غربي سوريا: الانتحار في تصاعد والأطفال ضحايا

حسام محمد
حجم الخط
0

تعود الحروب عادة بنتائج كارثية على الشعوب، وكلما طال أمد الصراعات تتضاعف التداعيات السلبية على الحالات النفسية للفئات المعنية، لتعود عليهم بنتائج كارثية قد تؤدي في العديد من الحالات إلى دفعهم نحو التخلص من الحياة، نتيجة المفاهيم الخاطئة التي أوصلتهم إليها الحروب، أو طرق أبواب الرحيل هربا من الواقع المزري والضغوط التي تشكل جبلا تتداعى أركانه لعدة عوامل يكاد حصرها أشبه بالمستحيل.
المجتمع السوري الممثل من كل أطراف الصراع، قد تداعت أركانه بفعل ومفاعيل عسكر الحرب، وعلى رأسهم النظام الذي قاد سنة الحياة السورية إلى الهاوية، فبادر وبارز بكامل ترسانته العسكرية للبقاء، متخذا من معادلة “البقاء للأقوى” منهجا وطريقا للحفاظ على أركان حكمه، فلم يكن التهجير القسري واقتلاع السوريين من مدنهم وبلداتهم أقل كارثة من دفنهم تحت أنقاض المنازل التي بُنيت بشق الأنفس.
ولم تكن مواقف المجتمع الدولي الباهتة تجاه السوريين وأدنى حقوقهم في الحياة، أقل ألما من اللاعبين المحليين في الميدان، الذين لم يتركوا فرصة لاستغلال الشعب السوري تحت مسماه، وهي خطوات تؤدي إلى تضييق حياة السوريين وخنقهم بدون حبال، ما أدى مع تراكم الضغوط وانعدام الاستقرار إلى جنوح البعض نحو خيار الرحيل هربا من الحياة والأحياء.
وشمال غرب سوريا، شهد تواترا متصاعدا في حالات الانتحار بين فئات شعبية متعددة، جراء عوامل معيشية واضطرابات نفسية، بعضها تعد الأسباب الاجتماعية من أهم عواملها، بالإضافة إلى عوامل أخرى لا تقل عنها أهمية كـ “الأوضاع الاقتصادية، والظروف المعيشية” في حين تشهد المنطقة جهودا حثيثة لمكافحة ظاهرة الانتحار والحد من انتشارها في المجتمع.

أطفال يهربون من الحياة

سجّل فريق “منسقو استجابة سوريا” الناشط في شمال غرب سوريا، الأسبوع الماضي، ثلاث حالات انتحار لنساء وأطفال خلال أقل من 48 ساعة، في مناطق متفرقة، وأشار الفريق في تقرير له إلى توثيقه تسجيل زيادة في نسبة الانتحار بمقدار 120 في المئة، قياساً بعدد الحالات المسجلة خلال الفترة نفسها من العام الماضي، وهو مؤشر إلى مدى ما آل إليه المجتمع وماهية المخاطر المستقبلية التي تحيق به.
ذات المصدر، كان قد وثق خلال عام 2023 حوالي 81 محاولة انتحار فقط في مناطق شمال غربي سوريا، وهي عمليات أدت في 44 حالة منها إلى الوفاة، فيما كانت 37 حالة انتحار موثقة عبر تناول “حبوب الغاز” وهو ما يقارب نصف عدد عمليات حالات الانتحار، وفق تصريحات لمدير فريق منسقو استجابة سوريا، الدكتور محمد حلاج.
أخطر ما تحمله سجلات الانتحار وما تم توثيقه، أن الأطفال والفتيات والفتيان باتوا من أبرز فئات الضحايا، وهو ما يعكس مدى حالة اليأس ومرارة ضغوط الحياة على من هم دون سن الثامنة عشرة.
فقد أنهت فتاة متزوجة (16عاماً) حياتها شنقاً بمدينة الباب شرقي حلب، في السادس من شباط/فبراير الجاري، وأنهى طفل حياته (13 عاماً) في التاسع من ذات الشهر، ويقيم في منطقة بابسقا شمالي إدلب، إثر تناوله حبة غاز، ونشر والد الطفل مقطعا صوتيا على وسائل التواصل الاجتماعي قال فيه، إن طفله تناول الحبة (القرص) بتحريض من زميله، الذي أخبره بأنه إذا تناول الحبة يمرض، ويمكن لأهله نقله إلى المدرسة التي يريدها، مشيراً إلى أن وضعهم المادي جيد وليس كما أشيع أنه انتحر بسبب الفقر.
وفي 21 من شهر كانون الثاني/يناير الماضي، أنهت طفلة من بلدة تفتناز حياتها إثر تنازلها حبة غاز، وأحبط شبان في مدينة اعزاز شمالي حلب، محاولة انتحار شاب كان ينوي إلقاء نفسه من على قمة “مول اعزاز” وسط المدينة يوم 12 من شهر شباط/فبراير.
فيما ارتفع عدد حالات الانتحار المسجلة في شمال غربي سوريا منذ بداية العام الحالي إلى 20 حالة (11 حالة انتحار، 9 محاولات فاشلة) واستخدمت حبوب الغاز بالدرجة الأولى للانتحار، حيث إن 15 حالة انتحار كانت باستخدام حبوب الغاز منها 8 حالات انتهت بالوفاة، وفق ما قال مدير العلاقات في مديرية الصحة بإدلب غانم الخليل لـ “القدس العربي”.

دوافع الانتحار وأسبابه

ساهمت ظروف الحرب في سوريا، وتداعياتها في تردي الأوضاع الاقتصادية التي انعكست على كافة مناحي الحياة، بتزايد ظاهرة الانتحار، إلا أن هناك أسباباً أخرى حسب مختصين نفسيين.
حيث يحتاج نحو 17 مليون سوري إلى مساعدات مثل الغذاء والماء والرعاية الطبية، بسبب تعنت النظام في إدخال المساعدات الإنسانية، بعد الحرب التي شنها على الشعب ووصفت بأنها “أكثر الحروب وحشية في هذا القرن” وأدت إلى مقتل أكثر من 300 ألف مدني في سوريا في السنوات العشر الماضية.
وفي هذا السياق قال المختص النفسي علاء العلي لـ”القدس العربي” إن المسبب الرئيسي للانتحار هو الاضطرابات النفسية ما بعد الصدمة التي تعرض لها الشخص، إضافة للاكتئاب الشديد وسوء استخدام المواد المخدرة، والمشاكل الاقتصادية، ومشاكل العلاقات الاجتماعية والأسرية، والأمراض المزمنة.
وهذا ما أكده المختص النفسي في منظمة “حراس الطفولة” العاملة في قطاع الحماية في شمال غربي سوريا كمال الصوان، مضيفاً أن بيئة الأزمات والنزاعات والكوارث تعتبر بيئة مشجعة لظهور اضطرابات ومشاكل نفسية، ومن مسبباتها “التعرض لصدمة أو الضغط العصبي، مثل فقدان شخص عزيز، أو التعرض للتنمر والإساءة، أو الصعوبات المالية، كما أن ملازمة الشخص لأحد المرضى النفسيين فترات طويلة قد يكون سبباً في إصابته بالمرض”.
وحسب منسقو استجابة سوريا، فإن نحو 75في المئة من حالات الانتحار تحدث في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، حيث معدلات الفقر مرتفعة، وتشير الأدلة إلى وجود علاقة بين المتغيرات الاقتصادية والسلوك الانتحاري، كل هذا يمكن تفهمه بسبب حجم المشاكل التي يعاني منها الفقراء والآلام الناجمة عنها.
ويعاني شمال غربي سوريا من أوضاع اقتصادية ومعيشية وتعليمية متردية وتحديات تحتاج إلى تكاتف دولي كبير لإنقاذ المجتمع السوري، ولعل من أبرز الكوارث المتواترة، تكمن في انخفاض معدلات الاستجابة الإنسانية من قبل المنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة بشكل واضح، حيث وصلت نسبة 47 في المئة وبنسبة 39.79 في المئة في المخيمات خلال 2023 مع استمرار الانخفاض نتيجة تزايد الاحتياجات الإنسانية في المنطقة وضعف عمليات التمويل.
بالإضافة إلى أزمة السكن المستمرة التي تعاني منها الآلاف من العائلات نتيجة الارتفاع المستمر في الإيجارات، وعدم وجود ضوابط تنظم طبيعة الإيجار للمنازل، وفق ذات المصدر التوثيقي.
وكذلك تدني مستوى الخدمات الطبية بشكل ملحوظ في المنطقة وزيادة الأخطاء الطبية المسجلة خلال الفترة السابقة، وزيادة الضغط الكبير على المشافي، ما يدفع العديد من المدنيين إلى اللجوء إلى المشافي الخاصة.
ومن الأسباب التي تضغط على حياة السوريين أكثر، هو الضعف الكبير في أداء المؤسسات التعليمية للعديد من الأسباب أبرزها غياب الدعم للمعلمين وتدني الأجور إن وجدت، ما سبب انتشار ظاهرة المدارس والمعاهد التعليمية الخاصة، الأمر الذي تسبب بحرمان آلاف الأطفال من الحصول على التعليم.
فيما تشهد المنطقة كذلك، أزمة تأمين المياه الصالحة للشرب للمدنيين وارتفاع أسعارها وسط غياب كامل للحلول حتى الآن في العديد من المناطق وأبرزها مدينة الباب وريفها.

حبة الغاز

تعد حبة الغاز، وهي عبارة عن أقراص مكونة من فوسفيد الألمنيوم وكاربامات الأمونيوم، إضافة إلى البارافين كمادة حاملة، أبرز الوسائل والأكثر استعمالاً لمحاولة الانتحار، وهي حبوب تستخدم أيضا كمبيد للحشرات والقوارض، ويستخدمها التجار في شمال غربي سوريا في مخازن الحبوب حفاظًاً عليها من الحشرات، وتباع في الصيدليات الزراعية.
وأصدرت وزارة الزراعة في إدلب شمال سوريا، تعميماً يقضي بوضع شروط محددة لبيع حبوب الغاز للفلاحين والأهالي، عقب زيادة أعداد حالات الانتحار باستخدام تلك الأقراص من قبل أطفال ومراهقين، ويأتي التعميم بعد مطالبات من الأهالي بضرورة وضع حد لحالات الانتحار عبر حبوب الغاز.
وبحسب ما نشرت مديرية صحة إدلب، فإن نسبة الموت بحبة الغاز100 في المئة، إلا في حالات إسعاف المصاب على الفور وتطبيق بروتوكول العلاج الخاص بهذه الحالات، وتظهر أعراض التسمم بالحبة، بالتسبب بالغثيان والإقياء وغياب عن الوعي إضافة لانخفاض شديد في ضغط الدم، وفق المديرية.
وقال المهندس الزراعي أحمد عباس الذي يملك صيدلية زراعية لـ “القدس العربي”: إن حبة الغاز خطيرة، لا نبيعها للأطفال والمراهقين، وبعد التعميم الأخير من الوزارة زاد الحذر تجاه بيعها، فهي رخيصة الثمن، تباع بليرتين ونصف الليرة التركية، وهي كفيلة بقتل الإنسان.
وفور دخولها المعدة مع المياه تتفاعل مع عصارة المعدة وتنتج غاز الفوسفين شديد السمية، ما يؤدي إلى إصابة كافة أجزاء الجسم بالتلف الكامل، ويؤدي ذلك إلى انخفاض شديد في ضغط الدم وتسرع في ضربات القلب إلى جانب ارتفاع نسبة السكر في الدم وصدمة حرارية، ثم انهيار القلب والأوعية الدموية وفشل كلوي وضيق حاد في التنفس، ما يؤدي إلى الوفاة خلال ساعات قليلة.
بات انتشار ظاهرة الانتحار يؤرق العاملين في المجال الإنساني والجهات المعنية، فهو يهدد وجود الإنسان في المنطقة، ويعتبر طريقا خطيرا لحل مشاكله الشخصية، ووفق ما قاله المختص النفسي علاء العلي لـ “القدس العربي”: من المهم وجود تشبيك بين المنظمات الإنسانية، ليتم تأمين حاجات الشخص الذي أقدم على الانتحار، سواء حاجات مادية أو نفسية أو علاقات اجتماعية.
إضافة إلى وجود علامات تحذيرية يطلقها الشخص قبل الإقدام على إنهاء حياته، كأن يكون عنده عزلة مفرطة، وتغير مفاجئ على سلوكه يؤدي لإهمال ذاته، أو يكتب وصية بأنه سيقدم على الانتحار.
وقال العلي، إنه يمكن الحد من ظاهرة الانتحار أيضاً من خلال مساعدة الشخص لمنع الانتحار إذا رصد الأهالي بعض التصرفات التحذيرية، وتحويله لطبيب نفسي، الذي سيتعامل مع الشخص المضطرب ويضع له خطة أمن وسلامة، بإبعاد ومراقبة الأدوات الحادة في المنزل، لحين تلاشي الأفكار السلبية لدى هذا الشخص.
كما يجب تكثيف جلسات التوعية الجماعية أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو زيارة المخيمات والمؤسسات والمنشآت، للنصح بكيفية تعامل الأهالي مع الشخص الذي من الممكن أن يقدم على الانتحار، وتحويله لجلسات دعم نفسي أو علاج دوائي، أو تزويد الأهالي بالخط الساخن لمحاولة الانتحار، وتأمين الحاجات المفقودة عند هذا الشخص.
ومن مديرة الصحة بإدلب غانم الخليل، أشار إلى عملهم مع المنظمات الإنسانية المعنية بتقديم الخدمات الطبية، على تفعيل التوعية والتدريبات الصحية للكوادر النفسية التي بدورها تعمل على زيادة وعي المجتمع بخطورة ظاهرة الانتحار، إضافة للكشف والإحالة لحالات الانتحار وتحويلها للخدمات الصحية في المراكز المخصصة.
وأضاف الخليل، أنه بلغت أعداد المراكز التي تقدم خدمات صحة نفسية ودعما نفسيا 44 مركزا مدعوما من المنظمات الإنسانية بالتعاون مع مديريات الصحة.
من جهته قال عضو منظمة حراس الطفولة كمال الصوان إن المراكز المتخصصة لعلاج الأمراض النفسية في الشمال السوري قليلة جداً، وغير كافية لتغطية الحاجة لتقديم التدخل المناسب والعلاج الذي تقتضيه حالة كل شخص.
وحسب الصوان فإن أكثر الأمراض النفسية شيوعاً هي “اضطرابات القلق، المشاكل السلوكية عند الأطفال، الاكتئاب، الاضطراب الثنائي القطب، اضطراب كرب ما بعد الصدمة للأطفال والبالغين”.
كما يمكن أن تسبب الصدمة أكثر من مجرد إيذاء المشاعر فقد تؤدي إلى تجاهل الأعراض، ما يؤدي إلى التدهور المرضي وانخفاض جودة الحياة بسبب المرض أو العزلة وبالتالي تزعزع المجتمع ككل كونه قائما على الأفراد.

حلول مقترحة

وبسبب تكرار حالات الانتحار في المنطقة، أطلقت منظمات محلية تحذيرات من تحول الانتحار إلى ظاهرة خطرة تهدد المنطقة في ظل الظروف التي تشهدها، وطالب فريق منسقو استجابة سوريا كافة الجهات بمعالجة هذه الظاهرة من كافة جوانبها، وإنشاء مراكز للتأهيل النفسي، وتشكيل فرق خاصة لمكافحتها، وإطلاق حملات إعلامية لتسليط الضوء على أخطار هذه الظاهرة وكيفية الحد منها.
كما حثت المنظمات الإنسانية على إنشاء مصحات خاصة لعلاج مدمني المخدرات في المنطقة، وخاصةً بعد انتشار ترويج المخدرات والتعاون مع الجهات المسيطرة بالإبلاغ عن المروجين، خاصةً أن متعاطي المخدرات يدخلون بحالة غياب للوعي الكامل وعدم القدرة على اتخاذ القرار أو منع أنفسهم من الانتحار.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية