لوحات القديس سيمونينو: دماء الأطفال غير المنسية

طفل صغير ذو هيئة ملائكية ووجه بريء الملامح، نراه في لوحات فنية عديدة، وكذلك في بعض النقوش الكنسية، والمجسمات والمنحوتات. هذا الطفل هو سيمونينو الترينتي – نسبة إلى مدينة ترينتو الإيطالية – الذي قُتل عندما كان في الثالثة من عمره، ثم صار قديساً يتم الاحتفال بعيده في 24 مارس/ أذار من كل عام. يعود تاريخ القتل إلى سنة 1475، ومنذ ذلك الزمن السحيق، وعلى مدى القرون المتعاقبة، وصولاً إلى القرن الحادي والعشرين، لم ينس فنانو إيطاليا دماء الطفل التي أسيلت عمداً، والجريمة البشعة التي ارتكبت في حقه، فاتخذوا منها موضوعاً فنياً، وتوالت لوحاتهم التي ظهر أحدثها عام 2020.
تتسم تفاصيل الحادثة بالغرابة الشديدة، ويحيط بها الكثير من الأقاويل، ولا تزال مثاراً للنقاش في بعض الأوساط. بدأت الحادثة باختفاء الطفل الذي تم اختطافه على يد جماعة من يهود مدينة ترينتو، ثم العثور على جثته ملقاة في أحد الأماكن، وبعد الاشتباه والتحقيق، تم القبض على مجموعة كبيرة من الأشخاص ومحاكمتهم ومعاقبتهم. تقول الرواية الإيطالية للحادثة، إن قتل الطفل سيمونينو تم من أجل الحصول على دمه، حيث كان يجري البحث عن دماء الأطفال تحت سن العاشرة، لكي يُعجن بها كعك معين يرتبط بأحد الأعياد. لذا كان يتم إحداث العديد من الجروح في جسد الطفل قبل القتل لاستنزاف دمه، أو أن القتل كان يتم أصلاً من خلال عملية الاستنزاف. أما الرواية الأخرى فتقول إن واقعة مقتل القديس سيمونينو الترينتي، تدخل في إطار فرية الدم ومعاداة السامية.

التوثيق الفني للحادثة

تتعدد اللوحات الفنية التي توثق الحادثة، وتتفاوت في قوة تعبيرها وجمالياتها، فمنها ما يكاد يكون مجرد رسم توضيحي لفعل القتل، وما حدث والكيفية التي حدث بها، وتكون هذه اللوحات بسيطة في تكوينها، لا تبرز الوجوه بشكل واضح، ولا تهتم بخلق التأثيرات التراجيدية من خلال توظيف الخطوط والألوان والإضاءة. وكذلك لا تعمل هذه اللوحات على التعبير عن مشاعر الخوف مثلاً لدى الطفل، أو مشاعر الشر والحقد لدى من يقومون بقتله. ويلاحظ أن هناك بعض الأمور المشتركة بين اللوحات عموماً، والعناصر الأساسية التي توجد فيها، كالتفاف مجموعة من الرجال والنساء حول الطفل، والإمساك ببعض الأدوات الحادة لإحداث الجروح في الجسد، والإناء أو الأواني التي تستخدم لجمع الدم النازف. كما عبر كل فنان عن قتلة الطفل، وهيئاتهم وملابسهم وفق خياله الخاص، وتركز هذه اللوحات على عملية القتل ولحظات تنفيذها، ومما نراه أيضاً في جميع اللوحات، ذلك الوشاح الأبيض، أو قطعة القماش البيضاء التي تلتف حول عنق الطفل، كأنها تخنقه أو تعتصره. وكذلك يعد الدم من الأمور الأساسية في اللوحات بطبيعة الحال، إذ يكون ظاهراً في مواضع عدة، يلطخ الأيدي أو الملابس أو جسد الطفل ذاته، بمساراته الواضحة من الجروح التي يسيل منها.

من هذه اللوحات على سبيل المثال، لوحة الفنان الإيطالي جيوسيبي ألبرتي، التي رسمها سنة 1677، وفيها يبدو الطفل سيمونينو الترينتي كأنه يحتضر أو مات بالفعل، حيث نظرات العينين الزائغتين، والفم المفتوح الذي يبدو دامياً، والجسد المهزوم المستسلم لما يحدث له من تجريح وتشريح. الطفل مصدر الضوء في اللوحة، الذي ينبع من مركزها ملقياً ظلاله على بقية أركانها، وقد جعل الفنان المجموعة المحيطة بالطفل متنوعة، فهي تضم الرجال والنساء، وتشمل الأعمار المتفاوتة من الأطفال إلى الشيوخ. في مقدمة اللوحة يبرز شخصان ينهمكان في عملية إسالة دم الطفل، بينما تمسك امرأة بقطعة القماش البيضاء وتلفها حول عنقه، وهناك من يتفرج على ما يجري ولا يشارك بأي فعل أو مساعدة، ومنهم من يبدو منشغلاً بتأملات أو ما شابه. لا تخلو الوجوه في اللوحة من بعض التعبيرات، لكنها ليست بقوة التعبيرات التي نراها في لوحة الفنان الإيطالي الشاب جيوفاني غاسبارو، التي قام برسمها سنة 2020، وتعد أحدث الأعمال الفنية التي تتناول حادثة مقتل القديس سيمونينو الترينتي.
ركز غاسبارو بقوة على الوجوه وتعبيراتها، ويلاحظ أن عدد الأشخاص الموجود في لوحته، يفوق كثيراً عدد الأشخاص الموجود في أي لوحة أخرى، وعلى الرغم من ذلك، يمكن الوقوف أمام كل وجه وتأمل تعبيراته على حدة، نظراً لاعتناء الفنان الشديد بتفاصيل كل وجه، وملامحه المميزة وهيئة الشخص بشكل عام، وملابسه وما يرتديه من أغطية الرأس، وما يتزين به من حلي. ويلاحظ أنه لا توجد سوى امرأة واحدة في اللوحة وبقية الأشخاص من الرجال، أما الطفل سيمونينو الترينتي، فهو مركز اللوحة أيضاً عند غاسبارو، يتوسط تكوينها ويمثل مصدر الضوء فيها، لكننا نرى في أعلى يمين اللوحة شمعداناً مضيئاً، تعكس نيرانه بعض الضوء الأحمر الخافت، أما الوهج الذي يسطع كالشمس، من خلال هالة النور التي تكلل رأس الطفل سيمونينو، فيضفي عليه طابع القداسة وسمات الملائكية، بالإضافة إلى الضوء المنبعث من جسده ككل.
رسم الفنان الطفل وصوره في وضع يشبه وضع الصلب، كما لو أن الجسد معلق على صليب غير مرئي، فالذراعان ممدودتان بشكل أفقي، كل ذراع تمسك بها يد، والرأس تدعمه بشكل ما قطعة القماش البيضاء الملتفة حول العنق، وتلتف الساق اليسرى على الساق اليمنى قليلاً. يظهر الدم على القماش الأبيض، كما يظهر على مناطق متفرقة من جسد الطفل، كما يلاحظ أن الأدوات الحادة المستخدمة، أكثر وضوحاً في لوحة غاسبارو عن غيرها من اللوحات، إذ نرى المشارط الرفيعة المدببة، والمقارض التي يبدو أثرها في الجسد وما أحدثته فيه من فتحات دامية. أما وجه الطفل فيبدو حياً أكثر منه ميتاً، يكابد آلام ما يتعرض له من شنق وجرح واستنزاف.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية