كشف زيف مقولة عنصرية

تصريحان لافتان للنظر: عندما انتهت ولاية الرئيس الأمريكي السابق الجنرال إيزنهاور، حوالي منتصف القرن الماضي اعترف للأمريكيين، باستسلام المحبط المليء باليأس، بأن الذي يحكم أمريكا في الواقع ليس رؤساء الدولة، وإنما يحكمها، ثالوث الأمن والاستخبارات أولاً، والاقتصاد والمال، ثانياً، والإعلام ثالثاً. في ما بينهم يكّون الثلاثة الدولة العميقة التي تدير وتهيمن، وتعاقب وتجزي، وتراقب كل حركة.
وجاء الآن المناضل الاشتراكي البريطاني جيرمي كوربن، الذي كان مرشحاً شبه مؤكد لأن يكون رئيس وزراء بريطانيا، لولا أن الدولة العميقة اعترضت عليه وشوهت سمعته، واستعملت أموالها ونفوذها المحلي والدولي لإسقاط كل آماله في رئاسة حزب العمال البريطاني أولاً، ومن ثم في أن يصبح رئيس وزراء. نشر هذا الاعتراف اليائس الحزين من قبله على شبكات التواصل الاجتماعي، وصفاً واحتجاجاً وقنوطاً، للقدرات التسلطية التي تملكها الدولة العميقة في بريطانيا ولهيمنتها الهائلة على الحياة السياسية هناك.

يوماً بعد يوم يتبين أن الاستبداد السلطاني الشرقي، هو في الحقيقة توأم مماثل لاستبداد الدولة العميقة الغربية

في دولتين عريقتين إلى أبعد الحدود في تبني النظام الديمقراطي وممارسته عبر مئات السنين، يكشف لنا رئيس دولة وقائد أساسي في حزب تاريخي متجذر، زيف وهشاشة وما وراء أقنعة النظامين الديمقراطيين في كلا البلدين. هذا الكشف، الذي من المؤكد يخاف الحديث عنه الألوف من قادة السياسة في كلا البلدين، يجب أن يقود إلى مناقشة الأحجية التاريخية التالية: هل هناك فرق بين الدولة العميقة، التي تلبس رداء الديمقراطية المظهرية، من انتخابات، إلى برلمانات، إلى استقلال لسلطاتها الثلاث، وإلى رأي عام مستنير مستقل، إلى أحزاب تخدم مصالح الشعوب ولا غير الشعوب إلخ.. بينما هي في الواقع تدير البلاد باستبداد ورشاو وشراء ذمم سياسية وإعلامية، لخدمة مصالح أقلية متحكمة ومتنفذة، هل هناك فرق بينها وبين ما ظل الغرب طيلة قرون يردده بشأن الشرق، وهو أن الشرق قد حكمه طيلة تاريخه السلطان المستبد، سواء باسم القبيلة، أو العائلة، أو العساكر، أو جهات خارجية؟ ويضاف أن الشرق وحده لديه قابلية للخضوع وللتعايش مع الاستبداد؟ ما الفرق بين استعمال أنواع الهيمنة والتسلط على كل شيء الذي ميز السلطان المستبد في الشرق، واستعمال كل أنواع الهيمنة والتسلط على كل شيء الذي تمارسه الدولة العميقة في الغرب من وراء حجاب الديمقراطية، كما وصفه أيزنهاور وكوربن؟ يوماً بعد يوم يتبين أن الاستبداد السلطاني الشرقي، هو في الحقيقة توأم مماثل لاستبداد الدولة العميقة الغربية، ويومياً تصدر الكتب والمقالات، ويصرح ذوو الضمائر، بأن ديمقراطية الغرب قد تراجعت وغدت ألعوبة ووسيلة وتمثيلية تستعملها بدهاء أقلية غربية للسيطرة على وعي وعقول الشعوب، من أجل إقناعها بأن امتيازات تلك الأقلية ومكانتها وسلطاتها وشتى أشكال جشعها وسرقاتها، شرعية حصلت عليها بوسائل ديمقراطية قانونية تحكمها ممارسات الأخذ والعطاء والتراضي ومتطلبات الحقوق الطبيعية، بل حتى الأقدار الإلهية أحيانا، ومن ثم فهي امتيازات وممارسات شرعية.
في كتابه «خارج الدمار» يصف جورج مونبيوت الساحة السياسية في أمريكا بأن جملة النظام السياسي الممارس فيها معروض للبيع، بعد أن يعرض أشكالاً من الدعم المالي والإعلامي، الذي تتبرع به الشركات والبنوك والأفراد ووسائل الإعلام لإنجاح أعضاء الكونغرس الأمريكي مقابل خدمات يلتزمون بتقديمها، من خلال نوع تصويتهم عند اتخاذ قرارات الكونغرس. وبصوت عال يؤكد أن طبقة الأغنياء والنفوذ في أمريكا وإنكلترا، المعني بدراستهم، هي التي تحكم وتتحكم، وأن ما عداها هم ليسوا أكثر من شهود زور. لسنا معنيين هنا بأوضاع الحكم في مجتمعات الغرب، فهو موضوع بالغ التعقيد ويعني في الدرجة الأولى شعوبه. ما يهمنا هو أنه آن أوان كشف زيف ما ظل يردده الغرب على لسان أحد شعرائه عبر السنين بأن «الشرق شرق والغرب غرب»، مشيراً إلى قابليتنا للاستبداد وقابليتهم للحرية، فقد عرت الدولة العميقة في مجتمعات الغرب زيف تلك المقولة العنصرية المتكبرة.
كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية