ليبيا: بعض النخب «الأنانية» تحترف إجهاض مبادرات الحل السياسي

رشيد خشانة
حجم الخط
0

وجود باثيلي كان عنصر طمأنة لقطاعات واسعة من الليبيين، الذين كانوا يشعرون أن البعثة الأممية، ما زالت ماضية في محاولات التقريب بين الإخوة الأعداء، وإن تأخرت النتيجة.

استقالة الموفد الثامن للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا عبد الله باثيلي خبرٌ سيء لكل من علقوا آمالا على وساطته لحلحلة الأزمة المستفحلة في البلد منذ 2011 لأن البديل هو الفراغ والمجهول والحرب. وليس من المبالغة القول إن وجود باثيلي كان عنصر طمأنة لقطاعات واسعة من الليبيين، الذين كانوا لا يتعمقون ربما في التفاصيل، لكنهم يشعرون أن البعثة الأممية، ما زالت ماضية في محاولات التقريب بين الإخوة الأعداء، وإن تأخرت النتيجة. بهذا المعنى ليس من الدقيق القول إن المبعوث الأممي الخاص فشل في مهمته بعد أكثر من سنتين، بل الأصح القول إنه أَفشل. ويمكن أن نلحظ هنا تشابها بين ما حصل معه وما حصل مع سلفه غسان سلامة، فباثيلي حاول جمع أطراف الصراع الخمسة حول «طاولة» واحدة، لكن بلا جدوى، لأن زعماء المنطقة الشرقية أصروا على أن يشارك في الحوار، رئيس الحكومة الموازية أسامة حماد غير المعترف بها دوليا. ولعل الضربة الكبرى التي تلقاها باثيلي تمثلت بإرجاء المؤتمر الوطني الجامع الذي كان مُزمعا عقده يوم 28 نيسان/ابريل الجاري في مدينة سرت (شمال الوسط) والذي بنت عليه الأمم المتحدة أملا كبيرا لكسر الجمود السياسي. كما أن إرجاء الانتخابات العامة، التي كانت مقررة كانون الثاني/ديسمبر المقبل، شكل عنصرا من عناصر الاحباط، التي جعلت باثيلي يحزم قراره في اتجاه الاستقالة.
ويُشبه ما حصل لهذه المبادرة، المصير الذي آلت إليه دعوة الأمم المتحدة إلى مؤتمر وطني جامع، كان مُقررا عقده في مدينة غدامس (شمال غرب) يومي 10 و11 نيسان/ابريل 2019 بمشاركة ألف شخصية ليبية، على أن تصدر عنه 22 وثيقة تشمل جميع القطاعات. غير أن القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء المتقاعد خليفة حفتر، قطع الطريق على المؤتمر بزحف قواته على العاصمة طرابلس، في الرابع من الشهر نفسه، فذهبت جميع الجهود التي بذلها الموفد الأممي السابق غسان سلامة أدراج الرياح.
اليوم، تعود الأزمة الليبية إلى المربع الأول. والمربع الأول ليس خلافا على شكل «الطاولة الخماسية» ولا تنازعا على إشراك هذه الشخصية أو تلك في أعمالها، بقدر ما هو خلاف جوهري حول تقاسم السلطة وتوزيع الثروة. ومن الطبيعي أنه كلما زادت عوائد البلد من صادرات النفط والغاز، زادت معها حدة الصراع، الذي يمكن أن يتحول إلى صراع مسلح، في أي وقت. في هذه الأجواء شكل أخيرا رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة لجنة للتفاوض مع شريكي ليبيا الرئيسين وهما مجموعة «توتال إينرجي» الفرنسية و«كونوكو فيليبس» الأمريكية، بُغية تعديل اتفاقية الامتياز والمشاركة في حقول شركة الواحة النفطية، وهي أكبر الحقول الليبية، بالرغم من اعتراض كل من النائب العام وديوان المحاسبة على تشكيل اللجنة. كما أتى قرار التفاوض بعد أسبوعين فقط من عزل وزير النفط محمد عون. وهذه شبهة فساد واضحة، خصوصا أن المطالبة بتعديل الاتفاقية تم باقتراح من رئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة، وقد أجاب عليه الدبيبة فورا بالموافقة، من دون استشارة أهل الذكر، أو إشراك الكوادر الليبية العليا في العملية، وهذه شبهة فساد أيضا.
وتطالب المجموعتان الأمريكية والفرنسية بزيادة هامش الربح من 6.5 إلى 13 في المئة، وهو ما يرفع حصتهما من الانتاج إلى أكثر من 40 في المئة. يُضاف إلى ذلك تمديد صلاحية العقود المبرمة مع «مؤسسة النفط» إلى العام 2046 أي أن الارتفاع الدوري لأسعار النفط العالمية، على مدى 22 سنة القادمة لن يُؤخذ في الاعتبار، وهو إهدار لمصالح ليبيا وحقوقها في ثرواتها. أبعد من ذلك، انتقى الدبيبة أعضاء لجنة التفاوض مع الشركتين الأجنبيتين، بغاية الدقة، كي يكونوا من الموالين له. وفي السياق كشف ديوان المحاسبة في تقريره السنوي بعض الوقائع، من بينها موافقة الدبيبة، على شراء سيارات للوزراء ووكلاء الوزارات وديوان رئاسة الوزراء بـ40.5 مليون دينار (16 مليون دولار) خلال العام 2022.
في مناخ متعفن كهذا من الطبيعي أن تأتي ليبيا في الرتبة الأولى أفريقيا في مؤشر الفساد وسوء الإدارة، ضمن التصنيف الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية. فهل باثيلي مسؤولٌ عن هذا الاخفاق الحكومي، مثلما تُردد بعض الأوساط؟ وقد أكد موقع «بيزنس إنسايدر أفريكا» الأمريكي، أن الفساد المُستشري في دواليب الدولة، تسبب في إعاقة التقدم الاقتصادي للبلد. ورصد الموقع أيضا، بالإضافة إلى الفساد، غياب الشفافية وتزايد انتهاكات حقوق الإنسان، المترتبة عن سوء الإدارة. كما لا ينبغي نسيان الأزمات الأخرى، التي تفجرت في السنتين اللتين أمضاهما باثيلي على رأس البعثة الأممية، ومنها أزمة إبعاد مصطفى صنع الله من رئاسة «المؤسسة الوطنية للنفط» ليحل محله فرحات بن قدارة المقرب من خليفة حفتر.

مسافة متساوية

كان باثيلي بعيدا عن هذه الأزمات والتجاذبات الليبية الليبية، محافظا على مسافة متساوية من مختلف الفرقاء، وهذا ما منحه مصداقية لدى الليبيين. على أن المبعوث الخاص لم يقصر إحاطته لمجلس الأمن الثلاثاء الماضي، على الأبعاد السياسية للمهمة التي أوكلها إليه المجلس، بل تطرق أيضا إلى جوانب أخرى، من بينها تزايد حالات الخطف، وهي ظاهرة خطرة تدعو إلى الريبة في أهداف الخاطفين، الذين يُرجح أنهم يعملون لفائدة لوبيات ومجموعات شبه عسكرية لا تريد أن تُميط اللثام عن وجهها، وتساهم في زعزعة الوضع الأمني وهز الاستقرار الاجتماعي.
من الزاوية الاستراتيجية يُرسل انسحاب رئيس البعثة الأممية من ليبيا، ضوءا أحمر يُشير إلى التحديات الكبرى التي تضع ليبيا في عين العاصفة الإقليمية، وسط تنافس أمريكي روسي شديد، وبوجوه مكشوفة. في هذا الإطار يمكن فهم التحركات الروسية في شرق ليبيا، هذه الأيام، حيث وصلت أخيرا إلى مدينة طبرق (شمال شرق) شحنات معدات وأسلحة، تحسُبا لنشر عناصر «الفيلق الأفريقي» حسب ما أوردت صحيفة «لوبوان» الفرنسية. ولاحظ خبراء أن تلك المعدات والأسلحة، هي ذات المعدات التي أُرسلت إلى النيجر وبوركينا فاسو. وقد وصلت على متن سفينتين أرستا في ميناء طبرق، آتيتين من قاعدة طرطوس البحرية الروسية في سوريا. وكشفت وكالة «بلومبيرغ» الأمريكية النقاب عن تشكيل المجموعة القتالية الجديدة، تحت اسم «الفيلق الأفريقي» والتي قوامها 20 ألف جندي، وهي تتلقى التعليمات مباشرة من وزارة الدفاع في موسكو، لتنفيذ عمليات في خمس دول أفريقية.
وبحلول منتصف العام الجاري، سينطلق «الفيلق الأفريقي» إلى العمل، في بوركينا فاسو وليبيا ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى والنيجر، وهو وريث شركة «فاغنر» العسكرية الروسية، لكنه سيتلقى التعليمات مباشرة من وزارة الدفاع في موسكو. ووفقا لوكالة «بلومبيرغ» أيضا سيتخذ الفيلق الروسي من جمهورية أفريقيا الوسطى مقرا إقليميا جديدا له، كاشفة عن تخطيط موسكو لتجنيد مقاتلين سابقين في «فاغنر» ومجندين جُدُدا لضمهم إلى الفيلق. وهذا يعني أن ليبيا هي واحدة من الساحات الأفريقية الخمس المستهدفة من التمدُد الروسي، بينما نلحظ في الجهة المقابلة، ترتيبات أمريكية لإدخال خبراء ومستشارين ومدربين عسكريين إلى المنطقة الغربية، بعنوان تأهيل عناصر المجموعات شبه العسكرية، الساهرة على حماية أعضاء حكومة الوحدة الوطنية. من هنا ستكون ليبيا، بحكم الجغرافيا ومخزون الثروات الطبيعية الغزير والمتنوع، ساحة للصراع الدولي، مثلما توقع باثيلي في إحاطته، في ظل غياب دولة موحدة، تتحكم في كافة مناطق البلد، وتحتكر السلاح، وتوزع إيرادات النفط توزيعا عادلا على جميع المناطق والفئات الاجتماعية.

اشتراطات الزعماء

بعد ستة مبعوثين أمميين إلى ليبيا، وثامنهم باثيلي، لا يمكن لبعض النخب التي تتحدث عن فشل البعثة تحميل أولئك المبعوثين مسؤولية إخفاق الحل السياسي، لأن الزعماء هم الذين يُقدمون اشتراطات للموافقة على الجلوس إلى مائدة الحوار. وهؤلاء المُقاطعون يتغيرون من ظرف إلى آخر، لكنهم ينجحون في إجهاض أي مشروع للحوار الشامل والمصالحة، لأنه يُهدد مصالحهم. واستطرادا فهم يسعون لاستمرار الأمر الواقع. على هذه الخلفية تُقرأُ زيارة اللواء حفتر، بوصفه الحاكم العسكري للمنطقة الشرقية، إلى موسكو، حيث استقبله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، للمرة الأولى منذ العام 2019 وخاضا معا في الأوضاع الليبية والإقليمية، حسب ما أفادت وسائل إعلام روسية، من دون إعطاء تفاصيل. لكن من الواضح أن الملف الذي كان يُديره زعيم «فاغنر» الراحل يفغيني بريكوجين، سيتولى إدارته بوتين بنفسه، مع وزير دفاعه شويخو، وبالتنسيق مع السفير الروسي لدى ليبيا أيدار أغانين.
وفي السياق أفادت وكالات أنباء غربية، نقلًا عن مسؤول ليبي مطلع لم تسمه، أن نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف زار ليبيا، من أجل «طمأنة الحلفاء» على بقاء مقاتلي مجموعة «فاغنر» في البلاد، لكن تحت سيطرة موسكو، كما أبلغ القائد العسكري للمنطقة الشرقية حفتر، أن المجموعة ستتبع «قائدًا جديدًا».

«ذوي النيات الحسنة»

مع القتامة التي تُغلف الوضع الراهن في ليبيا، وجمود العملية السياسية إلى حين تسمية رئيس جديد للبعثة الأممية، وهي عملية معقدة وبطيئة، ترك باثيلي في إفادته الأخيرة، بعض خيوط الضوء، حين أشاد بـ«العناصر الصادقة» في المجتمع المدني، وبعض الأحزاب السياسية، والشباب والمرأة، ممن سماهم «ذوي النيات الحسنة». لكن من المؤكد أن أنطونيو غوتيريش سيفكر مليا قبل الإنطلاق في البحث عن مبعوث جديد، لأن الأوضاع الإقليمية والدولية تتغير بسرعة غير مسبوقة، وأيضا لأن من الصعب إيجاد من يُقدم على تولي هذه المهمة، في ظل الحرائق المنتشرة من غزة ولبنان إلى أوكرانيا وإيران.
ومن الأكيد أن دور نائبة رئيس البعثة الجديدة ستيفاني خوري، سيكون محدودا، إذ ليس بيدها فتح حوارات جديدة حول الملفات العالقة مع الزعماء الليبيين، بعدما وصفهم باثيلي بأنهم «يضعون مصالحهم الشخصية فوق حاجات البلاد». وبالتالي ستبقى نار الخلافات خامدة تحت الرماد، والبلد مدفوعٌ نحو المجهول، إن لم يكن إلى العنف والاحتراب من جديد، أسوة بالاشتباكات الأخيرة في طرابلس، أو تلك التي اندلعت بين قوات من مدينة زوارة وحرس المنفذ الحدودي راس جدير، الموالين لحكومة الدبيبة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية