غدامس الليبية مفترق طرق حضارات العالم ولؤلؤة الصحراء المهددة بالزوال

نسرين سليمان
حجم الخط
0

طرابلس ـ «القدس العربي»: مدينة ليبية خلابة الجمال وعريقة التاريخ، صنفت كثالث أقدم مدينة لا تزال مأهولة في العالم، ووضعتها منظمة اليونسكو في قائمة التراث العالمي منذ العام 1986. قيل إنها بنيت في واحة وسميت لؤلؤة الصحراء وهي إحدى أقدم المدن التي قامت في حقبة ما قبل الصحراء وخير مثال على التاريخ العريق لليبيا.

غدامس تلك المدينة التاريخية الضاربة بجذورها في عمق التاريخ، والتي أسالت منذ الألفية الرابعة قبل الميلاد لعاب المستوطنين بشتى عروقهم وأطيافهم الحضارية، فكانت مفترق طرق ثقافات العالم، ومركزا تجاريا لشتى القوافل من كل حدب وصوب، حتى حوّلت صحراء المتوسط إلى قِبلة جاذبة لا تقاوم.

تاريخها

عرفت غدامس بأنها أقدم المدن الليبية، بل من أوائل المدن في العالم الآهلة بالسكان، حيث أن أقرب التواريخ المدونة عنها تعود إلى آلاف السنوات قبل الميلاد.
يعود تاريخ المدينة المدون إلى العصر الروماني، حيث وجدت نقوش حجرية تدل على وجود حياة في هذه المنطقة منذ 10 آلاف سنة، وقد احتلها القرطاجيون عام 795 ق.م، ثم الرومان عام 19ق.م، وافتتحها العرب بقيادة عقبة بن نافع عام 42 هـجريا.
تمكن القرطاجيون من السيطرة على المدينة عام 795 قبل الميلاد، تلاهم الرومان عام 19 قبل الميلاد، حتى فتحها العرب عن طريق عقبة بن نافع عام 42هـ/ 581م، حيث شهدت حضارات متميزة، كان لها الدور في إثرائها وتمايزها الثقافي والأممي. فيما احتلها الإيطاليون عام 1924 وأخضعوها لسلطتهم حتى خروجهم منها ودخول القوات الفرنسية إليها عام 1940 وظل الفرنسيون فيها حتى 1955.
وتعرضت المدينة لغارة فرنسية عام 1943 إبان الحرب العالمية الثانية، ما أدى لسقوط عشرات المدنيين، وتهدمت الكثير من البيوت والمعالم الهامة، وظلت تحت الاحتلال الفرنسي من سنة 1943 إلى سنة 1955.
ونتيجة لهذا الثراء تحولت المدينة التي اشتهرت بعدة مسميات، أشهرها عروس الصحراء، ولؤلؤة الصحراء، وزنبقة الصحراء، وبوابة الصحراء، وبلاد الجلد والنحاس والتبر واللبان والعاج وريش النعام؛ إلى قِبلة الرحّالة الأوروبيين والأفارقة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، كما كانت حلقة الوصل الثقافي والفكري والتجاري بين أوروبا وأفريقيا.
وترتبط غدامس بالعاصمة طرابلس بطريق بري يمتد لمسافة 600 كم، ويمر تحت جبل نفوسة، وهي السلسلة الجبلية الممتدة من مدينة الخمس إلى نالوت، ويوجد بالقرب من المدينة مهبط للطائرات، تربطها رحلات دورية مع طرابلس وسبها وهي تبعد عن الحدود الجزائرية غربا 15 كيلومترا، فيما تبعد عن الحدود التونسية شمالا 9 كيلومترات فقط.
ولعبت المدينة قديما دورا تجاريا مهما نظرا لموقعها الإستراتيجي حيث كانت تمثل محطة رئيسية على طريق القوافل التجارية المارة جنوب الصحراء الكبرى والتي كانت تنزل فيها للراحة والتزود بالماء والمؤونة ولقد عرفت ازدهارا اقتصاديا وتوسعا عمرانيا كبيرا، كما تضاعف عدد سكانها.

المواقع الأثرية نقطة جذب سياحي

يقال إن اسمها أصله في الروايات الشفوية بلغة تماشق «أهغيد آمنيس» وهو مركب من كلمتين: أهغيد معناه بالعربية: خذ بالقوة أي اغتصب، أو أسلب، أو أنهب، وآمنيس معناه بالعربية الجمل. ومن ثم فإنّ المصادر التاريخية تؤكّد بأنّ سكان غدامس بربر ـ أمازغن ـ اختلطوا بالعرب والأفارقة، ولهجتهم تشبه إلى حدّ بعيد اللهجات التي يتكلّمها سكان بقية الواحات كسوكنة واوجلة وسيوه، كما تشبه الطارقية ـ تماشق ـ ولهجة سكان الأطلسي والجبال على طول الشاطئ الأفريقي من البحر المتوسّط، وكل غدامسي تقريبا يفهم إلى جانب الغدامسية ـ تماشق ـ إحدى لغات وسط أفريقيا، وتنتشر على وجه الخصوص الهوسا وصنغاي كما يفهم معظمهم الطارقية ـ تماشق.
فيما يعيد بعض الباحثين اسم غدامس إلى قداموس أي بلد الجلود باللغة الرومانية أو اغداميس أي مناخ الأبل كما يسميها الطوارق، غير أن الذاكرة الشعبية تحاول أن تفسر الاسم بطريقتها، حيث يقال إن قافلة كانت تمضي في سيرها فنزل المسافرون في بقعة بها ماء ونخيل ليستريحوا ولما واصلوا المسير، تفقدوا بعض أمتعتهم فأنتبه أحدهم وأخبرهم قائلا بأنها في مكان غداء أمس، ومنذ ذلك الوقت عرفت باسم غداء أمس حتى صارت غدامس.
وهي واحة نخيل، وقد عرفت تاريخيا بـ«مدينة القوافل» لمحطتها الرئيسية على خط التجارة بين شمال وجنوب الصحراء الكبرى، ولها علاقة تاريخية مزدهرة في التجارة مع قبائل التمبكتو في مالي، وتعرف أيضا بأنها واحدة من أشهر المدن الأفريقية الشمالية.
وينقسم سكان غدامس إلى عرب وطوارق وأفارقة مثّلوا نموذجا للتعايش السلمي فيما بينهم قبل أن يتم تسجيل حوادث مؤلمة بعد الإطاحة بنظام العقيد الراحل معمر القذافي في العام 2011. وتتكون المدينة من 7 أحياء، كما تنقسم إلى شوارع لكل منها تسميته ومن أهمها شارع تصكو ودرار ومازيغ وأولاد بالليل.
أما عن سكانها الأصليين فهم من الأمازيغ والطوارق، والأمازيغ يتفرعون إلى قبيلتين أمازيغيتين هما؛ بني وازيت، وبنو وليد، أمّا الطوارق فقد سكن أجدادهم المدينة مُنذ القدم، ويُعتقد أنّهم السكان الأوائل لغدامس وما حولها أيضا. أمّا عن الاقتصاد فُتشكل السياحة الدعامة الرئيسيّة لاقتصاد المدينة، حيثُ تُعتبر المواقع الأثرية القديمة نقطة جذبٍ سياحي، إلى جانب وجود بعض الصناعات التقليدية؛ كصناعة السعف، والمشغولات اليدوية.
ويبلغ عدد سكانها الآن حوالي 10 آلاف نسمة معظمهم من الأمازيغ، يعيشون في بيوت من الطين وخشب النخيل ملتصقة فيما بينها مثل خلايا النحل.

آثارها وبيوتها

بيوت غدامس وتلاصقها وترابطها مع الأزقة المسقوفة هي علامتها الفارقة، حيث أن الهندسة المعمارية المميزة التي بُنيت بها البيوت وارتباط ذلك بطريقة غريبة مع الأزقة والشوارع جعلتها تبدو للزائر وكأنها ممرات وأروقة.
ولهذه البيوت معمار خاص، حيث تبنى بشكل عمودي طبق هندسة القصور الأمازيغية القديمة، إذ يستخدم الطابق الأرضي لتخزين المواد الأساسية، والطابق الأول لسكن العائلة ويخصص السطح المفتوح للنساء، وتسمح الممرات التي تربط أسطح البيوت ببعضها بتنقل النساء بكل حرية وتحجبها عن أنظار الرجال. كما تحوي المدينة على شبكة من الممرات تحت الأرض تسمح بتنقل الأهالي.
عند خروجك من أحد هذه الممرات قد تشعر أنك ما زلت في داخل أحد البيوت؛ إذ أن مساحات كبيرة من هذه الأزقة والشوارع مسقوفة، ما يجعلها ممرات ينساب منها الهواء العليل الذي يُلطف من درجة الحرارة للمارة، ويأخذ السائر بها إلى أجواء ساحرة من تناغم لوني بين ضوء الشمس المنساب والمتسرب من الأجزاء المكشوفة، وبين الهدوء الساكن المختبئ في الظلال تحت الأجزاء المسقوفة، ما يُبدع سيمفونية ضوئية ترحل عبرها أخيلة الناظر إلى عمق التاريخ لتلتقي روح من سكنوها عبر السنين وأعطوها عبقها الساحر.
ولعل من أهم الشواهد الأثرية التي توجد اليوم بهذه المدينة نجد تمسمودين، وهي عبارة عن بقايا معابد رومانية قديمة وتوجد بقربها بعض القصور والحصون المهجورة ومنها خاصة قصر الغول في الجهة الشمالية وقصر بن عمير وقصر مقدول إضافة إلى القلعة العثمانية التي خصص جزء منها في السنوات الأخيرة لإقامة متحف غدامس، وكما تمثل عين الفرس ذات الشهرة التاريخية القديمة وبحيرة مجزم ومنطقة الرملة أحد أهم المعالم السياحية في المدينة.
وتعد عين الفرس من أهم معالمها التاريخية على الإطلاق، وهي تمثل النواة الأولى في نشأة المدينة، وكانت تمثل الينبوع الوحيد الذي جعل هذه المدينة تنشأ وتستمر في الحياة. ولقد أولى سكانها اهتماما كبيرا بها حيث أقاموا لها نظاما دقيقا من أجل التحكم في مياهها وتوزيعها، وتمكن الأهالي من استغلال ماء تلك العين من خلال مد شبكة محكمة من السواقي والقنوات، وتوزع استعمال مياهها بين الاستخدام اليومي في المنازل وري غابات النخيل وبساتين العنب.

قصر مقدول

ويوجد قصر مقدول في الجهة الغربية من سور المدينة وهو أثر روماني قديم وشكله دائري وله عدة أبواب منها باب خفي، كما توجد العديد من الحصون القديمة لتأمينها من الهجمات الخارجية، وتنتشر فيها كذلك الكهوف القديمة المنحوتة تحت الأرض.
حاليا تضم المدينة ثلاث مناطق، السور القديم والجامع، وغابة العتيقة، والمدينة الحديثة حيث المباني المستحدثة وفي وسط المدينة عين الفرس يوجد بعض الكهوف التي كانت سجونا للملكة الأمازيغية.
وقام العديد من الجغرافيين والرحالة العرب بزيارة هذه المدينة وتحدثوا عنها في مؤلفاتهم وكتبهم، وكانت تشتهر قديما بالجلد الغدامسي.
ففي القرن السادس للهجرة وصفها صاحب كتاب «الاستبصار في غرائب الأمصار» بقوله: «غدامس مدينة لطيفة قديمة أزلية، وإليها ينسب الجلد الغدامسي. وبها دوامس وكهوف كانت سجونا للملكة الكاهنة التي كانت بأفريقية، وهذه الكهوف من بناء الأولين، فيها غرائب من البناء والكيانات المعقودة تحت الأرض في ما يحار فيها الناظر إليها إذا تأملها، تنبئ أنها ملوك سالفة وأمم دارسة، والكمأة تعظم بتلك البلاد حتى تتخذ فيها اليرابيع والأرانب أجحارا ووصفها ابن خلدون في مقدمته بأن «قصورها ذات سحر وفن وهي محطة للقوافل وباب الدخول للسودان» واعتبرها ابن الحميري التونسي في كتابه «الروض المعطار في إخبار الأقطار»: «مدينة أزلية.. وفيها غرائب البناء.. وآثار ملوك سالفة.. لم تكن صحراء وإنها حصينة عامرة».
وقال عنها ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان» إن «عليها أثر بنيان عجيب» اشتهرت بتسمياتها المتعددة، مشيرا إلى أن في وسطها عينا أزلية وعليها أثر بنيان عجيب، يفيض الماء فيها، ويقسمه أهل البلدة بأقساط معلومة لا يقدر أحد يأخذ أكثر من حقه وعليها يزرعون، ويقصد ياقوت بذلك عين الفرس.
وكانت المدينة قبلة للرحالة الأوروبيين في نهاية القرن التاسع عشر، حيث زارها ألكسندر جوردن لينغ، وهو أول أوروبي يصلها عام 1825 ثم تعاقب وصول الرحالة في طريقهم إلى أفريقيا، منهم الرحالة الألماني الشهير غيرهارد رولفس والبريطاني جيمس ريتشاردسون.
إن غدامس القديمة تعد من الأمثلة المعمارية الصحراوية القليلة التي توجد في ليبيا والتي تعتبر نموذجا للمدينة الإسلامية التقليدية التي قاومت تقلبات الزمن واستطاعت أن تحافظ على طابعها المعماري الأصيل المستمد من التراث العربي والإسلامي، وهي محاطة بأكملها بسور كبير تتخلله العديد من البوابات، وهي اليوم مدينة صغيرة تقع بالقرب من بستان نخيل كبير، وأبرز ما يميزها هي مجموعة المباني الأثرية القديمة التي ظلت شاهدة على التاريخ العريق لهذه المدينة.
وقد خاضت غدامس العديد من المعارك عبر العصور منها؛ معركة رأس الغول التي كانت بين جيوش الفتح الإسلامي، وبعض الذين ارتدوا عن الإسلام سنة 44 هجرية.
والموقعة الأهم كانت ضد رمضان باي الذي حاول الاستيلاء عليها قبل أربعمئة سنة، حيث فرض حصارا خانقا على المدينة، وواجهه الأهالي وانتصروا عليه في الموقعة المعروفة بـ«غزوة رمضان باي» والتي كانت بتاريخ 27 رمضان 1018 هـ/ 1609م، وقطعت خلالها نحو 500 نخلة.

تهديد محتمل

وفي عام 2018 أصدرت لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونسكو قائمة في المواقع التراثية الليبية المعرضة للخطر بسبب النزاعات، وكانت غدامس إحدى أبرز الأماكن التاريخية المهددة.
وبالرغم من احتوائها على معالم أثرية نادرة إلا أن ذلك لم يحل دون تعرضها لخطر الانهيار والدمار سواء بسبب الحرب الليبية وما شهدته من انفلات أمني ونزاعات عسكرية دامية أو بسبب العوامل المناخية مثل السيول وغيرها. فقد تعرض سكانها من الطوارق لإبادة وتهجير قسري في سنة2011 مع انطلاق الثورة وترافق ذلك مع انتشار للمسلحين والميليشيات في أرجاء المدينة.
كما أن عوامل الطبيعة وانعدام الرعاية والصيانة، جعلها غير قادرة على الصمود في وجه الأمطار التي تسببت في انهيار أجزاء من المباني التاريخية القديمة فيها.
وفي عام 2021 تم تشكيل فريق مكون من موظفي إدارة مدينة غدامس القديمة ومهندسي جهاز تنمية وتطوير المدينة وباحثين في الآثار استكمالا للتدابير المطلوبة لشطب موقع المدينة من لائحة الخطر لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو».
ويطالب أهالي المدينة بتأمين ميزانية من قبل الدولة للمحافظة على طابعها، إضافة إلى مساعدة دولية في هذا الإطار.
ويأملون أن تثمر المبادرات إلى صيانة وترميم المباني الأثرية المتضررة وذلك لإخراجها من قائمة المدن المهددة بالزوال.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية