للحجاب قصته التركية أيضاً

حجم الخط
3

تقدم رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كلجدار أوغلو باقتراح لصياغة قانون يمنع تدخل الدولة في موضوع ما يختاره الناس في ملبسهم، وضمناً حرية المرأة في ارتداء الحجاب من عدمه. كان لافتاً تزامن هذا الاقتراح مع ثورة النساء في إيران ضد الارتداء القسري للحجاب، وتحولها إلى ثورة سياسية عامة ضد حكم رجال الدين، كما لو أن المرأة في إيران ثارت ضد الحجاب في حين ما زالت المرأة التركية بحاجة لقانون يمنحها الحق في ارتدائه.
ولكن بالنظر إلى تاريخ هذا الحزب وإيديولوجيته العلمانية المتصلبة، يمكن اعتبار اقتراح كلجدار أوغلو ثورياً بالمقاييس التركية. وهذا ما تجلى في ردود الفعل الممتعضة التي استثارها الاقتراح المذكور لدى النخبة الثقافية والإعلامية في الحزب أو القريبة منه. أما السلطة التي رأت في اقتراح كلجدار أوغلو «سرقةً» من دوره المفترض في مناصرة المرأة المحجبة لأهداف براغماتية تتعلق بكسب أصوات للحزب الكمالي من البيئة المحافظة في الانتخابات القادمة، فقد ردت على لسان أردوغان بالقول: «إذا كان كلجدار أوغلو صادقاً في اقتراحه فليقف معنا في تثبيت الحق في حرية اختيار الملبس في مادة دستورية» معبراً بذلك عن اعتراضه الضمني على اقتراح خصمه السياسي.
لم تمض إلا سنوات قليلة على نزول الملايين من مناصري حزب الشعب الجمهوري إلى الشوارع اعتراضاً على ترشيح عبد الله غل لرئاسة الجمهورية بسبب حجاب زوجته أو كذريعة لرفض وصول إسلامي إلى أرفع منصب في الدولة العلمانية، وما تلا ذلك من تدخل المحكمة الدستورية لتعطيل انتخاب غل في البرلمان. وقد ارتد ذلك على الحزب حين تم تعديل الدستور لينتخب غل في انتخابات عامة، وتدخل زوجته «خير النسا» قصر جانكايا الرئاسي كأول سيدة أولى محجبة في تاريخ تركيا الجمهوري، وسط إحباط شديد في البيئة العلمانية (الواقع أن زوجة مصطفى كمال نفسه كانت محجبة، لكنه كان قد طلقها قبل البدء بإصلاحاته الراديكالية في الملبس، ولم يتزوج بعدها).
وقبل ذلك بسنوات قليلة أيضاً تم طرد مروة قاوقجي من البرلمان من قبل نواب حزب الشعب الجمهوري لأنها ترتدي الحجاب، لتتحول قاوقجي بعد ذلك إلى رمز للمظلومية في البيئة الاجتماعية المحافظة، تلك المظلومية التي أدت، بين عوامل أخرى، إلى صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في مطلع الألفية واستمراره في الحكم إلى اليوم.

في أعقاب الانقلاب الأبيض الذي أطاح بحكومة نجم الدين أربكان في 28 شباط 1997 بلغ العسف العلماني ذروته من خلال منع دخول الطالبات المحجبات إلى الجامعات

وفي أعقاب الانقلاب الأبيض الذي أطاح بحكومة نجم الدين أربكان في 28 شباط 1997 بلغ العسف العلماني ذروته من خلال منع دخول الطالبات المحجبات إلى الجامعات. وفي حين واظبت محجبات على التجمع أمام باب جامعة إسطنبول على أمل أن تتراجع السلطة عن قرارها، ظهر ما يسمى بـ«غرف الإقناع» حيث يتم إدخال الطالبات المحجبات فرادى ويتعرضن لـ«إقناع» بنزع حجابهن لمتابعة تعليمهن. فيما يذكّر بمحاولات أجهزة الأمن في الأنظمة الدكتاتورية «إقناع» المعتقلين السياسيين بالتعامل معها مقابل إطلاق سراحهم.
لقد حرمت تلك القرارات الشائنة آلاف الفتيات المحجبات من إتمام تعليمهن، فنشأت مشاعر غضب مكتوم ستظهر نتائجه في السنوات اللاحقة في ازدياد قوة التيار الإسلامي والميول المحافظة في المجتمع، أي عكس الهدف الذي سعى إليه العلمانيون.
ولم يبدأ حزب العدالة والتنمية الحاكم العمل على إلغاء آثار تلك الفترة إلا بعد العام 2008، حيث أدخل تعديلات طفيفة على قوانين ومواد دستورية شرعنت ارتداء الحجاب في المجال العام بما في ذلك الدوائر الرسمية والمؤسسات التعليمية. لكنها تعديلات ما زالت قابلة للارتكاس إذا أرادت السلطة العودة إلى حظر ارتداء الحجاب في تلك الأماكن. لذلك جاء اقتراح زعيم المعارضة العلمانية بسن قانون يحرّم أي عودة من هذا النوع بمثابة سابقة في تاريخ حزبه، ومن المحتمل أن يلقى ارتياحاً في البيئة المحافظة حتى لو لم يترجم ذلك في صناديق الاقتراع على ما قد يأمل كلجدار أوغلو.
هذه على أي حال نقطة تسجل له لا عليه، ذلك أن اقتراحه «الثوري» بمقاييس حزبه يتجاوز الهموم الانتخابية والتنافس على السلطة إلى هدف أرفع يتمثل في تجاوز الاستقطاب الاجتماعي الحاد بين العلمانيين والمحافظين. ويأتي اقتراحه في إطار حملة أطلقها منذ بداية العام باسم حزبه تحت شعار «طلب المسامحة» في نوع من النقد الذاتي لتاريخ الحزب الذي ارتبط اسمه بالإجراءات المتشددة ومناصرة الانقلابات العسكرية. وتوجه بحملته إلى القطاع الاجتماعي المحافظ والكرد بصورة خاصة باعتبارهما فئتين مظلومتين في فترات حكم الحزب.
في الحالتين الإيرانية والتركية اللتين تبدوان للوهلة الأولى على طرفي نقيض، حيث ثورة في الأولى ضد الحجاب القسري، وتوجه في تركيا نحو تشريع الحجاب في الفضاء العام، المبدأ الذي يراد تكريسه هو الحرية، حرية الناس في ارتداء ما يريدون، حجاباً أو سفوراً، وهو ما لا يقل قيمةً عن حرية التفكير والتعبير وغيرها من الحريات العامة. وفي الحالتين كان منع السفور في إيران ومنع الحجاب في تركيا تعسفاً معادياً للحرية الشخصية يكرس تحكم السلطة السياسية وهيمنتها على المجتمع فيما يتجاوز القمع السياسي إلى قمع التطلعات والحقوق الفردية البديهية.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامي صوفي:

    اقتراح كمال كلجدار-اوغلو، حول صياغة قانون يمنع تدخل الدولة في موضوع ما يختاره الناس في ملبسهم، يذكرني بالمثال؛ كاد المريب أن يقول خذوني!
    فالحزب المؤلف من بقايا الكماليين، هو نفس الحزب الذي كان يجبر الطالبات عل التعهد بعدم ارتداء الحجاب، و هو نفس الحزب الذي تمرّس أعضاؤه في تحقير المسلمين و لذلك أصاب الكاتب بكر صدقي في وصفه علمانية الحزب ب «العسف العلماني»!
    اقتراح كجدار-اوغلو هو ثورة في الحزب. و لكنها شكلية و تهدف الى خداع الاتراك الذين سيصوتوا لحزب العدالة. و هي خدعة لا تختلف عن خدعة حزب العدالة في تقاربه مع النظام السوري.

  2. يقول يعرب القحطاني:

    الانتقال الجغرافي للحجاب إلى تركيا ، بعد افول نجمه في إيران

  3. يقول هشام الجزائري:

    هذه المعلومة خاطئة ياأستاذ بكر صدقي المحترم قولك ” لينتخب غل في انتخابات عامة ” وهذا غير صحيح عبد الله غل تم انتخابه من قبل البرلمان لدورة واحدة في 2007 وفي ظل النظام البرلماني ولم يتم تعديل الدستور مطلقا من أجل إنجاح غول بل نجح في التصويت الثالث في البرلمان .شكرا على سعة صدرك أستاذ

إشترك في قائمتنا البريدية