كباب كرز وفلافل: ما الذي ترويه قوائم المطاعم السورية في إسطنبول؟

عند الحديث عن تاريخ المطاعم، غالبا ما يذهب الكلام في هذا الشأن إلى تفاصيل تتعلق بالأطباق والوصفات التي تميز بعض المطاعم، أو تاريخ المطعم، أو أوضاع الندل (كما فعل جورج أورويل) في إحدى مقالاته، أو سيرة بعض الطباخين، وكيف دخلوا ونجحوا لاحقا في عالم الطبخ، الذي غدا اليوم عالما له مشاهيره ومتابعيه بالملايين. كما يبدو أن هناك تفاصيل أخرى داخل المطعم، إلا أنها ربما لم تلق الاهتمام والقراءة الكافية، وتتمثل بقوائم الطعام، التي لا يخلو منها أي مطعم، إذ تمر هذه القوائم، بتطورات عديدة، سواء على مستوى وصفاتها، أو حتى على صعيد كيفية قراءتها مثلا، من ورقة أو أكثر مصممة بطرق مختلفة، إلى نص إلكتروني يقرأ عبر تطبيقات الهاتف.
كما تبدو هذه القوائم قادرة من خلال التغيرات على البوح بتفاصيل عن المكان الذي تعيش فيه، وحياة الناس فيه، ولذلك فهي تصلح لتكون بمثابة وثائق، أو لنقل إنها نصوص، يمكن من خلالها قراءة تفاصيل عن المجتمع والأذواق والطبقات وحتى السلطة. وهذا ما سنحاول تلمس بعض تفاصيله في قوائم المطاعم السورية في إسطنبول منذ عام 2013 ـ 2024. فمن خلال الاعتماد على نسخ متعددة لقوائم بعض المطاعم السورية، سنرى أنه بوسعنا قراءة عقد كامل وأكثر من حياة السوريين، وتلمس بعض الانقسامات الحادثة اليوم في أوساطهم داخل المدينة.

كباب بكرز.. قوائم التقليد

في نهاية عام 2013، قام أحد التجار الحلبيين، وعمل سابقاً في إدارة معمل للسحابات في مدينة حلب، بفتح مطعم للطعام الحلبي في أحد الشوارع الضيقة القريبة من جامع الفاتح. وقد بدا المطعم يومها بسيطا ومؤلفا من بضع طاولات، وهو الشكل الذي بقي سائدا حتى يومنا هذا، باستثناء تغيير الكراسي وبعض الطاولات. مع ذلك استطاع هذا المطعم تحقيق شهرة واسعة في المدينة، وبالأخص لمن يبحث عن لقمة طيبة وتقليدية حلبية. فمن خلال التقليب في القائمة الأولى، أو لنقل النسخة الأولى من قائمة طعامه، نلاحظ أنّ الطعام آنذاك كان تقليديا (حلبيا) بامتياز، ويتألف من أنواع من الكبة، خاصة أن حلب معروفة بكونها مدينة ألف كبة وكبة، أو الفريكا بلحمة، أو أشكال مختلفة من الكباب مثل كباب أرمني، وكباب حلبي، وأيضا هناك كباب بالكرز، وهو طبق يعد بمثابة البراند الخاص بمدينة حلب، مقارنة بباقي المدن السورية، ويمثل مصدر فخر للحلبيين في جلساتهم.
ينقل لنا الأخوان سمير ومروان طحان في موسوعتهما عن الذوق في حلب، أن وجبة الكباب بكرز في الأسواق تتكون من خبز طري أو مقمر يوضع فوقه كباب مشوي ويسقى بمرقة كرز معقودة (مطبوخة بشكل جيد). ويبدو أن خلط اللحم بالطعم الحلو لا يقتصر في المطبخ الحلبي على هذه الأكلة فحسب، وإنما هناك أكلات أخرى مثل اللحمة بقمر الدين والكبة بقمر الدين، وهو أسلوب يرجح بعض الباحثين أنه مقتبس من الطعام الفارسي التركي. ولعل هذا الطابع التقليدي الذي ميّز قائمة المطعم الحلبي قد شمل معظم المطاعم السورية، فخلال الفترة من 2013 إلى نهاية 2015 نلاحظ أننا أمام حقبة يمكن تسميتها بمرحلة «قوائم الطعام التقليدية» التي وفرت للاجئين السوريين في إسطنبول، وبالأخص للطبقات الميسورة السورية، أو الطبقات الوسطى التي أخذت تتشكل في إسطنبول من خلفيات متعددة (تجارا صغارا، سياسيين، عاملين في مؤسسات إغاثة أو ثقافية، أطباء) طبقا يربطهم بسوريا التي هاجروا منها، ولذلك بدت هذه القوائم تحمل طابعا ذوقيا تقليديا/حنينيا في الوقت نفسه.
في مطعم صغير آخر افتتح بالقرب من جامع الفاتح، ويقدم الطبخة التقليدية (القشة) أو (الكوارع) كما تسمى بالمصري، نجد أنّ القائمة الأولى لهذا المطعم (2014) عبارة عن صفحة واحدة فقط، وتتكون من أطباق مثل سجقات، لحمة راس، مقادم، لسانات، نخاعات. ويبدو من خلال الأسعار الموجودة في القائمة، أنه لم يقتصر فقط على الشرائح العليا والوسطى، وإنما كان مفتوحا للطبقات الوسطى الدنيا وما دونها. والشيء ذاته أيضا نراه في مطعم يمتلكه شخص من مدينة دير الزور، إذ اعتمد المطعم في بداية تأسيسه أيضا على قائمة التقليد/الحنين، من خلال احتواء قائمته على وجبات مميزة، مثل الماريا والكباب الديري، الذي لا يشبه أطباق الكباب السورية الأخرى، كونه لا يفرم بالماكينة، وإنما يحضّر عبر السيخ، مع إضافة قليل من البصل والبهارات.

منسف أردني.. مرحلة التغيير

في عام 2015 ـ 2016، كانت تركيا قد تحولت إلى مركز يستقطب مئات الآلاف من العرب والسوريين المقيمين في الخارج، الذين أخذوا يقبلون على زيارة المدينة، لرؤية أهاليهم، وأيضا للتعرف أكثر على اسطنبول التي باتوا يشاهدونها في الدراما. ولذلك كان لا بد أن تتأثر قوائم المطاعم السورية بهذه الأجواء، وأن تشهد في هذه الفترة أول مرحلة من التغيير، والقطيعة مع حقبة القوائم التقليدية، ففي ظل وجود السياح السوريين والعرب عموما، حاولت بعض المطاعم السورية الاستفادة من هذا القدوم، خاصة أنّ كثيرا من اللقاءات كانت تجري في داخلها. وبالعودة للمطعم الحلبي، نرى هذا الشيء في نسخة أخرى مطورة من قائمة الطعام الخاصة به، إذ نلاحظ مثلا في قائمته المحدثة عام 2016، دخول أصناف جديدة مثل المنسف الأردني والمنسف الفلسطيني. وعلى الرغم من أنّ المطعم، حاول الحفاظ على هويته الحلبية (التقليد) لكنه وجد في إضافة أصناف جديدة فرصة لتلبية طلبات زبائن آخرين. ولذلك لم يعد غريبا أن نعثر على المنسف الأردني، في قوائم المطاعم السورية، خاصة وأنّ هذا الطبق قد حظي في السنوات الأخيرة أيضا بشعبية إقليمية، وأصبح السوريون يقبلون على تذوقه بنهم.
واللافت هنا أنّ هذا التطور في القوائم على صعيد الأطباق والأسعار، لن يشمل مطاعم عربية أخرى مثل المطاعم اليمنية، فالملاحظ في قوائم المطاعم اليمنية، عدا واحدا وسط شارع الأمنيات/الفاتح، أنها لم تضم أي أطباق جديدة، وبقيت أكلات مثل كبسة بلحم، أو فحسة مع خبزة تنور كبيرة، أو العريكة (تمر مهروس مع كريما وعسل وحليب مكثف) هي الوجبات الأساسية لهذه القوائم. ولا يشير عدم التغيير هذا إلى هوية يمنية منغلقة، وإنما إلى عوامل أخرى، مثل محاولة هذه المطاعم الحفاظ على ما يميزها في عالم تنافسي من الأذواق، عبر التركيز على أطباق اللحم والرز، وربما هذا ما جعلها تنجح في مدينة مثل إسطنبول، وتصبح قادرة حتى على منافسة المطاعم السورية، وكسب رضا الزبائن السوريين ممن يبحثون عن أطباق الرز واللحم المطبوخ ببهارات مختلفة عن البهارات السورية.

قوائم سياح

بعد عام 2016، كان صاحب المطعم الحلبي قد افتتح فرعا آخر لمطعمه بالقرب من إحدى المناطق السياحية (بِبِك). وقد بدت قائمة الطعام في الفرع الجديد مختلفة تماما عن الطابع التقليدي الذي ميّز النسخة الأولى. وفي النسخة الأخيرة، التي لم تعد ورقية فحسب، بل غدا بوسع أي شخص الاطلاع عليها، حتى لو لم يزر المطعم، من خلال تصفح صفحة المطعم على الويب، نلاحظ أنّ القائمة، وإن حافظت على أطباق حلبية تقليدية، لكنها بدت أيضا تسعى لاكتساب رضا زبائن آخرين، أتراك أو حتى عرب يميلون لتناول وجبات أخرى مثل السمك أو الوجبات الغربية، ولذلك قد يشعر من يقلّب في أبواب القائمة الجديدة، أنه أمام نسخة متعددة (تقليدية وغربية وتركية) وهي نسخة تحاول كسب أكبر شريحة من القادمين، وهم في الغالب إما من السياح أو من أصحاب الدخول العالية. وهذه ملاحظة يجب التوقف عندها أيضاً، فالمطاعم السورية التقليدية، التي كانت في حالة المطعم الحلبي مكانا لزيارة الطبقات الميسورة والوسطى، أصبحت في القائمة الجديدة أقرب للطبقات الميسورة، ما يوحي بتحول هذه الأماكن إلى أماكن أخرى غير التي نشأت فيها في البداية. إذ لم تعد قوائم الطعام بأسعارها الجديدة تخاطب ود شرائح من زبائنها السابقين (الطبقة الوسطى) بل تخاطب سوريين آخرين، إما ميسوري الحال، أو سوريين قادمين للمدينة بقصد السياحة.
نرى الشيء ذاته في مطعم القشة التقليدي أيضا، ففي قائمتين أخيرتين متطورتين (2016 ـ 2023) يلاحظ في قائمة 2016، ظهور أكلات جديدة مثل الشاكرية أو المندي. بينما نرى في قائمة 2023، أنّ القشة التي كانت بطلة القائمة الأولى، أصبحت في هامش مسرح المطعم، وباتت تقدم أحيانا كمقبلات. وحلت مكانها أكلات أخرى في القائمة، مثل رقبة مشوية (قيمتها بين 100 ـ 150) دولارا أحيانا، أو ضلع مشوي (وسعره غال غالبا) ولذلك بات كثير من زوار المطعم في السابق، يذكرون أنه لم يعد مطعما للسوريين (الطبقة الوسطى أو حتى ما دون الوسطى) وإنما باتت قائمته تخاطب سوريين من نوع آخر، سياحا في الغالب. وبالتالي في هذه الحقبة (ما بعد 2016) نرى أن قوائم بعض المطاعم السورية انتقلت من فترة البحث عن الماضي والذاكرة والهوية، إلى الانخراط أكثر في عالم السياح الباحثين عن أذواق ونكهات يجربونها. لكن ذلك لا يعني أن هذه المطاعم ستتنازل عن التقليد بسهولة، وإن تراجع للخلف، فحتى لو لم يوجد في القوائم، أو يحتل مشهد القوائم، فإنه سيبقى أحد عناصر المكان. وهو سلوك يتقاطع مع ما يسميه الفرنسي جيل ليبوفتسكي بـ»تتويج الأصالة» أو التقليد، إذ يرى ليبوفتسكي أنّ فكرة التقليد أصبحت اتجاها عاما يسير الناس فيه، وهذا ما نراه مؤخرا في مطعم طباخ سوري آخر اشتهر في السنوات الأخيرة. فالزائر لمطعمه المفتتح حديثا في شارع يوسف باشا، قد يجد نفسه أمام مشهد غريب بعض الشيء، اذ يوحي المطعم من الداخل وكأننا في بيت دمشقي قديم، لكن هذه الأجواء التقليدية تبدو متناقضة مع قائمة طعام المطعم، التي لا تحتوي أي أطباق سورية تقليدية، بل أكلات غربية سريعة (برغر، كريسبي، شاروما على طريقته). مع ذلك يبدو أنّ اعتماد الطباخ الديكور التقليدي، لا يأتي من باب استخدام التقليد كمادة للترويج لمطعمه، بل يظهر في جوانب أخرى قريبا من ملاحظات ليبوفتسكي من أن اعتماد التقليد في الطبخ أو المطاعم، ليس بالضرورة أن يكون مادة للاستهلاك، بل بحثا عن تجربة (تناول للطعام) مفعمة بالقيم الحسية والعاطفية.

نميمة وفلافل

اللافت هنا، أن هذا التحول في قائمة وزبائن بعض المطاعم السورية، سيعبر عن نفسه أحيانا من خلال الشائعات وقصص النميمة. فمن يزور صفحات الطعام الخاصة بالمطاعم السورية في إسطنبول، أو حتى عند اللقاء ببعض أصحاب المطاعم، يلاحظ كثرة الأقاويل والشائعات التي تتناول تاريخ أصحاب بعض المطاعم السورية، وعلاقتهم ببعض الممولين، وأحيانا ببعض أجهزة المخابرات! أو علاقة الطباخ الفلاني السيئة بوالدته أو زوجته، أو ثمن السيارة الأخيرة التي اشتراها، أو أماكن البيزنس التي يحجزونها في رحلاتهم، كما يطال الاتهام والنقد أصحاب المطاعم كونهم لا يهتمون سوى بجمع الثروة، ولا يكترثون بتقديم أي مساعدات للفقراء السوريين في إسطنبول ، أو في الداخل.
وهناك من قد يحلل هذه الشائعات وقصص النميمة، بوصفها تعكس حالة من الانقسام المناطقي في سوريا، أو لأن السوريين لا يحبون بعضهم وفق التعبير العامي.
لكن ما يهمنا هنا هو أنّ الشائعات التي يتعرض لها بعض الطباخين أو أصحاب المطاعم السورية وانتشارها، قد تعكس فعلا انقساما اجتماعيا، لكن ليس بالضرورة انقساما ثقافيا، وإنما هو وليد حاضر اللاجئين السوريين وظروفهم وتفاوضهم اليومي في الفضاء العام في إسطنبول.
كانت انوك دي كونينغ قد لاحظت في سياق دراستها للشائعات في القاهرة، أنّ بعض الشائعات لا تعد دقيقة بالضرورة، لكنها تعكس مزاجا عاما لدى بعض الشرائح والطبقات تجاه جماعات أخرى. وفي حال الطباخين وأصحاب المطاعم، يمكن القول إنه في السنوات الأخيرة، وبالأخص مع زيادة استخدامهم لوسائل التواصل، أصبح هؤلاء أحيانا أهدافا للمراقبة. بدءا من حيواتهم الشخصية، وحتى قوائم مطاعمهم، التي تحولت الى أماكن تعبر من خلالها شرائح واسعة عن نقدها للأوضاع الاقتصادية المتردية في إسطنبول في السنوات الأخيرة، ما حول أسعار الطعام والقوائم الى أماكن عمقت من واقع ومظاهر الانقسام بين اللاجئين في المدينة. وكان هذا الانقسام قد بدت ملامحه تظهر بعد عام 2016، من خلال ظهور عالم اسنيورت (الفقير) أو الفاتح (الفقير أو الوسطي) مقابل عالم السوريين في باشاك شهير (الطبقة الوسطى العليا وما فوق على الغالب). بينما نرى في هذا الانقسام الذوقي، شرائح سورية واسعة تشعر بأنها لم تعد قادرة على تذوق أطباق المطاعم السورية في إسطنبول بسبب غلائها، وأنّ ذلك يعود إلى كون المطاعم باتت أكثر ميلا من خلال قوائمها إلى الانتقال من عالم التقليد واللقمة الطيبة ذات السعر المقبول، إلى قوائم لا تخاطب سوى السياح، أو ميسوري الحال. واللافت هنا أننا نعثر في تعليقات هذه الشرائح على ربطها أحيانا بين واقع خروجهم من قائمة زبائن هذه المطاعم، وأوضاعهم العامة في المدينة. فكما باتوا مطرودين ومطاردين ومهمشين من الحياة في تركيا بوصفهم لاجئين، ها هم يطُرِدون أيضاً من قوائم عدد كبير من المطاعم السورية (برقابها وضلوعها المشوية الغالية). وفي ظل هذه المعادلة، لم تعد خريطة التقليد (الطعام السوري) واسعة أمام هذه الشرائح كما في السابق، وباتت مقتصرة في الأسواق في الغالب على حدود محال الفلافل، أو الشاورما، أو الوجبات السريعة.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية