حرب عالمية حذرة

حجم الخط
0

كيف يمكن للحرب العالمية الثالثة أن تكون غير ما نعيشه منذ بضع سنوات وما زالت آفاقه مفتوحة؟ صحيح أن الحرب الدائرة فصولها من أوكرانيا إلى قطاع غزة إلى سوريا واليمن وليبيا والسودان لا تجري على الأراضي الأوروبية كحال الحربين الأولى والثانية، لكن أبرز الدول الأوروبية + الولايات المتحدة منخرطة فيها بشكل أو بآخر، فضلاً عن أن الحرب الأوكرانية تقع على تخوم القارة العجوز مع احتمالات توسعها غرباً. هذا إذا سلمنا بأن شرط وصف حرب بالعالمية هو صلتها المباشرة بأوروبا.
سواء بالدمار العمراني والاقتصادي الهائل وأعداد الضحايا وكميات السلاح وأنواعه والأموال «المستثمرة» فيها، أو بنتائجها السياسية المحتملة من تغييرات في الخرائط أو موازين القوى أو ما يمكن أن تؤدي إليه من تغييرات سياسية داخلية في البلدان المعنية، لا تقل هذه الحرب عن سابقتيها في شيء، بل تتفوق عليها في أشياء. أما صفة «الحذر» المضافة إليها في العنوان فهي تعبر عن تحسب القوى العظمى وامتناعها ـ إلى الآن – عن الانخراط المباشر فيها ما دامت الأمور «تحت السيطرة» من زاوية نظر مصالحها ورؤاها الاستراتيجية.
ففي الحرب الأوكرانية تكتفي دول حلف شمالي الأطلسي بدعم القدرات العسكرية الأوكرانية بالمال والسلاح والذخيرة، محافظة على امتناعها عن الانخراط المباشر. وما أن بدأ بعض التململ في الحكومات الداعمة لأوكرانيا من الخسائر المالية الكبيرة التي يتسبب بها هذا الدعم حتى توالت الخسائر الحربية الأوكرانية أمام روسيا في الأشهر القليلة الماضية، مقابل ما يبدو من تفوق روسي في القدرة على التدمير، وترافق ذلك مع انتقال مركز الاهتمام في وسائل الإعلام من الحرب الأوكرانية إلى الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وكذا فيما يتعلق بالدعم الغربي لإسرائيل الذي بدا كأنه جاء جزئياً على حساب دعم أوكرانيا. واضطر الرئيس الأمريكي جو بايدن لنشر مقالة في صحيفة وول ستريت جورنال، قبل أيام، لحث الكونغرس على المصادقة على حزمة مساعدات ضخمة تتوزع على أوكرانيا وإسرائيل وتايوان، مبرراً تلك المساعدات بمتطلبات الأمن القومي للولايات المتحدة، ولم يتورع عن وصف حفنة من النواب الجمهوريين ممن يعرقلون تشريعها بالمتطرفين.

تنتهي الحرب العالمية الدائرة حين يتفق المتحاربون على أسس نظام دولي جديد، وضمناً نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، بتوزيع الحصص من النفوذ والثروات وفقاً لموازين القوى المحققة

وينسحب الحذر الغربي على الصراع الإسرائيلي ـ الإيراني الذي تحول منذ بداية الشهر الجاري من حرب وكالة من جهة إيران بواسطة أذرعها الميليشياوية إلى صراع مباشر بعدما ردت إيران على ضرب قنصليتها في دمشق بإطلاق صواريخ وطائرات من دون طيار على الأراضي الإسرائيلية، فلم تشارك تلك الدول بصورة مباشرة في الرد الإسرائيلي على الهجوم الإيراني، مكتفية بالمشاركة في صد الهجوم الإيراني بفعالية عالية أدت إلى إسقاط معظم تلك الصواريخ والطائرات المسيّرة قبل وصولها إلى إسرائيل. لكن إيران تبقى في معسكر الحذرين، إذا جاز التعبير، بل الأشد حذراً فيه على رغم انخراطها المحسوب للمرة الأولى بصورة مباشرة في صراعها ضد إسرائيل، ومن المرجح أن إطلاق الصواريخ والمسيرات عليها لن يتكرر مرة أخرى، كما يمكن اعتبار الرد الإسرائيلي المحدود موافقة على إنهاء هذا العارض الجانبي مع استمرار ضرب وكلائها في سوريا ولبنان في إطار قواعد الاشتباك السابقة على استهداف القنصلية.
أما روسيا بوتين فقد تورطت في بدء حربها على أوكرانيا، ولم تعد قادرة على التراجع على رغم خسائرها الكبيرة في الحرب، ما لم يقدم لها التحالف الأطلسي حوافز معقولة أهمها الحصول على رواية عن نصر عسكري ولو كان موهوماً. غياب هذه الحوافز واستمرار تعنت واشنطن وما يبدو من إصرارها على تركيع إرادة بوتين دفع هذا الأخير إلى التهديد باستخدام السلاح النووي في أكثر من مناسبة، كرسالة فحواها أن روسيا لا تستطيع أن تُهزم، فمن شأن هزيمة مذلة أن تنهي حكم بوتين ومعه ربما مصير الدولة الروسية ذاتها. هذا هو مصير غير الحذرين الذين يخطئون في حساباتهم.
أما الحذر الصيني فهو ما يمكن أن يضرب به المثل. فعلى رغم أن الظروف الدولية، في ظل استمرار الحرب الأوكرانية، مواتية لابتلاع تايوان إلى حد معقول، من غير المحتمل أن تتورط القيادة الصينية في عمل ممكن ولكن بثمن باهظ قد يهدد كل الإنجاز الاقتصادي الذي بنته خلال عقود. صحيح أن واشنطن ملتزمة نظرياً بأمن تايوان إزاء التهديد الصيني، ولكن من المستبعد أن تخوض حرباً عسكرية ضد الصين، لتكتفي بحرب اقتصادية قد تكون أكثر نجاعة من الحرب العسكرية.
متى تنتهي الحرب العالمية الدائرة؟ حين يتفق المتحاربون على أسس نظام دولي جديد، وضمناً نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، بتوزيع الحصص من النفوذ والثروات وفقاً لموازين القوى المحققة. أما ما دام اللاعبون الجدد الطامحون لتوسيع نفوذهم وحصصهم في الثروات المتصارع عليها غير قادرين على فرض شروطهم بواسطة الحرب، ويرفضون الاعتراف بأحجامهم الحقيقية فسوف يستمر الصراع إلى أجل غير معلوم. وتبقى مخاطر الحرب النووية قائمة ما دام مهووسون بالقوة كبوتين أو كيم جونغ إيل يمسكون بمفاتيحها.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية