كان من الطبيعي أن يتعرّض لموضوع الحب شكلاً وموقفاً: مسار الشعر الغنائي في أوروبا

عبد الواحد لؤلؤة
حجم الخط
0

الشعر الغنائي معروف منذ أقدم العصور، فقد ذكر أرسطو في كتابه «فن الشعر» ثلاثة أنواع من الشعر: الملحمي و]التمثيلي والغنائي. وقد بقي الشعر الغنائي أكثر ازدهارا من النوعين الآخرين. وأفضل الشعر الغنائي الأوروبي هو ما تخلّف من شعر سافو الإغريقية (620-550) ق.م. وذلك في104 جُذاذات. وشعرُنا، مما حفظه التاريخ العربي، ذو طبيعة غنائية في الأعم الأغلب، بدءاً من امرئ القيس والمُنَخّل اليَشكُري إلى أجداد نزار قباني الأندلسيين-الشوام، غنائي، حتى في الشعر السياسي. وفي الأندلس، وريثة المشرق ثقافياً، نشأ أول مصدر للشعر الغنائي الأوروبي الدنيوي، خارج حدود سلطة كنيسة الكاثوليك الرومية. وكان ذلك على يد كيّوم التاسع (1071-1127) أمير إقليم آكيتين، في منطقة بروفانس في الجنوب الغربي من فرنسا الحالية، شديدة القرب من الممالك الإسلامية في الأندلس، والمتواصلة معها على مستويات مختلفة وخاصة في المجال الثقافي ومن أهمها الشعر والغناء.
وكانت الحروب بين الممالك الأندلسية والإسبانية متواصلة. وكما يحصل في جميع الحروب يوجد أسرى من الطرفين. وكان الإسبان يفضّلون النساء العربيات المغنيات الشاعرات، الذين جمع منهم كيّوم الثامن عدة مئات في قصره، حيث نشأ ابنه كيّوم التاسع، الشاعر الذي أُعجِبَ كثيرا بهذا الشعر والغناء الجديد على أسماع أهل البلاد الإسبان. ولأن الفاتحين المسلمين من عرب وأمازيغ دخلوا البلاد دون زوجات وبدأوا بالزواج من الإسبانيات فقد نشأ جيلٌ يتكلم اللغتين: العربية مع الأب الإسبانية مع الأم. لذا أصبح من السهل فهم الأغاني العربية والموسيقى المصاحبة لها في الحفلات والأعراس، أو الحصول على ترجمة لها ممن يعرف اللغتين. في هذا الجو الشعري الغنائي نشأ أول شاعر أوروبي ينظم بلغة محلية عامية، تختلف تماماً عمّا كان ينظِم «المتعلّمون» باللغة اللاتينية، على قلّتهم، وفي موضوعات كنسية، ليس بينها القول إن الرجل يزداد نُبلاً إذا «وقع» في الحب.
ترك لنا الشاعر الشاب كيّوم التاسع وريث أبيه كيّوم الثامن في المُلك، إحدى عشرة قصيدة في الحب، تُشكِّل الثلاثة الأولى منها أهمية خاصة لأنها تستعمل القافية للمرة الأولى في أي شعر أوروبي. وتتحدث القصائد كلها عن الحب بشكل لا سابق له في الشعر اللاتيني مثلا، وليست موضوعاته مما ترضى عنه الكنيسة، بل إن هذه القصائد في شكلها ومضمونها تشبه الموشحات الأندلسية والزجل. وقد تبع هذا الأسلوب في كتابة الشعر عدد من الشعراء بلغوا أكثر من 400 في نهايات القرن الرابع عشر، كانوا يدورون بأشعارهم بين القصور ينشدونها بمصاحبة آلة موسيقية، فاكتسبوا إسم تروبادور، أي «الشعراء الجوّالون». ويرى بعض الباحثين أن الاسم تحويرٌ عن «طرب يدور». ولكن الأهم من الاسم هو هذا الموقف الجديد من الحب وآثاره في شخصية الرجل .
كان انتشار هذا النوع من الشعر مما أثار حفيظة الكنيسة، فتىجرّد له بابا باريس اينوسنت الثالث، «البريء»! وقاد حملة نحو الجنوب البروفنسي، الوثني، ليقضي على تلك الحضارة الغنية المزدهرة. وكان ذلك عام 1209 فتفرّق الكثير من الشعراء التروبادور، ومنهم من ذهب إلى الشمال الغربي من فرنسا (بريتاني) لينتقلوا بعد ذلك إلى انكلترا برعاية اليانور، حفيدة التروبادور الأول، كيّوم التاسع، التي أصبحت ملكة بريطانيا بزواجها من الملك هنري الثاني عام 1154 فأدخلت هذا النوع الجديد من الشعر إلى إنكلترا التي كانت تتكلم اللغة الآنكلوسكسونية، مع بدايات التاثر باللغة الفرنسية التي أدخلها ويليام الفاتح عام 1066.
وذهب شعراء آخرون إلى البلاد الجرمانية، إلى الشرق من بروفونس، لكن أغلبية الشعراء التروبادور الذين هاجروا ذهبوا إلى صقلية حيث كان الملك فريدريك الثاني (1194- 1250) يُعني بالشعر البروفنسي، كما أن أهل صقلية كانوا يفهمون لغة بروفونس وبعض شعرائهم يكتب بها. وهكذا انتشر الشعر الجديد على امتداد القارة الأوروبية.
كان من الطبيعي أن يتعرّض الشعر الغنائي في موضوع الحب شكلاً وموقفاً بسبب انتقال الشعراء من بلد إلى آخر، حيث يغدو هذا التراث المتكوِّن حديثا عرضةً إلى تأثير الموهبة الفردية عند الشاعر في البلاد المختلفة. موقف شاعر التروبادور من تقديس المرأة تطوّر عند دانتِه آليكييري في قصيدته الكبرى «الكوميديا الإلهية» إلى شخصية بياتريجة دليلة الشاعر في السماء. وتعلّق الشاعر بالحبيبة الفعلية أو المُتخيّلة، بلغ آماداً لا يمكن تصوّرها إلاّ في الخيال الشعري. هذا شاعر تروبادور»وقع في غرام» كونتيسّة طرابلس، من دون أن يراها، لكنه سمع عن جمالها، فقرر أن يذهب إليها، فنزل جنوبا إلى البحر الأبيض المتوسط، وركب البحر قاصدا طرابلس على الضفة الأخرى، لكنه غرق في الأمواج ولم يعُد يسمع به أحد. وهذا تروبادور ملك، وقع في غرام «زهرة سوريا» ولكنه لم يستطع الذهاب الى تلك البلاد البعيدة، فبقي في شوق ولوعة، ولا يدري أحد ما حلّ به منذ تلك السفرة الحمقاء.
الموضوع الرئيس في شعر التروبادور الجوّالين هو الحب، ولكنه حُب يقدِّس المرأة ويقف على النقيض من موقف فلاسفة الإغريق، كما نجد عند ديموستينس الإغريقي أو أوفيد اللاتيني أو القديس أوكستين، الذين لا يجدون في المرأة سوى اللذة الجسدية؛ بل إننا نجد ما يذكِّرنا بموقف الشعراء العرب من المرأة، حتى عند الخلفاء مثل هارون الرشيد، الذي كتب الشاعر العبّاس بن الأحنف على لسانه: ملكَ الثلاثُ الآنسات عِناني/ وحَلَلن من قلبي بكلِّ مكانِ. فنجد التروبادور الأول يقول: «أوَدّ أن أُلقي بنفسي إليها/ لكي تشملني في سجِلّ عشّاقها/ولا تحسبنّي بسبب ذلك ثملاً/ إن كنت ُأحب سيدتي /لأنني من دونها لا أقوى على العيش…». لكن الحب عند الشعراء التروبادور لا يقصِّر عن حب امرأة مُتزوّجة، لذا أطلق عليه الباحث الفرنسي كاستون باريس أسم «الحب البلاطي» وهو مما يحدث في كثير من بلاطات الملوك. وقد انتشر هذا النوع من الشعر في عدد من البلاد المجاورة لإقليم بروﭭونس وامتدّ الى صقيليا ثم حَمَله الامبراطور فريدريك، مع البلاط الكبير بشعرائه الثلاثين إلى الجنوب الإيطالي، ومنه التقطه الشاعر الإيطالي جياكومو دا لَنتيني المُتوفّى عام 1246 وابتكر له شكلا من 14 بيتا أطلق عليه اسم «سونيتّو» أي الأغنية الصغيرة. وقد استهوى هذا الشكل من قصائد الحب أبرز شعراء العصر مثل بتراركا وقلّده كثيرون في إيطاليا ثم انتقل هذا الشكل إلى عدد من شعراء إيطاليا وما جاورها حتى وصل إلى إنكلترا على يد الشاعرين وايات وسَري وثم أخذ عن ترجماتهما شكسبير فطوّر «السونِتو» إلى «الغنائية» وكتب 154 منها أصبحت المرجع والمثال في كتابة الشعر الغنائي في الإنكليزية وتَبعَه في ذلك عدد من شعراء أوروبا.
تطوّر الموشّح والزجل في الشكل والموقف من الحب خلال رحلة طويلة بدأت في الأندلس، تبيّن، لدى التحليل والنظر غير المتحيِّز، أن الجذور الأولى قد أينعت إلى غنائيات الحب عند شكسبير والشعراء الفرنسيين في القرن التاسع عشر.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية