مثقفونا والحرب على غزة

حينما اندلع طوفان الأقصى في 07 تشرين أول/أكتوبر هب بعض المثقفين، ممن يحسبون على قيم التنوير والحداثة والدفاع عن مبادئ الجمهورية، يشجبون هبة المقاومة الفلسطينية، في الدفاع عن أرضها وعرضها، وحق شعبها في الوجود. ويصنفون ذلك في خانة العدوان والإرهاب والاعتداء على الإسرائيليين الآمنين في بيوتهم.
وكان من هؤلاء وغيرهم كثير في عالمنا العربي، ثلاثة كتاب يقيمون في أوروبا، ويسعون بكل السبل لتقديم صورة ترضي نرجسية الغرب، وتغذي مخياله، الذي يتغذى على أحكام قبلية، وصور نمطية، ترضي نرجسيته وتعاليه، في إطار مركزية الثقافة الأوروأمريكية، وهامشية العالمين العربي والإسلامي، وطبعا الحفاظ على المصالح الحيوية الغربية.
ومن الجلي أن كل كاتب يسعى إلى الظهور والشهرة وجوائز الغرب، لابد أن يرضي هذه الأنا الغربية المستعلية، ويقدم لها ما يرضيها وينسجم مع أطروحاتها. فجوائز الغرب لا تعطى لمن يتمرد على الصور والأكليشيهات السائدة. وكان سارتر قد انتقد هذه المركزية، وهو نقد من الداخل لا من الخارج. وتناول جوائز الغرب، التي تمنح لمثقفي المستعمرات السابقة كالغونكور مثلا، واصفا ذلك بقوله «نحن نصنع الكلمات وهم يستعيرونها».
كتب المفكر والرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيغوفيتش منتقدا هذه النخبة، التي تناوئ الثقافة الأم، وتتقرب من ثقافة الآخر دونية واستخذاء، محاولة دائما التكيف مع مقاييس وأحكام هذا الآخر. «لكن المشكلة الحقيقية هي وجود الأجانب الغرباء من بني جلدة المسلمين، وبخاصة المثقفين، الذين فقدوا كل اتصال بهوية شعوبهم، وبذلك يدور التفاهم في حلقة مفرغة».
يأخذك العجب وأنت تقرأ أو تسمع من هؤلاء الكتاب العرب، وهم يدينون المقاومة الفلسطينية، التي تدافع عن حقها في الوجود وعن أرضها، واصفين إياها بالإرهاب والأصولية ومعاداة قيم الجمهورية والحداثة، وأنها تسعى لقيام دولة فلسطين الإسلامية، مع أن أهل غزة أنفسهم، ممن يدفعون الثمن غاليا، تضحية بالدم، وهدما لبيوتهم ومرافق حياتهم الحيوية، وترهيبا لأطفالهم، وحصارا وتجويعا وقتلا بأبشع طرق القتل والإرهاب الإسرائيلية، وبأسلحة أمريكية، لم يسبق لها الاستخدام من قبل، لم يدينوا هذه المقاومة، ولم يحملوها المسؤولية عما يحدث من تقتيل وهدم وتخريب ودمار، وهذه الفاتورة الثقيلة من الشهداء والجرحى والأرامل والثكالى والبنى التحتية المدمرة تماما.
ويشتد عجبك أكثر حين ترى على الشاشات هبة كبيرة من بعض مثقفي الغرب، ومن الشعوب الغربية ذاتها، المتعاطفة مع الحق الفلسطيني، والمنددة بالإرهاب والبربرية الإسرائيلية، وبالضوء الأخضر الأمريكي، الذي حول الهيئات الدولية إلى ساحة لمساندة إسرائيل علنا، رفضا لإطلاق النار. وكان هذا الطيار الأمريكي آرون بوشنل، الذي أحرق نفسه احتجاجا على حرب الإبادة في غزة، بتواطؤ أمريكا، وهي التي طالما ادعت الترويج لحقوق الإنسان، والدفاع عن الحريات. وصاح صيحته الأخيرة «فلسطين حرة «، رسالة من لدن طوائف كثيرة من المثقفين والشعوب الغربية، التي ترفض استمرار هذه الحرب ضد العزل من النساء والأطفال.
من منا يجهل سياسة التوسع الإسرائيلية على حساب أهل الحق من سكان غزة والضفة الغربية؟ وأن صفقة القرن تتضمن فيما تتضمنه من بنود علنية ومخفية تصفية القضية الفلسطينية نهائيا، بتهجير سكان غزة إلى سيناء، أو إلى دول العالم، وسكان الضفة الغربية إلى الأردن. وهكذا لن يبقى هناك شيء يسمى الدولة الفلسطينية. ودعك من شعار «حل الدولتين» الذي غدا طعما حقيقيا لجر السلطة الفلسطينية إلى نهايتها، وكأن شعار إسرائيل بعد حرب غزة «أرض بلا شعب لمستوطنين جدد بلا أرض».
والمفهوم أن تتواطأ بعض الأنظمة العربية مع إسرائيل وأمريكا أيضا، فهي تريد كذلك الخلاص من «حماس» مع أن القاصي والداني يقر بأنها حركة مقاومة وطنية فلسطينية مشروعة تماما، ضد محتل غاصب. لكن من الواضح أن هذه الأنظمة، التي نجحت في تدبير ثورات مضادة ضد انتفاضات شعوبها، لما طالبت بالعدالة والحرية والكرامة والمساواة وحقوق المواطنة الحقيقية، تريد هذه الأنظمة، التي جددت جلدتها الاستبدادية، النجاح كذلك في تدبير ثورة مضادة لطوفان الأقصى، بوصمه تارة بالإسلاموية، وتحييد مشاعر موطني هذه الأنظمة، بوسم الشهداء بالقتلى. وقد تكرر ذلك آلاف المرات في كثير من القنوات الإعلامية لهذه الأنظمة. وسارعت بعض هذه الدول إلى تأمين خط بري ليصل الغذاء والدواء إلى إسرائيل، بعد أزمة مضيق باب المندب، بينما يموت نساء غزة وأطفالها، جوعا من الحصار، وقد نفد كل شيء من طعام وعلف حيوانات وحشائش، في جريمة حصار لم يسبق للعالم أن شهد لها نظيرا من قبل.
ماذا بوسع هذه المقاومة أن تفعل غير العمل المسلح، بعد أن انتهت كل الحلول السياسية إلى طريق مسدود؟ لقد ذهب الفلسطينيون إلى أوسلو واعترفوا بحق إسرائيل في الوجود، مقابل اعتراف إسرائيل بحق الفلسطينيين في الوجود، وحقهم في دولتهم وعاصمتها القدس الشرقية، وتخلوا عن العمل المسلح، واكتفوا بالعمل السياسي، عبر مفاوضات مسار السلام. لكن الذي حدث أن إسرائيل التهمت أكثر من ثلثي الضفة الغربية، وحاصرت غزة لأكثر من ثمانية عشرة عاما، وأعلنت القدس عاصمة أبدية لإسرائيل. وهكذا قبض الفلسطينيون الريح، وحصدوا الهشيم، لما تخلوا عن العمل المسلح إلى جانب العمل السياسي، ولم يتعلموا من نكبات السابق أن إسرائيل لا تعترف بمواثيق ولا معاهدات.
لقد كتب أحد هؤلاء الذين أشرت إليهم في المقدمة عن همجية حماس وترويعها للمستوطنين وقتلها للمدنيين. ونسي هذا الكاتب أن المحتل ليس له حق الدفاع عن النفس، لأنه يحتل أرضا ليست له، ويغتصب حقا لغيره، وأن مقاومته ليست مشروعة فحسب، بل واجبة. وإننا لنعجب من هذه الردة الفكرية والخيانة العلمية، وقرارات الأمم المتحدة كلها تدين عدوانية إسرائيل واحتلالها للأرض، وتطالبها بالعودة إلى حدود ما قبل حزيران/يونيو 1967. ويأتي هذا الكاتب ليفهمنا أن طوفان الأقصى هو عدوان وبربرية، ضد سكان آمنين ومسالمين، بينما هو لم يكن في الواقع سوى عملية استباقية ضد مشروع إسرائيل في احتلال غزة وتهجير سكانها. ونسي أن شارون قال مرة إنه يتمنى أن يقوم في الصباح ويرى غزة قد ابتلعها البحر.
في كتابه «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة» بيّن مالك بن نبي كيف يعمل الاستعمار على تشكيل نخبة مزيفة، تلهج بالأسماء دون المضمون، على شاكلة: حرية، مساواة، أخوة، مدنية، حقوق إنسان، وتدير الآلة الاستعمارية دفة الصراع الفكري لصالحها. والخطر في ذلك أن الخطاب الاستعماري المباشر يقابل بالجفاء والقطيعة والشك، من قبل الشعوب، بينما خطاب هذه النخبة المزيفة قد يحظى بالقبول، بسبب علاقتها العضوية بالنظام القائم.
وهؤلاء الكتاب المحسوبون علينا هم أنفسهم، الذين ساندوا أنظمة شمولية واستبدادية، أتت على الأخضر واليابس، قمعا للحريات، ونهبا للمال العام، وتزويرا للانتخابات، في مقابل الصراخ ضد الظلامية. وطالما استنزفوا قوانا السمعية بصراخهم، مطالبين بالحريات الفردية، مع أن الإنسان في هذه البلاد العربية مغيب، بل هو مجرد رقم من الأرقام، في سجلات الإحصاء لدى وزارات الداخلية.
مَن مِن هؤلاء المثقفين، الذين يدينون المقاومة الفلسطينية، كمقاومة مشروعة، ويؤكدون على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.. من منهم أدان الأنظمة العسكرية وقمعها للحريات، وعدم فصلها بين السلطات، وغياب شفافية الإعلام وحريته، والاستئثار بالمال العام وتبديده، في مقابل الاحتفاء بالإعلام المزيف، غير الحر وغير الشفاف، في هذا البلد أو ذاك؟
وهناك صنف آخر من المثقفين ممن لزموا الصمت المريب، وهو أشد وطأة من هجوم الصنف الأول من الكتاب على المقاومة الفلسطينية، وهو صمت يصنف بحق لفيف منهم في خانة الجبن، مع أن الثقافة موقف ومسؤولية وحرية ونضال ضد الظلم والقبح والشر، كما يصنف عند لفيف آخر في خانة التموقع وعدم إثارة القلاقل والشبهات، لحساب المكاسب الفردية والمصالح الشخصية، التي تتلخص في منصب سياسي أو أكاديمي أو جائزة مرموقة، وحتى لا يوصم صاحبها بالدفاع عن الرجعية والأصولية.
وماذا يقول كثير من الدعاة وأساطين الخطاب الديني ونجومه، عن حصار غزة وتجويع نسائها وأطفالها؟ ألم يقل النبي إن الذي ينام وجاره جائع ليس بمؤمن؟ فما بالك أنه محاصر، وأن الضحية طفل ورضيع وامرأة حامل، ألا يتحمل هؤلاء أيضا مسؤولية خطيرة مع قوافل المثقفين الساكتين؟
مشكلة الثقافة والأفكار كونها أخطر من السلاح التقليدي. فالذات الواعية، التي تشعر بفداحة الظلم، تسعى إلى رفعه بكل السبل، بدلا من توضيبه وتدويره، بشعارات الحداثة والعصرنة وقيم الدولة المدنية والحقوق الفردية، وتسويقه على أنه عدل، في عملية غسيل دماغ وتشويه فكري.
إن الغد العربي، الذي ينتظره ملايين الشباب العربي، لن ينبلج فجره إلا من غزة، فقد كشفت الحرب على غزة من هو الواعظ الحقيقي، والمثقف النزيه، والسياسي غير المتاجر بقضايا أمته، وإن قيام دولة فلسطينية كاملة الحقوق هو الضمان لزوال الأنظمة الاستبدادية وبنيتها الفوقية، من مثقفين تجار، ووعاظ سلاطين، وسماسرة سياسة.
كما إن انتصار الشعب الفلسطيني وقيام دولته المشروعة سوف يساهم في تحقيق السلم العالمي، وبدء حوار حقيقي بين الشمال والجنوب، وإن ما وصمه الغرب بالإرهاب منذ التسعينيات لم يكن سوى ردة فعل على التحيز الغربي، والتجبر الأمريكي، والتنمر الإسرائيلي. وقد كانت قضية فلسطين في صلب ردة الفعل العربية والإسلامية هذه، التي وصمها الغرب بالإرهاب.

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية