محاولة إغلاق مدرسة «مار متري» منبه على صراع مستمر

حجم الخط
0

فوجئ العاملون في مدرسة «مار متري» وطلابها البالغ عددهم نحو 300 طالب وأولياء أمورهم يوم الاثنين الفائت بصدور قرار المسؤولين في بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس، بإغلاق المدرسة نتيجة «التكلفة التشغيلية العالية والضغط المالي الكبير الذي تعانيه المدرسة»، وتحويلها حسبما جاء في نص الإعلان، إلى «مدرسة لصعوبات التعلم ابتداء من العام الدراسي 2025/2026».
تقع المدرسة داخل أسوار البلدة القديمة في موقع استراتيجي وخطير؛ وتشغل مبنىً تاريخيا عريقا، مكونا من ثلاثة طوابق وباحات ومرافق أخرى. يشكّل المبنى، من الجهة الغربية، امتدادا لمحيط كنيسة القيامة، ونقطة تواصل مع جنوبها، حيث مباني منطقة «باب الخليل» التي تفضي بدورها إلى منطقة الحي الأرمني. لقد استهدف المستوطنون اليهود والمؤسسة الإسرائيلية خلال العقود الماضية، وما زالوا، جميع هذه المناطق؛ ونجحوا، بالاستيلاء على عدة مواقع استراتيجية وعقارات تاريخية مهمة كانت تملكها البطريركية الأرثوذكسية – ربما كان أشهرها بين صفقات التسريب المعروفة داخل أسوار المدينة، دير «مار يوحنا»، وفندقي «الامبريال والبترا» وعقارات أخرى كانت تملكها البطريركية الأرمنية.

كيف تسوّل بطريركية القدس الأرثوذكسية لنفسها اتخاذ قرار إغلاق المدرسة في ظل محاولة الاحتلال الاستيلاء على قطاع التعليم الفلسطيني، وإخضاعه لمناهج التعليم الإسرائيلية، وإلغاء هويته الفلسطينية

من الصعب أن يستوعب أي مواطن فلسطيني كيف تسوّل بطريركية القدس الأرثوذكسية لنفسها اتخاذ قرار إغلاق المدرسة في هذه الظروف الحرجة التي تمر على المدينة وعلى أهلها، وفي ظل هجمة الاحتلال ومحاولته الاستيلاء على قطاع التعليم الفلسطيني، وإخضاعه لمناهج التعليم الإسرائيلية، وإلغاء هويته الفلسطينية التي كانت تؤمّنها المدارس للطلاب في القدس الشرقية.
وقد يكون ما أعلنه «اتحاد أولياء أمور طلاب مدارس القدس» على صفحته في أعقاب انتشار النبأ حول قرار إغلاق المدرسة، معبرا عن هواجس الكثيرين الذين يشعرون فعلا أن «التعليم في خطر ونحن نغلق مدارسنا بأيدينا «وأضافوا: «نحن نحمّل البطريركية والمدعو (ع.ق) مسؤولية هذا القرار.. إغلاق مدرسة تاريخية سيكون بمثابة الكارثة «قالوا وأوجزوا فأين الكارثة؟ ليس من الإنصاف أن نحمّل قرار البطريكية وزر الكارثة التي يعاني منها قطاع التعليم الفلسطيني برمته في القدس؛ فهذه العملية/ الكارثة حاصلة منذ أعوام، وسجّل فيها الاحتلال إنجازات ضخمة وواضحة؛ بيد أن إغلاق المدرسة، وما قد يتبعه من إجراءات قد تقدم عليها البطريركية في المستقبل، من شأنه أن يسهم في تفاقم أزمة قطاع التعليم، ويشجع على  تفريغ البلدة القديمة من المؤسسات الفلسطينية ومن سكانها المرتبطين بخدمات تلك المؤسسات. من الخطأ أن نتعامل مع قرار البطريركية من باب تأثيره المتوقع على رقعة التعليم داخل البلدة القديمة وحسب؛ فالقرار الذي اتخذ دون استشارة أحد، أو أي جهة معنية، يعكس مقدار العجرفة اليونانية المتأصلة منذ قرون تجاه المواطن المسيحي العربي الشرقي، ويؤكد حالة الاغتراب بينه وبين كنيسته؛ وهي الحالة التي عكفت قيادات هذه البطريركية من اليونانيين الوافدين والمتحكمين برقبة وبكنوز كنائس فلسطين، على خلقها ورعايتها وترسيخها كي تبقى على حالتها، كما هي عليه في أيامنا الحالية، وهذا جزء مستفز من الكارثة! عللت البطريركية قرار إغلاقها للمدرسة بتكلفتها المالية العالية، وهي ذريعة إشكالية تندرج تحت بند الديماغوجيا أو الادعاء المطلق الذي لا يمكن لأحد التحقق من صحته بأدوات مهنية وموضوعية، كما حصل في كل مرة لجأت فيها البطريركية اليه في الماضي، وقد تلجأ إليه في المستقبل. فطالما استمر القيّمون على البطريركية في اتباع سياسة التهرب من مواجهة الأزمة/الكارثة، وعدم اتباع طريقة ادارة سليمة، لاسيما فيما يتعلق بضرورة نشر الميزانيات وتفصيل أوجه مدخولاتها المالية، مقابل تفاصيل مصروفاتها، كما تقتضي المسؤولية والشفافية وأصول إدارة المال العام والمحافظة على المصلحتين، الكنسية والوطنية، طالما لا يحصل هذا، لن يمنع أحد وقوع الخروقات والتسريبات في المستقبل؛ وهذا جزء أساسي في استمرار الكارثة! لقد حاولت المؤسسات الأرثوذكسية العربية في فلسطين وفي الأردن، خلال العقود الماضية التوصل مع القيمين على «أخوية القبر المقدس»، التي تضم أعضاء يونانيين فقط، إلى اتفاق يفضي إلى وضع صيغة مقبولة لشراكة ما في ادارة الشؤون المدنية للبطريركية، ولكن جميع المحاولات أفشلت من قبل قباطنة البطريركية وبدعم جهات. وهذا جزء محبط من الكارثة.
لا يمكنني في هذه العجالة أن اسرد تاريخ هذه العلاقة الشائكة، ولا المرور على إحصاء خسائرها، خاصة ما يتعلق بحالات تسريب العقارات بظروف مستفزة وتكتم المسؤولين عن تنفيذ تلك الصفقات على مصائر ريوعها الهائلة وعلى هوية المستفيدين منها، لكنني استطيع أن اتساءل كيف يمكن أن تصل البطريركية المقدسية، مرة تلو الاخرى، إلى هذا الحال وتعلن تحديدا في المحطات الملتبسة وبالتزامن مع افتضاح وقوع «مصيبة» ما، عن مواجهتها لضائقة مالية وهي التي تدخل خزائن، أو صواني بعض كنائسها وأديرتها تبرعات كبيرة يقدمها الحجاج، وبدل تأجير مئات الدكاكين والمخازن التجارية، كما هو الحال في أسواق القدس وغيرها من المدن والمواقع؟ وكيف تضطر كنيسة تضم «هيئتها العامة» بضع عشرات من الرهبان المنذورين لخدمة مسيحهم ولحياة التقشف، أن تعلن عن إغلاق مدرسة مقدسية بحجة عجزها المالي، من دون أن تشرح للناس أو لرعاياها، ما قيمة مدخولاتها، على الأقل من الصفقات الكبرى التي نشر عنها في العشرين سنة الأخيرة؟ وكيف صرفت تلك الأموال؟ وفي أي حسابات أودعت، سواء في البلاد أو في البنوك الأجنبية؟ وهذا جزء آخر موجع من الكارثة!
لا أعرف إذا كان مخطط المسؤولين في البطريركية تحويلها إلى مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة، كما جاء في إعلانها المذكور. ولكن إذا كان هذا هو المخطط الحقيقي فعلى المسؤولين أن يشرحوا للمقدسيين كيف كانوا سينفذون قرارهم، وهم يعرفون أن من يفتح مدارس التعليم الخاص في القدس هي بلدية أورشليم ووزارة التربية الإسرائيلية، ويعرفون أيضا أنه على مقربة من مبنى المدرسة توجد بعض عقارات البطريركية المحكّرة لجهات إسرائيلية بإيجارات طويلة الأمد؛ وهذا جزء مقلق من الكارثة! بعد انتشار الخبر عن قرار إغلاق مدرسة مار متري، شرع المعلمون والطلاب بسلسلة احتجاجات أمام مبنى البطريركية، وعلت بعض الأصوات والبيانات المنددة بالقرار، فاضطرت البطريركية إلى إصدار بيان تعلن فيه عن مبادرة أطلقها البطريرك، ويتم بموجبها «تشكيل لجنة خاصة تضم مختصين في المجال التربوي لمتابعة ملف المدرسة على أن ترفع هذه اللجنة «نتائج أعمالها وتوصياتها خلال أسبوعين». إلى هنا ما قرأناه على لسان البطريركية، ولنتأمل منه الخير؛ ولكن البعض تساءل، إذا كانت هذه خيارات البطريرك وقناعاته الصادقة، فلماذا لم يقم بمتابعة ملف مدرسة مار متري مع السادة المختصين قبل إصدار قرار إغلاق المدرسة وتشويش عالم الطلاب والمعلمين، وهم على مشارف نهاية العام الدراسي؟ وهناك من يراهن، على أن هدف إقامة اللجنة هو مماطلة من كانوا وراء قرار إغلاق المدرسة، وربما تأجير المبنى لجهة غريبة، حتى ينتهي العام الدراسي الحالي وتموت القضية. وهنالك من يظن أن الهدف من إقامة اللجنة هو تفعيل الضغط على جهات أخرى وإجبارها على المشاركة في تغطية أعباء المدرسة المالية كي تستطيع البطريركية معاجلة أزمة «ديونها المزمنة». وهذا جزء من الغيب فلننتظر رحيل الضباب. أعرف أن جميع تلك الاحتمالات ممكنة، وان للحقيقة أكثر من وجه قد يشوهها، مرة أخرى، صافرات وهرطقات جحافل الأعوان والمستشارين والمتواطئين والمنتفعين من «خيرات» أسيادهم، الذين انبروا مباشرة للدفاع عن بطريركهم وعن حاشيته «المنزهين»؛ لكنني أتمنى، من اجل القدس وصالح أهلها، أن تنجح اللجنة في مساعيها وان يتوصل أعضاؤها المقدسيون إلى حل يضمن بقاء وجود المدرسة في مبناها هذا العام ولأعوام مقبلة. وأوكد في الوقت نفسه، أننا كأبناء أصليين للكنيسة العربية الأرثوذكسية، سنبقى نطالب بحقوقنا وفي طليعتها حقنا بان نشارك في إدارة الكنيسة كي نعرف ما لا يريدون لنا أن نعرفه ونمنعه؛ لكنني، أقول كما قلت مرارا: لن ينجح الفلسطينيون المسيحيون وحدهم في مواجهة «روما» فهل سيصحو «أهل الخير» وينضموا شركاء لهم في مسيرة «درب الآلام» من أجل حماية ما تبقى من حلمنا الشرقي؟
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية