كُتبٌ أقل

للأسف، انتهى معرض القاهرة للكتاب، بعد أن وفر لي الكثير من المتعة والكثير من الشجن.
أحب دخول المعرض بعد الظهيرة، أتسلى بالتعادلية التي تبدو بين الأقفية والوجوه، حيث تتساوى أعداد الداخلين مع أعداد الخارجين في تلك الساعة، بعكس ساعات الصباح والمساء التي لا يمكن أن أرى فيها سوى أقفية الداخلين أو الخارجين.
في وقت الدخول المبكر والانصراف المتأخر يبدو المرء جزءا من قطيع موحد يفتقد التنوع ويمضي مصمما إلى وجهته فلا ترى العيون إلا الأقفية التي تتقدمها. الظهيرة ساعة للاختلاف، ليس في تلاقي وجوه الداخلين والخارجين فحسب، الداخلون خطوهم حماسي، لا يزالون بكامل طاقتهم وبآمال كبيرة، الخارجون يجرجرون أقدامهم وأحمالهم بسبب الإنهاك ربما، أو بسبب الإحباط. أيدي الداخلين فارغة وللخارجين أياد تقبض على أكياس مشتريات من المفترض أنها نبيلة، على الرغم من أن أوراق الحمّام قد تكون أكثر نبلاً من بعض الكتب.
‘ ‘ ‘
لا تسلية تعادل مراقبة الأسر التي جاءت إلى المعرض في نزوة ومغامرة أولى. يمكن اكتشاف هذا النوع من الرواد من خلال صخبهم في الممرات، من حيرتهم أمام الرفوف، من السؤال عن الأسعار.
التعالي على الأسعار ليس سمة عامة للعريقين من القراء، ربما العكس هو الصحيح عند الكثير من عشاق الكتب، وخصوصا بعد لوثة الأسعار الأخيرة، لكن سؤال الذين يتمتعون بعلاقات قديمة مع الكتب عن السعر يختلف. اليد مستميتة على الكتاب، العينان مصممتان، إما استعطافا أو تحديا مثل خاطب وقح: ‘إذا لم تزوجني كريمتك ستهرب معي’.
سؤال محدثي العلاقة مع الكتب لا إلحاح فيه، يتحولون عن الكتاب إلى غيره عندما لا يعجبهم السعر، يبدأون في التقليب والسؤال والمفاضلة طبقًا للسعر، كما يفعلون مع أكياس للبازلاء المبردة في سوبر ماركت!
الرحلة الأسرية إلى المعرض تبدو جزءا من مسؤولية أمهات الطبقة الوسطى الحريصات على تنشئة أطفال أقوياء العود من خلال التغذية المفيدة من وجهة نظرهن. لكن الطفل لا يمتثل طويلاً للقراءة الصحية، التي تنتهي بأحد احتمالين؛ إما الإقلاع التام عن هذه العادة أو الاتجاه إلى القراءات الخطرة الممتعة، ربما بالتزامن مع البحث عن المتعة بعيدًا عن مطبخ الأسرة، في محال الوجبات السريعة أو لدى الباعة الجائلين، أو في سيجارة مخدرات يبيعها مروج مراهق بالقرب من المدرسة.
يوما ما ستكتشف الأم الصالحة أن الكتب حسنة النية، التي انتقتها بناء على السعر ووعود الصلاح على غلافها، لم تكن تستحق زحزحة الرضيع عن عربته لتكديسها مكانه. لكن الأم المنخرطة في لحظة الإحساس بالواجب تلك لا يمكن أن تكون أكثر إثارة للتأمل من شيخ يغالب حمله، أو يستأجر حمالاً يمضي أمامه بصيد يزيد على ما تبقى له من رصيد في الحياة.
ينقل بورخيس عن رالف والدو إمرسون بطريقته في الإسناد المثيرة للشك:’أظن أن إمرسون هو من كتب يقول في مكان ما: إن أي مكتبة هي نوع من المغارة السحرية الممتلئة بالموتى. ويمكن لهؤلاء الموتى أن يبعثوا أحياء، يمكن لهم أن يعودوا إلى الحياة عندما نفتح صفحاتهم.’
هل ستمهل الحياة هذا الشيخ الهزيل الـــــوقت لكي يتــمكن من إحياء حمله من الأموات؟ أم سيتركهم يعانون وحشة السكون؟
‘ ‘ ‘
معظم من يراكمون الكتب يحظون بذرية تكرهها وتتعامل معها كجثث حقيقية ينبغي أن تلحق بجثمان صاحبها، بعضهم يخرجها صدقة مثل ملابسه، الأكثر استنارة يستدعون مؤسسات دفن الكتب، حيث تقبع المكتبة باسم صاحبها في ركن معتم من مكتبة جامعة متدهورة أو إحدى مؤسسات وزارة الثقافة، الأكثر حاجة للنقود يستدعون المرابين النبلاء من باعة الكتب القديمة، لتستعيد الأفكار حيواتها على فرشة ‘بسطة’ شارع أو تعود لتدخل مجددًا من أبواب المعرض، تكدس في فوضى، عرضة للتقليب كما في أسواق النخاسة القديمة، حيث رشاقة الكتاب ونظافة الغلاف أهم من مضمونه بالنسبة للكثير من الرواد.
أنظر بحسد إلى الشيخ الشغوف، وأتذكر بشجن أصدقاء رحلوا، وكنت أرى تناقص شهوتهم للشراء عامًا بعد عام. وأكتشف أنني لم أدفع الكثير لاقتناء الكتب من معرض هذا العام، لكن الأمر لا يخلو من عزاء؛ إذ استبدلت شذى تراب الممرات بغبار معارك سياسية بدأت واستعرت ثم حطت أوزارها في غيابي.
بددت، مسرورا، الكثير من الأمسيات بعيدًا عن نيران ساحات الوغى في الفضائيات، إما بسبب العودة منهكًا أو لأن اللقاء مصادفة مع أصدقاء وسط ضجيج المعرض أو في مقهاه العابر تطور إلى موعد في مقاهينا المقيمة بوسط المدينة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول eng.Gamal Abdel Nasser:

    مجرد القراءه لك متعه لاتفوقها متعه إلا متعة الجلوس معك ..

  2. يقول منال:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته …كتاباتك زي العسل…ياعزة

إشترك في قائمتنا البريدية