ليبرالية الإسلام وجاهلية المنفّرين منه

عام 1992 شاركت في ندوة فكرية في بريطانيا عن العلاقات الثقافية بين العرب والأوروبيين كان من المشاركين العرب فيها محمد أركون وفؤاد زكريا ومراد وهبة وعزيز العظمة وحسين أحمد أمين. وعندما تطرق النقاش إلى صعوبة التفاهم بين مجتمعات لا يزال الدين مرجعا أساسيا فيها (بصرف النظر عن إشكالية انفصال الخطاب عن السلوك) وبين أخرى لم يعد للدين فيها أي دور، بحيث صارت تنعت بالمجتمعات ‘ما بعد الدينية’، ناشد المرحوم زكي بدوي المفكرين العرب والغربيين بأن يقلعوا عن استخدام كلمة ‘العلمانية’ نظرا لما تثيره من حساسية بالغة في المجتمعات العربية وأن يأتوا بمرادف أو معادل أكثر حيادا أو أخف حمولة، بحيث يمكن تجاوز عطالة ‘حوار الصم’ التي يفرضها إرهاب المصطلحات عندما تنزاح، بسب قصور الفهم، عن سياقاتها.
اليوم نكتشف أن كلمة ‘الليبرالية’ تثير هي أيضا من الحساسية والجدل لدى كثير من العرب بقدر ما تثير كلمة العلمانية، بل إن بعضهم لا يفرق بين المفهومين. إذ يكفي أن ترد كلمة ‘الليبرالية’ في هذه الزاوية، مثلما حدث الأسبوع الماضي، حتى يكتب بعضهم مستنكرين ما يعدونه انحيازا للعلمانية الدخيلة!
ولا شك عندي أن كثيرا منهم لا يعلمون، وإذا علموا فلا يكترثون، بأن الشيخ عبد العزيز الثعالبي قد نشر عام 1905 كتابا بالفرنسية بعنوان ‘الروح الليبرالية في القرآن’ (وقد عرب الأستاذ حمادي الساحلي الكتاب قبل سنوات بعنوان ‘روح التحرر في القرآن’). ولا شك عندي أن هؤلاء لا يعلمون أن الشيخ محمد صالح بن مراد، رغم ما يبدو من معارضته لتحرير المرأة في كتابه ‘الحداد على امرأة الحدّاد’، قد حرص على تعليم بنتيه بشيرة ونجيبة وشجع بشيرة في نشاطها الوطني، حيث تزعمت عام 1936 ‘الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي’ (أول جمعية نسائية تونسية) كما كان يحب الفن ويعزف البيانو، وأن الشيخ الطاهر بن عاشور، أبرز علماء الدين في الغرب الإسلامي في العصر الحديث، وصاحب ‘التحرير والتنوير’، قد ألف أيضا كتابا في تحقيق ديوان بشار بن برد.
ولا شك عندي أن كثيرا ممن يستنكرون الليبرالية، باسم ‘قيمنا وأصالتنا’، لا يعلمون أن راشد الغنوشي نفسه قال في ندوة في لندن عام 2006 إن بلادا يستجير بها المظلومون ويأمن فيها المسلمون ويتمتعون بجميع الحقوق، بما فيها حق ممارسة الشعائر الدينية بكل حرية، هي ‘دار من ديار الإسلام’! أي أن كون بريطانيا دولة ليبرالية هو بالضبط ما يجعلها، بصفة شبه آلية، من ديار الإسلام.
ذلك أن الحقيقة الملموسة بشكل يومي في كثير من بلاد الغرب هي أن الليبرالية أوسع من جميع الأديان. ولذلك فإنها تتسع لكل دين. حقيقة كان من المفترض أن تكون سهلة الفهم بالنسبة للمسلمين. لماذا؟ لأن الإسلام هو دين الحرية وبشراها. دين يحرر الذات الإنسانية من كل عبودية، فيؤصل بذلك للإيجابية الفردية والفاعلية التاريخية. إنه دين الأخذ بمجامع القلوب: ‘بشّروا ولا تنفّروا’. دين أبدع نبيه بيداغوجية التبشير، ولكن أتباعه في هذا الزمان سيظلون كادحين مجتهدين في التنفير ما استطاعوا إليه سبيلا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حافظ الاسد:

    أستاذ مالك: موضوع مهم جدا يستحق الكتابة عنه. صراحة, روح التسامح والمحبة التي يدعو إليها الإسلام ويحث عليها القرآن هي أبعد ما تكون عن الواقع والحياة اليومية للعرب والمسلمين. المفارقة أن ذلك يحدث في أوج تقدم الإسلام السياسي فبدلا من أن تزدهر معاني الإسلام النبيلة وتنتشر نراها تتلاشى وتستبدل بحقد وعنف طائفيين وتكفيريين وآكلي لحوم بشر. أنظر حولك, أينما وجد المسلمون وجدت الحروب والفرقة والعنف والتخلف والظلم والكراهية. لقد أصبح المرء يخجل من الإعلان عن ديانته بل سأذهب أبعد من ذلك وأقول أن الأحداث التي نعيشها اليوم تجعلني أتسائل عن تعرض الإسلام للتزوير على مر العصور. خذ النقاب مثلا, أدلة كثيرة تشير إلى عدم وجوده أيام الرسول (ص) بل هناك أمثلة كثيرة على تحرر المرأة المسلمة في تلك الفترة في حين أن جميعنا يعلم أن عرب الجاهلية قاموا بوئد بناتهم وهن أحياء خوفا من عار مفترض. يالها من صدفة كيف أتفق الإسلام نوعا ما مع عقلية الجاهلية فالمرأة شيطان لابد من إخفائه والسيطرة عليه وترويضه. ما أحوج الإسلام إلى ثورة. ثورة في المعاني والعادات والممارسات. ثورة يقودها أأمة مثقفون متحضرون معتدلون من سورية مصر العراق الأردن السودان لبنان الجزائر تونس المغرب وموريتانيا. ثورة تقف في وجه المد الوهابي التكفيري المتآمر وتتحداه وتهزمه. ثورة ترفض الطائفية وتنبذ المروجين لها. ثورة ترفض العادات البالية التي لا تمت للإسلام بصلة. ثورة تمنع تسيس المسجد وتدعو إلى المحبة والمساواة والتآخي والتعاون والتسامح والعلو بأنفسنا أخلاقيا. ثورة تدعو إلى تقبل الآخر وإستيعابه. هذه هي الثورة التي ستحمي الإسلام والمسلمين.

  2. يقول فاروق قنديل ـ النمسا:

    أم على قلوب أقفالها …… أحسنت ياسيد مالك ، مقال جميل . وياليتنا سمعنا ـ قرأنا ـ وعقلنا واتبعنا أحسن القول . وشكراً

  3. يقول [email protected]:

    The last 2 paragraphs summerize the dilemma. It’s been a long stretch and it’s not getting any better having rulers in oil rich kingdoms wasting money to support their twisted minds. They live in their palaces, in their own world. You can’t communicate with such arrogance.

  4. يقول ثائر:

    دين يحرر الذات الإنسانية من كل عبودية,
    قرأت وأعدت القرأه ولم أجد نصا صربحا يحرم العبوديه في الدين, هناك قول ابن العاص ولكن لأ منع للعبوديه فأين يجد كل هذاأخونا الكاتب, انظر نسبة عاليه من اسماؤنا عبد .

  5. يقول mahmoud:

    العبودية لله وحده—–للاخ ثائر
    الاسلام جاء لتحرير الانسان من عبودية اخيه الانسان وتحقيق العبودية لله وحده سبحانه لذلك تجد اغلب اسمائنا عبدالله عبدالرحمن —- وهذا ما وصى به النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم ” خير الاسماء ما حمد و عبد ” وشكرا.

  6. يقول عبدالقادر احمد:

    1. ورد في الفقرة الاخيرة من المقال :
    (ذلك أن الحقيقة الملموسة بشكل يومي في كثير من بلاد الغرب هي أن الليبرالية أوسع من جميع الأديان. ولذلك فإنها تتسع لكل دين. حقيقة كان من المفترض أن تكون سهلة الفهم بالنسبة للمسلمين. لماذا؟ لأن الإسلام هو دين الحرية وبشراها. دين يحرر الذات الإنسانية من كل عبودية، فيؤصل بذلك للإيجابية الفردية والفاعلية التاريخية. إنه دين الأخذ بمجامع القلوب: ‘بشّروا ولا تنفّروا’. دين أبدع نبيه بيداغوجية التبشير، ولكن أتباعه في هذا الزمان سيظلون كادحين مجتهدين في التنفير ما استطاعوا إليه سبيلا.)
    2. ان الليبرالية في بلاد الغرب مطلقة لا سقف لها ولا قيود عليها الا قيود وحدود القانون الذي وضعوه لانفسهم لتنظيم حياتهم دون الاخذ بالاعتبار مبادئ واسس الدين الذي جعلوه علاقة خاصة بين الفرد وربه ولا دور له في الحياة العامة ، القانون دينهم ، الجميع تحت سقفه سواسيه ، ولذلك ظهر الشذوذ والانحراف والتحلل من القيم والمبادئ الانسانية السامية (التي جائت بها الاديان السماوية كلها والتي كرم الله بها الانسان وميزه عن باقي المخلوقات) في مجتمعاتهم حتى صارت الدعارة وزواج المثليين وعبادة الشيطان محمية عندهم بالقانون الامر الذي يهدد حضارتهم بالزوال .
    3. نعم ان الاسلام هو دين الحرية وبشراها ، دين يحرر الذات الانسانية من كل عبودية الا عبادة الله الواحد سبحانه وتعالى الذي خلق الانسان وكرمه وانزل له من الدين ما يصلح حياته ويسعده في الدنيا والاخرة . وان الحرية المطلقة مفسدة.

إشترك في قائمتنا البريدية