«جسر ربط الماضي بالحاضر»… سوريون ينعون الموسيقي والملحن نوري إسكندر

حجم الخط
0

«المعلم الكبير»… «الأستاذ العظيم»… «شكراً لكل ما تركته لنا من جمال وموسيقى»… «خسارة كبيرة»… وغيرها من العبارات التي انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي السورية يوم عيد الميلاد، الخامس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر، مع وفاة الموسيقي والملحن السوري السرياني نوري إسكندر، والذي يعتبره كثيرون من أهم القامات في مجال الموسيقى السورية عموماً، والسريانية والكنسية خصوصاً.
«ملفونو» هو اللقب الذي أطلقه كثيرون ممن نعوا إسكندر، الذي توفي عن عمر 85 عاماً في السويد، ويعني اللقب «المعلّم» باللغة السريانية، ويقصد به تكريمه والتأكيد على المكانة الكبيرة التي كانت له بين طلابه والموسيقيين الذين عمل معهم، خاصة في مدينة حلب التي عاش فيها، والتي كتب أحد طلابه بأنها «ستتذكره للأبد».
وقد نعته وزارة الثقافة السورية، وأشارت إلى أنه «عمل طوال مسيرته الفنية الغنية التي تجاوزت 60 عاماً على نقل التراث السوري الموسيقي الشفوي وتحديداً التراث السرياني إلى لغة سمعية وحفظه من الاندثار، وألف العديد من الأعمال المهمة كالأعمال التي أكد فيها على العلاقة بين الموسيقا الشرقية والغربية».

حياة زاخرة بالموسيقى

ولد نوري إسكندر عام 1938 في مدينة دير الزور السورية، وكانت عائلته هاربة من جنوب تركيا من المجازر التي طالت مجموعات من المسيحيين السريان والآشوريين بداية القرن العشرين وعرفت باسم «مذابح سيفو». بعد أربع سنوات من ولادته انتقلت عائلته إلى حلب وفيها بدأ وأكمل مشواره وترك بصمته الواضحة على المشهد الموسيقي في المدينة.
بعد حصوله على الشهادة الثانوية، سافر إلى القاهرة ودرس فيها التربية الموسيقية وحصل على درجة الإجازة، ثم عاد إلى حلب وبدأ بتدريس الموسيقى في مدارس عدة، كما أسس ودرّب جوقات كنسية سريانية، وعمل مديراً للمعهد العربي للموسيقى بين عامي 1994 و2003، وكانت له مسيرة حافلة بمجال تدريس الموسيقى وتعليمها لمختلف الأجيال.
إنجازاته لم يحدها النطاق الجغرافي لحلب أو سوريا فقط، فقد أسس فرقاً موسيقية في بيروت وأحيا فيها العديد من الحفلات التي قدم فيها الأغاني الشعبية والتراثية السريانية. كما أسس في السويد جوقة «قوقوية» وكان أوج عمله معها بين العامين 2003 و2007 خاصة بمجال تسجيل أرشيف من الأغاني السريانية، وقدم حفلات مخصصة للموسيقى السريانية في باريس وبروكسل وجنيف.
أما من ناحية المؤلفات، فمن أشهر ما قدمه الفنان الراحل كونشيرتو العود وكونشيرتو التشيللو مع أوركسترا الحجرة، وأسطوانة «الثلاثي الوتري» وأسطوانة «تجلّيات» إلى جانب أغنيات صوفية من أشهرها «يا واهب الحب» وموسيقى لأفلام ومسرحيات ومسلسلات تلفزيونية عدة منها مسرحية «عابدات باخوس» اليونانية. وكان للجوقة مكانة خاصة جداً في أعماله الموسيقية، إذ اعتبرها «الحاملة للألحان الآرامية الأصيلة مع الكلمات السريانية في الصلوات القديمة وحتى اليوم». وتحولت كثير من هذه الأعمال إلى مادة أكاديمية مهمة لطلاب المعهد العالي للموسيقى في سوريا.
كان إسكندر يسعى وفق تعبيره إلى «إيجاد اللغة الموسيقية السورية التي تدمج بين مزايا وأجناس ومقامات الموسيقى الشرقية وبين مزايا الموسيقى العالمية، لخلق موسيقى سورية معاصرة» وأيضاً إلى «إخراج الموسيقى العربية من حدود الطرب التي توقفت عندها منذ عقود» و»كسر القوقعة التي تعيش الموسيقى السريانية فيها». بذلك لم يكن يخاف من المغامرة والتجريب حتى «الثورة» لتحقيق هذا الهدف، ومحاولة دمج تلك الأجناس وخلق حوار بينها، مستفيداً من معرفة واسعة إلى جانب موهبة نادرة، وتأكيد دائم على ضرورة التجديد مع الحفاظ على الروح المحلية، وهي معادلة لا يسهل تحقيقها خاصة عندما نتحدث عن الموسيقى الشرقية وخصوصيتها.

إرث أرشيفي هام

لا يقتصر إرث الراحل نوري إسكندر على تأليف الموسيقى وتعليمها، فقد عُرف عنه أيضاً انشغاله بتحليل وتوثيق التراث الموسيقي الشفوي السوري غير المدوّن، بهدف أرشفته بطريقة علمية صحيحة والحفاظ عليه من الضياع وهو أمر لطالما حدث على مر العقود في المنطقة نتيجة الحروب والنزاعات والأحداث الدامية.
ومن أبرز ما قدّمه في هذا المجال، أرشفة الألحان السريانية بطريقة منهجية وفق نظام الكتابة الموسيقية الحديث «التنويط» وقد جمع هذه الألحان ضمن كتابين حملا اسم «بيث كازو بالنوطة» أو «الموسيقى السريانية – كنز الألحان» برعاية المطران يوحنا إبراهيم، ويعتبر بمثابة جهد غير مسبوق في مجال تدوين وتوثيق الموسيقى الكنسية السريانية التي تعود إلى مدرستي الرها ودير الزعفران جنوب تركيا، مع التطرق إلى الألحان وأوزان الشعر السرياني وخصائصها. كما عمل خلال العقود الماضية مع الجالية السريانية في السويد، والتي انتقل للحياة فيها بشكل نهائي عام 2014، على تسجيل وأرشفة الموسيقى السريانية.
وأكّد إسكندر في أكثر من مناسبة ومقابلة، ونتيجة أبحاث طويلة ومعمقة في مفرداتها وعباراتها، على أهمية الموسيقى الآرامية والسريانية في المنطقة ككل، فهي ليست فقط الحامل لتراث الكنائس، لكن الأغاني الشعبية في مجمل المنطقة تأثرت بالأغاني والتراتيل السريانية، ومنها المواويل والعتابا والميجانا، كما أن الموسيقى الإسلامية في سوريا تحديداً متأثرة بنسبة كبيرة جداً بالموسيقى الآرامية السريانية المسيحية.
وقد حرص في كثير من الحفلات التي قادها على تقديم مزيج من التراث السرياني والتراث الإسلامي بمجال الموسيقى والغناء، وتوضيح مدى التقارب بينهما والذي يعكس تمازج الثقافات والحضارات الكبير في بلادنا. ومن هذه الحفلات «حوار المحبة» عام 1995 والذي قدم فيه ترانيم كنسية سريانية وأناشيد دينية إسلامية.

«خسارة كبيرة»

إثر إعلان نبأ وفاة نوري إسكندر، انتشرت شهادات من موسيقيين وفنانين وطلاب عرفوه في مراحل مختلفة سواء في حلب أو دمشق أو غيرها من المدن، معبّرين عن الخسارة الكبيرة التي يعنيها رحيله للمشهد الموسيقي السوري.
وكتب عازف الكمان باسل حريري: «في المعهد العربي للموسيقا في حلب، كنت أراه دائماً، أسمع صوته في الغرفة المجاورة يغني لحناً ما. كان حاضراً في المشهد دائماً، فرحاً بالأطفال مشجعاً لهم، كثير من الموسيقيين الشباب في حلب نالوا شرف العزف في أوركسترا الحجرة بقيادة الأستاذ نوري، لتقديم مؤلفاته التي أقل ما يقال عنها أنها منقذة لشتات هوياتي سرياني متناثر بين غرب سوريا في حلب وشرقها في الحسكة، جزراوي المولد، سرياني الانتماء، حلبي القلب والهوى. كان وفياً لما نذر حياته من أجله، برغم التعب والغربة القسرية، حمل معه لواء الموسيقى إلى السويد وغادرنا اليوم وما زال في ذاكرتنا أصداء من ألحانه الجميلة التي ترسم هوية ضائعة من أعرق الهويات الموسيقية في حلب والمشرق».
ونعته مجموعة «بيتنا السرياني» على فيسبوك إذ كُتب فيها: «برحيله تكون الأمة السريانية قد خسرت قامة موسيقية مبدعة وعلمية وفنية فذة. لم يبخل الراحل يوما ًفي تقديم خدمته وتعليمه ونشاطه وعمله تجاه الموسيقى والفن السرياني، فخدم وجاهد بكل كفاءاته وقدراته لخدمة التراث السرياني وإثبات الهوية الفنية الموسيقية السريانية».
كما كتب عازف العود أنس مراد: «شيخ الموسيقى، الذي نبش جذوراً دفنتها آلاف الأعوام، ليرسلها حيّة من جديد لآلاف قادمة من السنوات بمؤلفات تليق بمجدها».
وكتب الملحن والموسيقي مصطفى مليّس: «أخبرني والدي عن تجربةٍ موسيقيةٍ فريدة لشخصٍ يدعى نوري إسكندر، وأنه رافقه مراراً إلى الزاوية الهلالية في حلب للاستماع إلى جلسات الذكر الصوفية والغزلية، التي من خلالها يمكن فهم شخصية المقامات الموسيقية الشرقية والاطلاع على تفاصيل هذا الفن الصوفي الإسلامي. تعلمتُ من خلال الاستماع إلى ثلاثيات نوري إسكندر الوترية كيفية التأليف الموسيقي بطريقة تأملية صوفية لأسرة الوتريات ذات القوس، وكيفية معالجة فكرة الهوية القومية مع الموسيقى الأكاديمية ذات القوالب العالمية، وبناء موتيف موسيقي سوري له هوّية حقيقة بطريقة حديثة. لم يكن فهم نوري إسكندر لهويته السورية وقوميته السريانية مزيفاً، بل كانت نقطة تُحتسب لصالحه في زمن اللاقومية وضياع الهوية».

كاتبة سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية