ليبيا: صراع الثروة يحتدم بين الحكومتين

نسرين سليمان
حجم الخط
0

طرابلس ـ «القدس العربي»: صراع على الثورة والنفط الليبي وعائداته يشتد يوما بعد آخر ليمثل نتيجة متوقعة للانقسام في السلطة التنفيذية الذي تعاني منه البلاد منذ أكثر من سنة، وتحديدا منذ أن اتخذ البرلمان قرارا بسحب الثقة من حكومة الدبيبة وتعيين أخرى من دون توافق لتزدوج السلطة التنفيذية مرة أخرى وتعود البلاد إلى مربع الصفر.

ورغم ان هذا الانقسام أثر وبشكل كبير جدا على الاستقرار الأمني والعسكري والسياسي لليبيا إلا أن تبعاته الاقتصادية كانت أدهى وأمر، نتيجة لانقسام المؤسسات إثره فضلا عن ازدواجية الميزانية فكل يصرف على مناطق نفوذه لينتج في النهاية تراكم جديد لدين الدولة العام ومشاكل أكبر على المدى البعيد.
ومع انقسام الأطراف الدولية بين داعم لحكومة الوحدة الوطنية وداعم لحكومة باشاغا، اتضحت خريطة النفوذ الدولية من خلال الصراع على النفط، فعملت بعض الدول على خلق تقارب مع حكومة الدبيبة سعيا لتمرير اتفاقيات حول النفط والغاز.
فمن الاتفاقية الليبية التركية حذت إيطاليا حذو تركيا وتقاربت مع حكومة الدبيبة لغرض تمرير اتفاقية وصفتها حكومة باشاغا بالمشبوهة وأشعلت بينهم جدلا وصل حد التهديد بالالتجاء إلى القضاء للفصل والحكم. حيث وقعت المؤسسة الوطنية للنفط الليبية وشركة «إيني» السبت الماضي صفقة لتطوير حقلين بحريين للغاز في القطعة «NC41» شمالي البلاد، غير أن وزارة النفط انتقدت الاتفاق ووصفته بـ«غير القانوني».
وعقب التوقيع، قالت وزارة النفط بحكومة الوحدة، في بيان، إن «الاتفاقية تمت بطريقة مخالفة للتشريعات القانونية المنصوص عليها في قانون النفط وقانون تأسيس المؤسسة».
وعلى إثر ذلك دافع رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة، الأربعاء، عن توقيع حكومته اتفاقية نفطية مع شركة «إيني» الإيطالية، مشيرا إلى أن «الاتفاقية وقعت في الأساس منذ 2008 وما قمنا به هو العمل على إعادة تفعيلها بعد تأخر تنفيذها» وأن «هذا التأخير ترتبت عليه التزامات على الطرفين والتوقيع جاء بعد مفاوضات ماراثونية».
وأوضح الدبيبة أن البلاد «في أمس الحاجة لإعادة تفعيل مشروعات الغاز وتطويرها بشكل عاجل لأن التأخر سيسبب نقصا في القدرة على إنتاج الغاز» وأكد أن «التأخر في تنفيذ هذا المشروع (اتفاق الغاز الجديد) يعني أن ليبيا ستتحول في 2027 من دولة مصدرة للغاز إلى مستوردة له».
يشار إلى أن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني قد حضرت مراسم توقيع الاتفاق، ووصفت الصفقة بأنها «كبيرة وتاريخية» وقالت إنها ستساعد أوروبا في تأمين مصادر الطاقة.
وقبل التوقيع بيوم أبدت حكومة باشاغا استغرابها من اعتزام رئيسة الوزراء الإيطالية زيارة الحكومة «منتهية الولاية» حسب قولها، بل وحضورها توقيع اتفاق نفطي جديد، مشددة على رفضها لمحاولة إحياء حكومة الدبيبة «الميتة» بواسطة إقحام قوت الليبيين في الصفقات.
وأبدت الحكومة، في بيان، استهجانها لما وصفته بـ «السلوك الانتهازي» للحكومة الإيطالية الذي يتجاوز المصالح الليبية العليا، ويغامر بالعلاقة الطيبة بين البلدين، لاسيما بعد رفض وزراء الخارجية العرب إعادة شرعنة حكومة الدبيبة، ومقاطعتهم للاجتماع الأخير بطرابلس.
البيان أكد عدم أهلية حكومة الدبيبة لتوقيع أي اتفاقيات أو مذكرات تفاهم، مشيرا إلى أن الحكومة الليبية لن تلتزم بأي تفاهمات مشبوهة في غرضها ومآلاتها، وأنها في منأى عن كل الآثار القانونية والمادية التي تأتي بها مثل هذه الاتفاقيات.
وأفاد البيان أن الحكومة الليبية ستلجأ إلى القضاء الوطني الذي تمكن في أكثر من مناسبة من إبطال اتفاقيات غير مشروعة «تفوح منها رائحة الانتهازية السياسية البشعة».
هذا الخلاف بدأ منذ أكثر من شهر بعد أن راسل وزير النفط والغاز بحكومة الدبيبة محمد عون رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة بشأن مذكرة المؤسسة الوطنية للنفط حول المناقشة التي تمت مع شركة إيني الإيطالية بخصوص مطالبتها بتعديل بعض بنود إتفاقية الإبسا 4 للقطعة البحرية NC41 وحقل الوفاء البري، بما يتضمن زيادة نسبة ربحيتها بدون أي أسباب. حيث أكد وزير النفط أن اتفاقية ليبيا مع إيني معتمدة بقرار من مجلس الوزراء ولا يجب المساس بها أو الدخول في مفاوضات بشأن تعديلها إلا بعد أخذ الإذن بقرار من المجلس، مؤكدا عدم وجود حاجة أبدا إعادة التفاوض على شروطها.
بدوره رفض رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب فتحي باشاغا، تغيير نسبة المشاركة بين المؤسسة الوطنية للنفط وشركة إيني الإيطالية في شركة مليتة للنفط والغاز التي تديرها المؤسسة محذرا من استغلال مجلس الطاقة الذي تأسس بموجب قرار من رئيس حكومة الوحدة الوطنية الموقتة عبدالحميد الدبيبة في صفقات مشبوهة.
وسبق وأن رفض باشاغا توقيع الدبيبة لاتفاقية حول التنقيب على النفط والغاز مع تركيا، إلا أن الدبيبة لم يعر رفض الأخير أي اهتمام واستمر في عقد تفاهمات واتفاقيات ليضمن من خلالها الحصول على رصيد أكبر من الدعم لحكومته.

عائدات النفط

ولم يكد يصل الصراع على الاتفاقيات مع الدول إلى ذروته حتى ظهر صراع اقتصادي آخر بين الحكومتين المتنازعتين على السلطة في ليبيا بشأن إيرادات قطاع النفط، وطريقة إنفاقه حيث يرى باشاغا أن الدبيبة يعمل على تبديد ايرادات النفط لخدمة برامجه وأهدافه الدعائية.
وأعلنت وزارة التخطيط والمالية بحكومة باشاغا المعينة من مجلس النواب، إنها اتخذت خطوات للحجز الإداري على إيرادات النفط، المودَعة في حسابات المؤسسة الوطنية للنفط، والمصرف المركزي لدى المصرف المركزي الخارجي، والمؤسسة العربية المصرفية.
وأوضحت وزارة التخطيط أن هذه الإيرادات تتجاوز 130 مليار دينار ليبي (نحو 27 مليار دولار) مشيرة إلى أنها استندت للقانون رقم 152 لسنة 1970 المتعلق بالحجز الإداري.
ومنذ أن حصلت حكومة باشاغا على الثقة في آذار/مارس العام الماضي من البرلمان الليبي، لم تتوقف عن اتهام غريمتها في طرابلس بهدر أموال الشعب، على أهداف وبرامج دعائية، ودعم التشكيلات المسلَّحة لكن الأخيرة تقول إن ميزانيتها تخضع للرقابة من ديوان المحاسبة، كما أنها تنفق بالتساوي على جميع المناطق والمؤسسات الليبية.
ويرى عدد من المتتبعين والمراقبين إن إخفاق باشاغا في دخول العاصمة طرابلس بقوة السلاح منذ أن عاد أدراجه من حيث أتى ليستقر في سرت بعد طرده من طرف المجموعات المسلحة المؤيدة للدبيبة، جعله يغير تكتيكات محاولة التغلغل إلى مفاصل الدولة بمحاولة الضغط عليه عن طريق قطع إيرادات النفط.

حشد الدعم

ويحاول كل من باشاغا والدبيبة حشد الدعم الشعبي من خلال الأموال والمشاريع رغم عدم استطاعة باشاغا تمويل ميزانيته إلا من خلال الاقتراض الذي سيضيف دينا عاما جديدا على كاهل الدولة مع عجزها عن سداد الدين العام القديم الذي قدر مؤخرا بـ 155 مليار دينار.
ورغم ذلك كثف باشاغا زياراته الميدانية مطلقا وعودا لبلديات في شرق وجنوب وغرب البلاد تتمحور حول تزويدها بالمشاريع ومعالجة مشاكل التنمية، حيث أكد لحكماء وأعيان وأعضاء المجلس البلدي الكفرة أنه يتطلع لجعلها منطقة حرة، معتبرا أن صيانة الطرق في الجنوب مكلفة جدا وأنه جرى إهمالها بسبب الانقسام والمركزية القاتلة.
وقال باشاغا «خصصنا مليارا و700 مليون للبلديات لكن لم يجر صرفها» كما أعلن أيضا إقامة مشاريع أخرى ببلدية سرت على غرار إقامة سوق المنتجات البحرية وصيانة قسم الأطفال بمستشفى ابن سينا، فيما كشف عن تخصيص 200 مليون دينار لمعالجة المختنقات المستعجلة ببلديات الغرب الليبي. وأعلن باشاغا أنه تحصل على مليار و500 ألف دينار فقط يوم الإثنين الماضي وأن الحكومة قررت توزيعها على الليبيين في الشرق والغرب والجنوب، ولذلك جرى تشكيل ثلاث لجان طوارئ وتقسيم ما تبقى على القطاعات التي تمس المواطن.
واتجه باشاغا إلى استخدام سياسة الدبيبة حيث أصدر قرارا يقضي بإصدار اعتمادات شهرية موقتة (1/ 12) من ميزانية العام الماضي إلى حين اعتماد مجلس النواب لميزانية العام 2023 التي قدمها إلى رئيس المجلس عقيلة صالح بقيمة تتجاوز 57 مليار دينار أواخر العام 2022.
أما عن حكومة الدبيبة فقد طالتها اتهامات خطيرة بعد أن أعلن مصرف ليبيا المركزي في تقرير الإيراد والإنفاق للعام 2022 عن وصول الانفاق إلى رقم لم تعهده ليبيا في وقت سابق حيث سجل إيرادات عامة بقيمة 134.4 مليار دينار خلال العام الماضي، بينما بلغ الإنفاق العام 127.9 مليار دينار.
ويخص هذا الرقم الفترة الممتدة من الأول من كانون الثاني/يناير إلى 31 كانون الأول/ديسمبر العام 2022 إذ توزعت الإيرادات بواقع 105.5 مليار دينار مبيعات النفط، وإيراد الإتاوات النفطية 13.6 مليار دينار، وإيرادات من إتاوات نفطية عن سنوات سابقة 11.4 مليار دينار، والضرائب 1.4 مليار دينار.
أما بالنسبة للنفقات، فقد أظهرت بيانات المصرف أن الإنفاق على الرواتب (الباب الأول) بلغ 47.1 مليار دينار، والنفقات التسييرية (الباب الثاني) سجلت تسعة مليارات دينار. كما خص ما قيمته 17.5 مليار دينار للتنمية (الباب الثالث) وللدعم (الباب الرابع) 20 مليار دينار، و34.3 مليار دينار ميزانية استثنائية للمؤسسة الوطنية للنفط، ولم تخصص مبالغ للباب الخامس (الطوارئ).
وعقب أن رفض البرلمان الليبي لمرات عديدة اعتماد ميزانية لحكومة الوحدة الوطنية ومن ثم سحبه للثقة منها وتعيينه لحكومة جديدة، اعتمدت الحكومة في الصرف على قانون بديل وهو قانون 1/12 والذي يتيح للحكومة الصرف في حال تعثر اعتماد الميزانية. إلا ان هذا القانون لم يكن مفتوحا، بل كان قانونا مؤطرا ويحمل تفاصيل وشروطا عدة لم تنفذها حكومة الدبيبة الأمر الذي تركها عرضة للتهم بالخروج عن القانون والفساد، التهم التي لم ترد عليها حكومة الدبيبة بل استمرت في تنفيذ خططها.
وتنص المادة 178 من الدستور الليبي والخاصة بفتح الاعتمادات الشهرية المؤقتة إنه «في حال عدم إقرار الموازنة قبل بداية السنة المالية يجوز لرئيس الوزراء الصرف على أساس واحد من أثنى عشر (12/1) من موازنة السنة السابقة بموجب مرسوم رئاسي فيما يتعلق بالمرتبات وما في حكمها والمصروفات العمومية، وذلك وفق ما يحدده القانون المالي للدولة». ويعني قانون 12/1 «الصرف في مقدار قسمة مخصص القطاع في آخر ميزانية معتمدة على 12» ويشترط في هذا القانون أن تصرف الحكومة باستخدامه فقط في البابين الأول والثاني أي المرتبات والمصروفات التسييرية وهو ما لم تفعله حكومة الدبيبة.
ويحاول الدبيبة أيضا أن يكثف نشاطاته الميدانية موزعا صكوكا من المشاريع على البلديات التي يزورها لمواصلة بسط نفوذه في مناطق سيطرة باشاغا؛ فقد بحثت حكومته قبل أيام سبل تعويض أصحاب المنازل المتضررة في خمس مناطق بأنحاء ليبيا هي سرت وبن جواد وخليج السدرة وهراوة وتاورغاء.
كما أقام الدبيبة مشاريع عدة في طرابلس ومصراتة وغيرها ووزع منحا للزوجة وللأبناء وللأسر وللشباب للزواج وقروضا سكنية وأراض سعيا للمحافظة على شعبيته وتخوفا من خطوة متوقعة قد يقوم بها البرلمان ومجلس الدولة بحكومة ثالثة.
وللأسف حتى يومنا هذا ما زال صراع سياسي خطير يدور على الإيرادات النفطية بين باشاغا والدبيبة بهدف الإنفاق الذي يتوسع ويهدد بدخول البلاد في متاهات من الديون الداخلية إن استمرت سياسة الصرف المتوسع لمدة طويلة، كما يتخوف كثيرون من تبني خفض قيمة الدينار مرة أخرى في ظل مواصلة الاعتماد الحكومي بشكل كلي على مبيعات النقد الأجنبي في تمويل نفقاتها وسط غياب مصادر تمويل بديلة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية